رسل غوردون إلى المتمهدي
وما لبث برهة حتى سمع صوت النقارة تضرب ضرب الاستعراض، فخرج بلباس الدراويش إلى ساحة خارج البلد؛ حيث تستعرض الدراويش، وهو يفكر فيما عسى أن يكون سبب ذلك الاستعراض، فالتقى بحسن فسأله عن سبب ذلك، فعضَّ على شفته السفلى كأنه يقول له: تمهل سأخبرك بعد الآن. فخفق قلبه وخاف أن يكون في الأمر ما يخشى منه، ولم يصدق ساعة انقضى الاستعراض وعادت الجيوش إلى أماكنها، وكذلك الأمراء، وأما حسن فسار بجانب شفيق حتى إذا تنحَّيا عن الجمع قال حسن: ألم تشاهد الرجل الذي جاءنا اليوم بلباس غير لباس الدراويش؟ قال: لقد رأيته محاطًا بالخفراء فظننته أسيرًا جيء به لبعض الاستعلامات، قال حسن: إنه ليس أسيرًا، وإنما هو رسول من غوردون باشا من الخرطوم.
فقال شفيق متلهفًا: وهل جاء غوردون؟ وماذا يريد بهذه الرسالة؟
قال حسن: إنه بعث يقول للمتمهدي إنه جاء لإنقاذ المسلمين وفتح طريق الحج إلى البيت الحرام، مظهرًا رغبته في توطيد دعائم السلم، والوصول إلى المصالحة مع المتمهدي، طالبًا إليه أن يُطلق الذين في حوزته من النصارى والمسلمين من رعايا الحكومة. وقد أعطاه مقابل ذلك أن يكون مديرًا على كردوفان.
فقال شفيق: وهل تظن المتمهدي يجيبه إلى طلبه؟
قال: يا حبذا! فإننا نسير في جملة المطلقي السراح، ولكني لا أظنه يقبل بعد أن اتسع نطاق سطوته ونفوذه؛ ولذلك رأيته قد أمر بالاستعراض ليُبيِّن للرسول قوته إيهامًا له.
فقال شفيق: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وما تكون العاقبة في رأيك؟
قال: أظنها، بل أرجح أنها وخيمة على المصريين؛ إذ ليس أقل سياسة وتدبيرًا من إرسال هذا الرجل وحده من أقاصي المغرب إلى أواسط أفريقية ليخمد ثورة المتمهدي، التي جعلت السودان شعلة ثورة بلغ لهيبها أقاصي أفريقيا، حتى مس شعاعها أقطار آسيا، فلا أرى إلا أن المتمهدي يرفض ذلك الطلب؛ لأنه قد أيقن بالفوز، واعتاد رجاله النصر والاستخفاف بالجنود المصرية، بل بالحكومة المصرية؛ لكثرة ما أصابوا من الفوز والظفر في وقائعهم معهم كما علمت. وزد على ذلك أن السودانيين يكرهون الجنس التركي، ويلقبون كل من لبس الطربوش تركيًّا، وكانوا إذا رأوه ترتعد فرائصهم؛ لكثرة ما قاسوه من سلطتهم؛ ولذلك تراهم الآن ناقمين عليهم لا يثنيهم عنهم شيء، وإذا تأملت فيما كتبه غوردون إلى المتمهدي، ترى أنه مما يزيد طمعه بالنصر واستخفافه بعدوه، فإنه بعد أن أساء إلى الحكومة المصرية بقتل حامياتها، وسلب حقوقها، بعثت على لسان غوردون تولِّيه كردوفان بدلًا من أن تقتص منه، ولكن ذلك حكم القضاء؛ فإنه الله — سبحانه وتعالى — قد سمح باستفحال أمر هؤلاء، وله الأمر يفعل ما يشاء.
فقال شفيق: إنا لله وإنا إليه راجعون. لنصبر إلى الغد لعلنا نصيب خيرًا، بإذن الله، والله مع الصابرين.
وافترقا وعاد كلٌّ إلى شأنه. أما شفيق فما انفك يفكر في أمر كتاب غوردون وما يكون من جواب المتمهدي، وبات تلك الليلة يطلب إلى الله أن يجيب المتمهدي طلب غوردون. ولما كان يتصور ذلك كان يخفق قلبه فرحًا وتطلعًا إلى رؤية فدوى أو مراسلتها، ثم لاح له وهو في تلك الهواجس أنه ربما يستطيع إرسال كتاب إلى فدوى أو والديه مع رسول غوردون إذا لم يسمح المتمهدي بإطلاق أسراه.