والدا شفيق
أما والدا شفيق فإنهما ما زالا يزيدان حزنًا وشقاءً حتى كرها الإقامة في القطر المصري، وكانت سعدى قد أغفلت أمر فدوى ولم تطلع زوجها على شيء من أمرها، ولكنها كانت تسترق الفرص لمشاهدتها، فإذا اجتمعت بها في خلوة تتشاكيان الأحزان، وتبكيان وتندبان شفيقًا.
أما إبراهيم، فكان يزداد كرهًا للسكن في القطر المصري؛ ففي ليلة من ليالي سنة ١٨٨٤ كانت سعدى جالسة في غرفتها، فدخل زوجها وبيده صحيفة لسان الحال — كان يطالع فيها في رفته وعلى وجهه بعض الانبساط، مع ما كان فيه من شدة الحزن — فاستغربت سعدى ذلك منه، فنهضت لمقابلته وهي تنتظر ما يقول، فابتدرها هو بالحديث قائلًا: لقد قرب الوقت الذي يباح لي فيه أن أُطلعك على ذلك السر؛ إذ قد مات الأمير عبد القادر الجزائري، ولم يعد عليَّ رقيب، فتعجبت لقوله؛ إذ لم تفهم مراده بالأمير عبد القادر الجزائري، واشتاقت إلى سماع ذلك بكليتها، فقال لها: هاتي لي ذلك الكتاب، فمضت لتأتيه به فلم تجده، فافتقدته في كل مكان ظنَّت أنها وضعته فيه، فلم تقف له على أثر، فاشتغل بالها، وأدرك زوجها منها ذلك فسألها، فقالت: إنها أضاعت الكتاب. فرفس الأرض برجليه قائلًا: أضعته وفيه كل أسراري؟! فقالت: لا أدري ما الذي أضاعه، ولعلي وضعته في مكان سوف أتذكره، وأخذت تعيد البحث عبثًا، فاشتد غيظه حتى خرج من الغرفة وسار توًّا إلى حجرته قلقًا، ولبثت هي حائرة متكدرة لكدر زوجها، ولم تعد تجسر أن تفاتحه بشيء.
وفي الصباح التالي، نهض إبراهيم واستدعى زوجته، ولما حضرت قال: اعلمي يا سعدى أن المقام في هذه الديار لم يعد يحلو لي، بل لم تعد السكنى تروق لي في المدن بعد ضياع ولدنا، فهيا بنا نبيع أمتعتنا، ونهاجر المدن، ونعتزل عن الناس، فنتخذ لنا مسكنًا في قرية من قرى لبنان نقضي فيها بقية هذه الحياة الشقية بالتنسك، فوافقته على رأيه؛ لأنها كانت أشد كرهًا منه لمعاشرة الناس، فأعلن إبراهيم بيع ما كان في بيته من الفرش، وجمَع ما لديه من المال وهاجر القطر المصري طالبًا رُبى لبنان، وأحب إطلاق سراح خادمه أحمد، فأبى إلا أن يرافقهما في السراء والضراء، فسار معهما.