غوردون والمتمهدي
فقال شفيق: وماذا عسى أن يكون ذلك الفرج ونحن بعيدون عن نظر الحكومة، ودون الوصول إلينا خرط القتاد؟
قال حسن: تمهل يا أخي، ليس على الله أمر عسير، فها إن الحكومة الإنكليزية قد قررت إرسال غوردون باشا إلى هذه الديار لإخماد الثورة وتلافي الأحوال، وأنا واثق أنه يفوز، بإذن الله.
فقال شفيق: ومن قال لك ذلك؟ وكيف وصلتك هذه الأخبار؟
فتبسم حسن قائلًا: أتظن المهدي غافلًا عن استطلاع أحوال عدوه، فإن له في نفس القطر المصري، بل في القاهرة جواسيس وأرصادًا من أعيان القوم؛ يبعثون إليه بالكتب والأخبار عن كل أحوال البلاد؛ ففي مساء أمس وصلنا رسول بكتاب من أحد أعيان الصعيد ينبئ بعزم الحكومة الإنكليزية على إرسال غوردون باشا بلا جيش لتدبير هذه المسألة.
فقال شفيق: كيف يمكن تلافي الأحوال وقد آمن بالمهدي أهل السودان كافة، وهو لا يقبل أمرًا إلا إذا مُنح مطالبه؟! ونيل تلك المطالب يقضي بزوال السلطة المصرية، فإن الرجل طامع بكرسي مصر، بل بكرسي الآستانة، وإن شئت فقل إنه لا يقنع إلا بفتح العالم، ولا سيما بعد أن ساعدته التقادير في عدة وقائع. ولا يخفى عليك أن ما حل بجيش هيكس المنكود الحظ لم يكن إلا تنشيطًا لمشروع هذا المتمهدي؛ لأنه صرح في منشوراته إلى أتباعه مرارًا أن من علامات المهدوية عدا الخال الذي على خده أن النصر يرافقه حيثما توجَّه، وأن علمًا أبيض يتقدمه حيثما سار لجهاد، وهو الضامن له الفوز. وقد رأيت أن جميع حروبه مع الجنود المصرية جاءت بنتائج أيدت دعواه، فإذا راجعت تاريخ ظهوره منذ كان فقيهًا يعلم الناس الصلاة والعبادة في جزيرة أبا كسائر الفقهاء، حتى بلغ نفوذه هذا المبلغ، وانتشرت سطوته في سائر أقطار السودان، رأيت أن التقادير كانت تساعده وتوفق مساعيه تأييدًا لدعوته، فإذا كانت الحكومة لم تقدر على تلافي هذه المسألة عند أول دعوته في جزيرة أبا، وهو وحيد ليس حوله إلا بعض طلبة العلم القليلين، فكيف تستطيع ذلك الآن؟ وهل تظن أن الذي رفض المجيء من أبا إلى الخرطوم، وهي أول مرة دعي بها وحوله نفر قليل ليس فيهم محارب، يقبل الآن بوفاقٍ ما، بعد أن ثبتت دعواه لدى أهل السودان أجمع.
