الجاسوس إلى المتمهدي
أما ما كان من أمر هيكس وجماعته، فإنهم وصلوا بربر ومنها ركبوا في بواخر النيل، فوصلوا الخرطوم في أول مارس من تلك السنة، وكان شفيق قد اكتسب ثقة هيكس باشا ومحبته؛ لما اتصف به من الشهامة، ولمعرفته اللغة العربية وشدة احتياج هيكس إليها في تلك الجهات.
فلما وصلوا الخرطوم خرج حكمدارها لملاقاتهم في حاشيته ورجال حكومته، وأنزلهم في سراي أعدت لهم. والخرطوم عاصمة السودان ومقر حكومته، وهي واقعة على الشاطئ الشرقي للنيل عند نقطة التقاء البحرين الأبيض والأزرق، وهي أكبر مدن الأقطار السودانية. ونزل شفيق في غد وصولهم لمشاهدة المدينة، فإذا هي آهلة وفيها ديوان الحكمدارية، والمجلس المحلي، واسبتالية، وأشوان، وجبخانات، وتلغراف، وقيساريات، ووكالات يباع فيها أنواع البضائع الإفرنحية والسودانية، وفيها حدائق كثيرة الأشجار من الفاكهة؛ كالليمون، والبرتقال، والعنب، والرمان، والتين، والقشطة، والخوخ، والتفاح، وشاهد فيها من الصُّياغ من لهم مهارة خاصة في عمل الفناجين من الأسلاك.
وبعد مضي ثلاثة أسابيع من وصول هيكس، جاءتهم سرية من الجند المصري من القاهرة، وجاءتهم سرية أخرى معظم مَن فيها من ضباط الجند العرابي.
وكان شفيق لحسن فراسته لا تفوته فائتة لما تستلزمه الأحوال، فاجتمع يومًا بهيكس باشا، فإذا به جالس في حجرته يكتب كتابًا إلى لندرا، فجلس يطالع بعض الجرائد الإنكليزية التي كانت قد جاءتهم مع الحملة، فلما أتم هيكس الكتابة رحب بشفيق، وأخذا بأطراف الحديث، فقال هيكس: لا أرى هؤلاء الدراويش يستطيعون منازلة جنودنا إلَّا مدة قصيرة، فقال شفيق: يا حبذا ذلك، ولكني أرى يا سعادة الباشا أن جندنا لا يصلح لهذه المهمة.
فقال هيكس: ولماذا؟
قال: لأن معظم ضباطه من الذين كانوا في جيش عرابي وهم لم يأتوا إلينا إلَّا مكرهين؛ ظنًّا منهم أنهم سيقوا إلى هنا إبعادًا لهم عن الديار المصريَّة.
قال: يا للعجب! إني أراهم يطنبون في محبتهم للخديوي ومصلحة البلاد.
قال: لا يغرنك ذلك؛ فإني سمعتهم يتحدثون بما أقوله لك الآن، وهم يجاهرون بأفكارهم أمامي ولا يحاذرون؛ لأنهم لا يعلمون أنني أعرف اللغة العربية؛ اغترارًا بالزي الإنكليزي الذي ألبسه، فكن منهم على حذر.
فقال هيكس: ولكن ألا تظن أنهم أشد بطشًا من هؤلاء السود؟
فضحك شفيق وقال: اعلم يا سعادة الباشا أن السودانيين إذا تدربوا على الجندية كانوا أشد بأسًا من هؤلاء كثيرًا؛ لأنهم صبورون على الأهوال، ثابتون في مواقع القتال.
فوقع هذا الكلام لدى هيكس باشا موقع الاستحسان، وازداد حبًا لشفيق ورغب في تقريبه منه.
أما شفيق فلم تذهب صورة فدوى من ذهنه لا ليلًا ولا نهارًا مع ما كان فيه من القلق والاضطراب، وكان رسمها أعظم تسلية له في ساعات الانفراد. وقد كان يخاطب نفسه مرارًا قائلًا: هل يقدر لي العود إلى بلادي مرة ثانية فأتخلص من هول هذه الحملة، وأرى فدوى ووالديَّ. وكان كثيرًا ما يبكي منفردًا كلما يتصور عدم عوده إلى تلك البلاد.
