سفر غير منتظر
ففي يوم من أيام شهر فبراير (شباط) سنة ١٨٨٣، جاءَ شفيق منزل الباشا وعلى وجهه أمارات الانقباض، فعلمت فدوى بمجيئه، فبعثت إلى والدها أن يأتي به إلى قاعة دار الحريم، فجاءا، فلما رأت فدوى شفيقًا على تلك الحال بادرته بالسؤَال عن السبب، فتبسم يريد إخفاء ما يخامر ضميره، فلحظت منه ذلك، فسألته عن سبب اضطرابه فقال: ليس ما يوجب الاضطراب يا عزيزتي.
فقالت (وهي تصلح طرف اليشمك): يظهر على وجهك من الاضطراب ما لا يخفى علي.
فقال مبتسمًا: أليس عارًا على رجال الجهادية أن يضطربوا من المسير إلى الحرب؟
فقالت: وما هذا الأسلوب في خطابك؛ ألعلك ذاهب إلى الحرب؟
فقال: وعلام إذن نتقلد هذه العلامات وهذا السلاح. وأشار إلى السيف.
فرجفت تلك المسكينة وتلعثم لسانها، والتفتت إلى والدها وقد اغرورقت عيناها بالدموع قائلة: اسأله يا والدي عما يقصد بهذا؛ فإني لا أستطيع كلامًا.
فقال شفيق وقد ضحك مستهزئًا وامتلأت عيناه بالدموع: ليس لنا فخر يا عزيزتي إلَّا بالحرب. نعم، إني ذاهب إلى حرب.
قالت: وإلى أين؟
قال: إلى الأقطار السودانية.
فصاحت بالرغم عنها تندب سوء بختها: أأنت ذاهب؟ وشرعت في البكاء، فأخذ يخفف عنها ويهون عليها، ولكن عبثًا كان يسعى في تخفيض اضطرابها وقد كادت تغيب عن الوجود.
فقال الباشا: وكيف كان ذلك؟ وما سبب هذه الحرب الآن؟
قال: لا يخفى على سعادتك أن الأقطار السودانية ما برحت منذ افتتحها المغفور له محمد علي باشا؛ مؤسس العائلة الخديوية، تحت كنف الحكومة المصريَّة، ينتفع القطر من تجارتها بالعاج والريش والصمغ وغير ذلك، فظهر فيها في أواسط سنة ١٨٨١ رجل نوبي، يقال له محمد أحمد، يدَّعي أنه المهدي المنتظر، فالتفَّت حوله عصابة قوية عرفوا بالدراويش، وجاهروا بعصيان الحكومة، فحاولت قمع ثورتهم مرارًا فلم تفلح، فاستفحل أمرهم حتى استولوا على مديرية كردوفان، واحتلوا الأُبيِّض عاصمتها، فشق ذلك على الحكومة المصريَّة، واعتبرته الحكومة الإنكليزية أمرًا مؤذنًا باضطراب حال الأمن في البلاد، فانفتح لها باب لإطالة مدة بقاء جيشها في مصر، مع حق الإشارة على الحكومة المصريَّة بما تتخذه من الاحتياطات، فأشارت عليها بإرسال حملة مصريَّة لإنقاذ الأبيض تحت قيادة قائد إنكليزي اسمه هيكس باشا، فأعدت الحملة. وستسير من هنا بعد يومين قاصدة الخرطوم؛ لتتحد هناك بحامية الخرطوم، ويسير الجميع إلى إنقاذ الأُبيِّض. ولما كنتُ من الضباط الإنكليز المنتظمين في خدمة الجيش المصري دُعيت لمرافقة تلك الحملة.
فلما أتمَّ شفيق حديثه لم تتمالك فدوى عن الصياح قائلةً: أأنت ذاهب إلى الأُبيِّض إذن؟ قال: نعم.
قالت وقد أخذتها الرجفة وغلب عليها البكاء: ما هذا يا إلهي؟ السفر إلى الأُبيِّض. إن تلك البلاد لا يسلكها الناس في حال السلم، فكيف في حال الحرب؟ ثم تنهدت وأكبتْ على البكاء.
فقال لها شفيق: لا تكثري من الحزن؛ فإني ذاهب إلى الحرب، وسأعود بخير — بإذن الله — وأكتسب فخرًا. وأظن هذا مما يسرُّك.