فقال حسن: لا أنكر عليك يا أخي أن استفحال أمر هذا الرجل إنما كان لاستخفاف الحكومة المصرية به من أول الأمر، فلما ظهر بدعوته في جزيرة أبا بعثت إليه حكمدارية الخرطوم نفرًا من العلماء يأتون به إلى الخرطوم، فأصابهم ما أصابهم من الإهانة، فعادوا خاسرين، ولم يكن ذلك ليفهم الحكومة ما يخشى من عواقب هذه الجرأة، فبعثت إليه نفرًا قليلًا من الجند، فقتل معظمهم وعادوا خاسرين، وكانت الحكومة بذلك مستخفة به، وأما هو فقام لدى عموم أهل السودان بدعوة الدين، متظاهرًا بأن قصده الوحيد إنما هو تشييد الديانة الإسلامية؛ لأنها — على زعمه — قد أهملت بعد وفاة الصحابة، وكان يمثل لهم ما حاق بهم من الاستبداد، وينسب ذلك إلى إهمالهم العبادة والصلوات، فرأوا في ذلك إخلاصًا وتقوى، فتاقت نفوسهم إليه، ثم لما رأوا ما كان من فوزه على أوامر الحكومة ازدادوا ثقة به وبدعوته، حتى آل الأمر إلى ما ترى من الاستفحال. وهذا أمر لا أنكره عليك، ولكن لا يخفى عليك أن غوردون باشا لا يقل اعتبارًا في عيون أهل السودان عن المتمهدي؛ لأنه تولَّى حكمدارية السودان مرة، وأظهر من العدل والحنو والرأفة واللطف والدعة ما حبَّب الناس إليه حبًّا يقرب من العبادة، فهو الذي حرَّرهم من الاسترقاق، فمنع بيع الرقيق، وبيَّن لهم المساواة بين بني الإنسان، فأنا أثق أنه إذا جاء الآن فلا يعجز عن تلافي مسألة المتمهدي بوجه من الوجوه.
فأنغض شفيق رأسه وقال: آه يا أخي! إنك ذكرتني في حديثك هذا بمسألة عرابي وحزبه، فإن قيام هؤلاء الأجناد كان على طريقة تشبه قيام المتمهدي تقريبًا؛ لأن منح الحرية لجماعة قبل أوانها تضر بهم ضررًا لا يأتي به الاسترقاق. واعلم أن غوردون باشا قد أوجب بتحرير هؤلاء السودانيين استعباده لهم، واستفحال أمرهم، كما ترى، ولا أظنه إذا جاءهم الآن يؤثر فيهم شيئًا، بعد أن بايعوا محمد أحمد مبايعة مقرونة بالقسم العظيم على الطاعة والجهاد، ورأوا من صدق أنبائه بالحروب ما أيد الدعوة، ولا سيما وأنه قد استحوذ على عدة من القواد الأشداء؛ مثل: ولد النجومي، وأبي عنجر، وأبي جرجة، وخلفائه: ولد الحلو، وعبد الله التعائشي، ومحمد الشريف، وقائده عثمان دقنا، الذي أتى المعجزات بحروبه في السودان الشرقي، وغير هؤلاء من القواد العظام، فإذا كنت آملًا أن تعود إلى وطنك بمساعي غوردون باشا، فلا أظنك تنال مرامًا، على أني لأعجب غاية العجب من إرسال هذا الرجل وحده في هذه المهمة التي قصرت دون حلها الجيوش الجائشة. أتعجز الحكومة المصرية عن قبر هذا الرجل بالسيف على يد جند منظم مخلص لحكومته، لا كجيش هيكس باشا الذي كان معظمه من الجيوش العرابية؟
قال حسن: لا أظنها تعجز عن ذلك، ولكنها لا تستطيع أن تفعل غير ما تشير به دولة إنكلترا، فإنها هي التي أشارت عليها بإخلاء السودان وإرجاع الحامية من الخرطوم وغيرها، ولما لم توافقها الوزارة المصرية أصرت على وجوب الإخلاء، فاستعفت الوزارة الشريفية، وانعقدت الوزارة النوبارية، وهي التي صادقت على إخلاء السودان، فأنفذت إنكلترا غوردون باشا لكي يرجع الحاميات ويعيد السودان إلى حكامه الأصليين الذين كانوا قبلما فتحه محمد علي باشا.
فقال شفيق: هب كل ذلك صحيحًا، فما الذي يترتب عليه من النفع لنا إذا كان غوردون آتيًا لاسترجاع الحاميات، فليس هنا حاميات لاسترجاعنا معها.
فقال: حسن، اتكل على الله، واليوم خمر وغدًا أمر.
قال شفيق: أنا لم أتَّكل على سواه في كل أعمالي، وهو لا يترك عثرة في طريق المتكِّل عليه.