وكان هيكس حيثما سار يصطحب شفيقًا ويستشيره في كثير من الأعمال، فكان ذلك مدعاة لسرور شفيق؛ آملًا أنه ينال بذلك حظوة في عيني كبار الإنكليز، فينال الرتب والألقاب مرضاة لحبيبته، وليس طلبًا للفخر بنفسه؛ لأنه كان لا يبالي بأمجاد الدنيا الباطلة، ولكنه كان يرى أنه إذا نال فدوى وهو أقلُّ منها مقامًا، فلا يهنأ له عيش.
وبقي هيكس باشا في الخرطوم يبعث يومًا بعد آخر سريات من الجند لمقاتلة بعض العصاة في أماكن مختلفة إلى أن عقد النية على المسير لافتتاح كردوفان، وإنقاذ الأُبيِّض عاصمتها من المتمهدي وجنوده.
فبعث الجواسيس يستطلعون طلع العدوِّ، فصاروا يأتون إليه بالأخبار المختلفة المتناقضة، فوقع في حيرة لا يعلم الصحيح منها، ورابه أمر الناقلين لها. وبينما هو في الافتكار دخل عليه شفيق فقص عليه ما هو فيه من التردد، فقال: وما العمل الآن؟ قال: لا بدَّ لنا من رجل نثق به يستطلع لنا أحوال العدو، وإلا فإننا في خطر على حياتنا.
فأطرق شفيق هنيهة ثم قال: وما رأيك إذا كنت أسير أنا في هذه المهمة؟ قال هيكس: إنك أقدر الناس على ذلك لمعرفتك العربية، ولاطِّلاعك على عوائد هذه البلاد، وإذا فعلت فإني أذكرك لدى نظارة الحربية، فتنال مكافأة عظيمة، ولكن الأحسن ألا تلقي بنفسك إلى التهلكة.
قال: إني لم آتِ إلى هذه الديار إلَّا للقتال:
وإنما أسألك أن تكتم أمر ذهابي عن كل أحد.
وكان شفيق قد تعلم لغة عرب السودان، وعرف كثيرًا من عوائدهم، فأزمع الذهاب متنكرًا بلباس المغاربة، فلبس جبة فوق قباء طويل، واعتمَّ عمامة بيضاء، واحتذى حذاءً كحذاء المغاربة، وحمل السبحة بيده، وعلق الغليون بمنطقته، وجاء بجملين خفيفين؛ واحد لركوبه عليه رَحْلٌ خفيف، علَّق بكلٍّ من جانبيه قربة ماءٍ، وتقلد سيفًا سودانيًّا، واصطحب دليلًا كان في الخرطوم في مثل لباسه وحاله، وركب الاثنانِ وسارا جنوبًا يريدان الأُبيِّض، بعد أن حمَّل شفيق جملًا آخر عدة أجربة وأكياس فيها أنواع العطارة، متظاهرًا بأنه تاجر مغربي يطوف البلاد للاتجار بأصناف العطارة.
أما رسم فدوى فجعله في كيس وعلَّقه حول عنقه تحت ثيابه احتفاظًا به؛ لأنه مُعزِّيه الوحيد في تلك الأنحاء، فخرج من الخرطوم في أوائل سبتمبر سنة ١٨٨٣ ولم يعلم به أحد، وفي غد يوم خروجه خرجت حملة هيكس تريد الدويم تحت قيادة هيكس باشا وعلاء الدين باشا؛ حكمدار السودان.
وكان مسير شفيق من جهة، ومسير حملة هيكس من أخرى، على أن يلتقيا في جهة مورابي عند أول خور أبو جبل.
أما شفيق فكانت جهة مسيره بعيدة من مجرى النيل، فكان يتخذ ماءه من الآبار في الصحراء، وكلما مرَّ بربع من العرب بات عندهم، وباعهم الطيوب، وحادثهم في شئون المتمهدي.