فقالت: لا كان فخرٌ هذا مصدره. دع عنك هذا الفخر؛ فإنه مخيف، واستعفِ من الجيش ولا تذهب في هذه الحملة؛ رفقًا بحياة هذه المسكينة، فرمقها شفيق بنظر المستهام، واضعًا يده على قبضة سيفه وهو يبتسم قائلًا: إني لم أتقلد هذا السيف إلَّا باسمك يا فدوى، فكيف أنزعه عني وقد أصدقني الصداقة، وأنالني شرفًا، وسيزيدني، بإذن الله.
فقالت: أشفقْ يا شفيق على والدتك المسكينة إن كنت لا تشفق على غيرها.
فاغرورقت عيناه بالدموع وقال: والله إني لا أعرفني على من منكما أكثر شفقة: أعلى التي حملتني في جوفها أشهرًا، وضمتني إلى صدرها سنتين، أم على من ألقت بنفسها إلى القتل من أجلي؟ ولكن دعيني من هذا الكلام، فإنه لا يليق بي وأنا ذاهب إلى حرب. فلندع عواطف الحب جانبًا، ولنتمسك بالواجب؛ فإني أمرتُ بالسفر إلى الأُبيِّض، ولا يسعني مخالفة الأمر، على أنه لو وسعني ذلك ما فعلتُه محافظةً على شرفي؛ لئلا يقال إني خفتُ الحرب، والأعمارُ والأرزاقُ بيد الله.
فألقت فدوى رأسها على يدها وجعلت تمسح دموعها باليد الأخرى، ولبث الجميع صامتين برهة يفكرون.
ثم قال الباشا: إذا كان لا بد من سفرك فصبرًا جميلًا.
فرفعت فدوى رأسها منادية: لا لا، لا أظن قلبه يطاوعه على السفر.
فقال شفيق: لو أردت مطاوعة قلبي يا عزيزتي ما كلفتك هذا العناء، وإنما هو الشرف والشهامة اللذان أنا عبدٌ رقٌّ لهما. والآن، ما لنا وللخوض فيما لا فائدة لنا منه؛ فقد جئتكم مودعًا. وأما عن القلب وما أصابه، فلا تسألوا؛ فليس لنا إلَّا التمسك بالصبر الجميل، والاتكال على الله.
ثم التفت إلى الباشا قائلًا: وأما وصيتي لك يا سيدي، فالعناية بوالديَّ إذا جاءا القطر أثناء غيابي، وأما أنتِ يا عزيزتي، فلا تحتاجين إلى الوصية، وإنما أطلب إليك أن تسمحي لي برسمك حتى أستأنس به في سفري، إذا أمر بذلك سعادة والدك، ثم مدَّ يده إلى جيبه وأخرج رسمه، وناولها إياه قائلًا: وهذا رسمي يبقى عندك تذكارًا ريثما أعود، إن شاءَ الله.
فأخذت فدوى رسمه بعد أن استأذنت والدها وهي تبكي، ولم تستطع النهوض حتى تأتيه برسمها إلَّا بعد العناء، فسارت وركبتاها ترتجفان، ثم عادت فناولته رسمها فتأمَّله، وإذا هو رسم فوتوغرافي كثير الشبه بها؛ يمثلها جالسة على كرسي ملثمة باللثام التركي كأنها تمعن في شيءٍ، وفي يدها شيء، فتأمَّله، فإذا هو الزر الذي أعطاها إياه تذكارًا. وبعد أن تأمل الرسم مدة، وضعه في جيبه. وكان يريد تقبيله، فمنعه الحياء. أما هي فكانت تنظر إلى الرسم ولا تتمالك عن البكاء.
ثم رأى شفيق أن مكثه أكثر من ذلك ربما زاد الطنبور نغمة، فنهض وقبَّل يد الباشا، فقبَّله وعيناه تدمعان، ثم مدَّ يده إلى فدوى وضغط على يدها قائلًا: أرجو أنك لا تنسين شفيقًا. فخنقتها العبرات ولم تستطع جوابًا.
فقال وهو يخرج يده من يدها: عسى أن تجمعنا الأقدار ثانية، فننسى هذه الأكدار وخرج تاركًا فدوى في حالة يرثى لها من القلق والاضطراب، فأخذ والدها يطيب قلبها ويهون عليها، وكذلك والدتها، حتى سكن روعها.