إرسال الكتاب
فلما كان الصباح التالي بكر إلى الصلاة والمسير إلى حسن، فلما رآه ابتدره بالسؤال عما انتهت إليه إرادة المتمهدي في خطاب غوردون.
فقال حسن: لقد قلت لك إنه لا يقبل، وهكذا جرى، بل قد جرى أكثر مما قلت، فإن المتمهدي قال إنه لم يقم بجهاده رغبة في الدنيا؛ ولذلك لا يريد التسلط على كردوفان. ويؤخذ من مجمل كتابه أنه يطلب إلى غوردون أن يعتقد بمهدويته، وأخيرًا قال له: إن النصر مقدور له، وأن النبي ﷺ قال له: إن كل من يقوم عليه يسقط لا محالة، وأصحب الكتاب بحلة الدراويش، حتى إذا اقتبل غوردون الدعوة يلبس خلعتها.
فقال شفيق: ومتى يسافر الرسول؟ قال: يسافر في صباح الغد. وما غرضك منه؟ قال: لا غرض لي، وإنما سألتك ذلك من باب العلم بالشيء.
فقال حسن: اسمح لي أن أسألك ثانية عن غرضك بالرسول، وأظنك قد اعتقدت صدق نيتي، فإذا أخبرتني بوطرك ربما أستطيع غوثك.
قال شفيق: آه يا أخي! وتساقطت عبراته على الرغم منه، فسكت، فابتدره حسن بالكلام مخففًا عنه وقال: لا أصابك الله بسوء يا عزيزي. ما الذي يبكيك؟ أخبرني، قال: يبكيني تذكري والديَّ اللذين ربياني بدموعهما، وتركا الدنيا من أجلي، فإنهما لا شك يحسبانني في عالم الأموات، وقد لبسا عليَّ الحداد، وقطعا الشعور، وقرعا الصدور. ولم يعد يتمالك عن البكاء ثم قال: ولا تظن فيَّ جبنًا. إني والله صبرت صبر الرجال، واحتملت فوق ما يحملون، وأما القلب فلا سلطان لي عليه بعد ذلك.
فقال حسن: إننا جميعًا في مثل هذا المصاب يا أخي، فلا تذكرني بمن تركتهم ينتحبون عليَّ. وهذا قضاء الله يفعل بخلقه ما يشاء، فلك أسوة بغيرك، فإن في هذه البلدة كثيرين ممن أصابهم مثلما أصابك، وفيهم من ترك عائلته وأولاده يتضورون جوعًا، ويئنون على فراقه ويبكونه؛ ظنًّا منهم أنه فُقد وليس مَن يَعُولهم.
فتنهد شفيق وقال: أوَّاه يا حسن! إني لفي أحوال تخالف أحوال أولئك، وإني لمتيقن أن بقائي هنا مدة بغير أن يصلهم خبر مني يقضي عليهم لا محالة، فإني وحيدهم، وقد علقوا آمالهم بي، وكنت إذا غبت عن البيت ساعة يقلقون لغيابي، ويبعثون ورائي من يفتش عني، فما قولك بمجيئي إلى هذه الديار مع حملة بادت عن آخرها، ولم يصلهم مني علم ولا خبر من يوم فارقت الخرطوم. ثم أراد أن يبين له اشتغال باله وقلقه على فدوى، فلم يطاوعه ضميره؛ ضنًّا باسمها، وحفظًا لعهدها، وصونًا لسر الهوى، فسكت.
فقال حسن: ألعلك تريد أن تبعث مع هذا الرسول رسالة إلى والديك؟ قال: يا حبذا ذلك! فقال: إنه أمرٌ عسيرٌ جدًّا؛ لأن الرسول محجور عليه من يوم مجيئه، ولا يباح لأحد بمخاطبته في شيء، ولا أدري كيف يمكننا إرسال هذه الرسالة إليه، ثم بهت مدة وقال: اكتب كتابك؛ لقد وجدت لك وسيلة لإرساله.
سيديَّ الوالدين، أكتب إليكما من الأُبيِّض؛ حيث قدِّر لي أن أكون في عداد الدراويش في أمن وسلام لولا البعد عنكم، ولا أدري متى يتاح لي الرجوع، فطِيبوا قلبًا حتى يأتي الله بالفرج، واكتبوا لي عما أنتم فيه، وسلموا الكتاب إلى ناقل هذا؛ ليأتي به إليَّ. والسلام.
ثم فكَّر في أمر فدوى، وكيف يكتب إليها وهو لا يعلم ما إذا كان والده قد عرف بأمرها، فخاف إذا كان والده لم يعلم بعدُ، أن يئول ذلك إلى ما لا تحمد عقباه، ففكر هنيهة، فلاح له أن والده وإن يكن غير راضٍ عن فدوى لا يهتم بأمرها؛ لاشتغاله بالفرح عند علمه ببقاء ولده حيًّا، بعد أن يئس من حياته، فكتب تحت ذلك الكتاب حاشية يقول فيها: «يا والدتي، قولي لفدوى إذا كانت ترى في حفظ العهد سعادة كما أرى أنا، فلتبقِ عليه؛ لأني باقٍ ما بقي لي من الحياة بقية. أما إذا كانت ترى فيه شقاء، فإني أبيح لها حل ذلك العقد؛ خوفًا على ذلك المزاج اللطيف من معاناة الشقاء. أقول ذلك وجميع فرائصي ترتعد؛ لأني أغار عليها حتى من خيالها. ضاقت الورقة فاعذريني.
ولم ينته من هذا الكتاب إلا وقد بلل ثيابه بالدموع، فطواه حتى صار بقطع نصف الريال، وعَنْوَنه، ولما جاء حسن دفعه إليه، وأوصاه أن يأخذ الرسول هذا الكتاب إلى القاهرة، وسلم إليه عشرين ريالًا نفقة الطريق، على أن ينقده أجرته كاملة حالما يأتي بالجواب، وأن يسأل عن أبيه في قنصلاتو إنكلترا — لأن شفيقًا كان يحسب أن والديه عادا إلى مصر — وإذا لم يجد والده، فليأخذ الكتاب إلى بيت فلان باشا (والد فدوى).
فأخذ حسن الكتاب وسلَّمه إلى الرسول، وأوصاه أن يجعل طريقه إذا استطاع على درب الأربعين الذي يمر بصحراء ليبيا على واحتي سليما والخارجة إلى أسيوط، ثم عاد وأخبر شفيقًا بذلك، فسُرَّ وجلس ينتظر ورود الجواب، على أنه لم يكن ينتظر الحصول عليه قبل مرور أربعة أشهر من يوم ذهابه. فلنتركه ينتظر ورود الجواب، ولنرجع إلى والدي شفيق وفدوى.