المُهاجَرة إلى بَرِّ الشام
أما ما كان من أمر فدوى، فإنها ما زالت تزداد سقامًا يومًا بعد يوم حتى خاف والدها عليها؛ إذ كان كثير التعلُّق بها؛ لأنها وحيدته، ولِمَا آنس بها من الخلال الحميدة، ولكنه كان من سريعي التقلب الذين لا يجيبون عن خطاب إلا بالإيجاب، حاسبين ذلك من لطف المعاشرة، ثم تمكن فيهم حتى أصبحوا مجردين من الإرادة.
فلما رأى الباشا ما ألم بابنته من التحول بسبب حبها لشفيق، سهل عليه كل أمر يئول إلى سلواها؛ حاسبًا ذلك الحب من مجلبات التعاسة له ولها، وتردد ذلك الفكر في باله، فنشأ في اعتقاده أن ساعة معرفة ابنته لذلك الشاب كانت ساعة شؤم، فجعل يتخذ كل وسيلة تبغض فدوى إلى خطيبها، وأصبح ميالًا إلى مَن يساعده في ذلك، فإذا اجتمع بعزيز كان يعيره أذنًا سامعة؛ يعي مشوراته فيها، وما مشوراته إلا إكراه فدوى على التسلِّي عن شفيق بغيره. ولمَّا كان يرى منها إعراضًا عن هذا الرأي، كان يزداد كرهًا لشفيق، وهي لا تزداد إلا حبًّا به وإعراضًا عن سواه.
فلما وصف لها الأطباء السفر إلى بر الشام لترويح النفس في رُبى لبنان الجيدة الهواء، أسرع والدها في إرسالها إلى هناك، وظن أن بعدها عن القاهرة ربما يساعدها على السلوى، مع أن ذلك الفصل لم يكن يحسن قضاؤه في لبنان ولا في سورية؛ لأنه فصل شتاء سنة ١٨٨٣، لكنه أراد سرعة الابتعاد بأي وسيلة كانت، فأخذ يهتم بأمر السفر، وهي لم تكن تمانع به، فأعدَّ ما لزم واصطحب بخيتًا واثنين آخرين من الخدم، تاركًا امرأته في البيت مع من بقي من الحشم، وركب القطار يريد الإسماعيلية على ترعة السويس؛ ليسير في الترعة إلى بورت سعيد، ومن هناك في بحر الروم إلى بيروت.
فلما بلغ عزيزًا ذلك جاء لوداعهم على المحطة وقد أضمر أن يقتفي أثرهم بعد حين إلى لبنان؛ لعل التقادير تساعده على نيل مرامه.
فسار بهم القطار من الصباح إلى الظهر، فوصلوا محطة الإسماعيلية وركبوا الترعة إلى بورت سعيد، وبعد مسير يومين في بحر الروم نزلوا ميناء بيروت، فأعجبهم موقعها عند سفح لبنان الشامخ الآكام، الذي لم يمنع ارتفاعه الهائل من اكتسائه بالأشجار النضرة على جبال تناطح السحاب. وكثيرًا ما يكون السحاب مكللًا لها. واتفق أن وصولهم كان في يوم رق أديمه، واعتل نسيمه، فبانت لهم قمم ذلك الجبل القديم العهد مكسوة بالثلج الأبيض الناصع، وكانت كل رباه الخضراء قد غسلها المطر الذي لازمها أسبوعًا تامًّا، فأصبح له أبهج ما يكون من المناظر.