أسير المتمهدي
فلما دخل البلد أخذ يطوف به ويستطلع أحواله ويسأل عن قوات المتمهدي، فلما دار البلد إذا بأماكنه مبنية بالآجر طبقة واحدة، وهي متفرقة ليست على انتظام واحد، وإنما شاهد كل جملة منها متجاورة بينها وبين جملة أخرى فضاء، وفيه مساكن مصنوعة من القش يقال لها عندهم تكول، يسكنها من لا قدرة لهم على البناء بالطين، ثم وصل ديوان الحكومة فإذا هو مبنيٌّ بالآجر، وفي وسطه فضاء يقيمون فيه الصلاة، ولم يشاهد في الأسواق من أرباب الصناعة غير الحدادين والصاغة، فعلم أن سائر أهلها يتعيشون بالتجارة في ريش النعام والصمغ والتمر هندي وسن الفيل. أما ماؤهم فمن آبار عميقة يبلغ عمق بعضها ١٧ قامة.
وبعث دليله يتخذ له منزلًا ينزل فيه للمبيت، فعاد بعد هنيهة مصحوبًا بزمرة من الدراويش، فلما وصلوا إلى شفيق قبضوا عليه وأوثقوه، وساروا إلى ديوان الحكمدارية، وفيما هو في الطريق ظن بعض الناس أنه رسول من قبل السنوسي في المغرب لمشابهته المغاربة شكلًا — وكانوا قد شاهدوا رسولًا مثله جاء من السنوسي، بعد أن كتب إليه المتمهدي يُسمِّيه خليفة من خلفائه، ولكن السنوسي لم يقبل ذلك، ولا آمن بمهدويته — فلما رأى أهل العبيد شفيقًا موثقًا ظنُّوه رسولًا يحمل خبر سوء أو ما شاكل، وظنه آخرون جاسوسًا من الجنود المصرية. فلما وصلوا به مجلس المتمهدي تناوله بعض الأمراء وسأل عن أمره، فقيل له: إنه جاسوس من قبل الترك، فأخذوه إلى الخليفة، فلما رآه توسم في وجهه النباهة، وتعجب من جراءته؛ لأنه لم يظهر عليه خوف، فأحب أن يراه المتمهدي عينُه، فأوقفه خارجًا ودخل قاعة المتمهدي وقال له: إن في الباب جاسوسًا يظهر عليه مظهر خلاف سائر الجواسيس، فهل تريد أن تراه؟ فأذن في إدخاله عليه، فدخل فلاقاه جماعة الملازمين على الباب، فأدخلوه المجلس فإذا في صدره المتمهدي على «عنقريب» فيما تقدم من اللباس، وبين يديه الأمراء جلوس الأربعاء مطأطئي الرءوس بكل احترام ووقار، والسكوت مستولٍ على تلك القاعة. وكان شفيق قد أيقن بالهلاك، وعلم أن تلك دسيسة من دليله، ولكنه تجلد وأخذ يفكر في وسيلة للنجاة من هذه الورطة. فلما وصل مجلس المتمهدي أوقفوه بين يديه، فأحس بهيبة ذلك الرجل وسطوته، ولكنه تجرأ ووقف وهو لا يزال في لباس الدراويش ينتظر أمر المتمهدي، فخاطبه قائلًا: ما الذي جاء بك إلى هذه الديار؟
قال شفيق: قد جئت بقضاء من الله — سبحانه وتعالى.
قال: ولكنك لا تعلم أننا لا نؤخذ بالدسائس، وقد قيض الله دعوتنا ومنحنا الغلبة على القوم الكافرين.
قال شفيق: إن القدرة لله يهبها لمن يشاء من عباده.
فأعجب المتمهدي جوابه، فقال: ولكنه ألم يقل: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ.
قال شفيق: نعم، قد قال ذلك، ولكنه قال أيضًا: مَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.
فقال المتمهدي: أتعلم أنك الآن في قبضة يدنا، ولو أردنا قتلك لما كلَّفنا ذلك غير إشارة.
قال: أعلم ذلك، وأعلم أن الموت والحياة بيد الله.
فقال: قد كنت عازمًا على قتلك، وقد أعجبني وثيق إيمانك، فهل أنت مؤمن بما دعانا الله تعالى إليه من المهدوية، أو أنت على ما أصحابك عليه من الكفر المبين؟
قال: إذا أذِن لي مولاي قلت: إن الكفر ليس من أوصاف الموحدين، وما في أصحابي إلا كل موحد مؤمن يؤمن بالله وبرسوله وبيوم الدين.
قال: إنك مستوجب القتل بمقتضى الشرع؛ لأنك جاسوس جاء يستطلع أحوالنا، وقد جاء بك إلينا من نال أجره في الدنيا وفي الآخرة، ولكن لا بد من إيثاقك لعلَّنا نؤانس منك نفعًا.
قال: لله الأمر يفعل ما يشاء، وهو على كل شيء قدير، ولو قدر الله قتلي ما أمسكت عنه، فإن كل شيء بقضاء وقدر، وأنا لم أعمل إلا ما أستوجب من أجله الثناء؛ لأني أقمتُ بأمر مولاي، كما أقام رفيقي هذا (وأشار إلى دليله) بأمر مولاه، وقد قال في كتابه: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.
فقال المتمهدي: خذوه إلى السجن موثقًا حتى نرى ماذا نعمل به.
فقال شفيق: حيَّا الله مولانا وبيَّاه. إن الوثاق لا يزيد شيئًا من لوازم الحجر عليَّ؛ لأني لو أطلقتم سبيلي ما استطعت العود وحدي، فلتتركوني محلول الوثاق كواحد من رجالك؛ لعلي أستطيع خدمة لكم.
فزاد شفيق كرامة في عيني المتمهدي، فأمر بعض مَن في حضرته أن يذهب به إلى حجرة يحفظه بها تحت الحجر، فخرج شفيق ينفض غبار الموت عن وجهه، وقعد يندب سوء حظه ويلعن ذلك الخائن الذي خانه وألقاه في هذا الضيق.
فساروا به إلى حجرة ينام فيها بعد أن جاءوه بالطعام، فتناول العشاء ثم تركوه في الحجرة وقد أظلمت الدنيا، فجلس على الأرض وأفكاره تتقاذفه كخشبة تتقاذفها الأمواج، وأخذ يتأمل فيما مر به من الأخطار، وما لا يزال يخشاه، وخطر على باله فدوى، فخفق قلبه وجلًا عليها لئلا تحزن على طول غيبته، واشتد به الشوق حتى بكى، وأراد أن يخرج الصورة لمشاهدتها، ولكنه علم أنه في ظلمة وإخراجها عبث، ولكنه مع ذلك أخرجها وأخذ يقبلها ويبكي، ويخاطب نفسه كل ذلك الليل نادبًا سوء حظه، وطالبًا إلى الله تعالى أن يخفف حزن والديه وخطيبته.