فندق بسُّول
فلما رست بهم الباخرة صباحًا باكرًا عند المينا، أمر الباشا الخدم أن يهتموا بإنزال الأمتعة، وأخذها إلى حافة الباخرة، وأمسك فدوى بيدها وأشار إلى تلك المناظر الطبيعية يريد إلهاءها بها، فقال: تأملي يا عزيزتي بهذه الآكام الممتدة مدى النظر على شواطئ هذا البحر، وسبِّحي الخالق العظيم الذي فجَّر الماء من أعلى قممها، فاكتست خضرة بهيجة بين أشجار وأعشاب تتخللها قرى صغيرة، كل قرية على أكمة أو في سفح أكمة؛ بيوتها بيضاء متفرقة بين الزرع كأنها أحجار كريمة على ديباجة خضراء، بل انظري إلى هذه المدينة الجميلة القائمة على مرتفعات لطيفة عند سفح هذا الجبل، وأمْعِني النظر في أبنيتها الشاهقة المختلفة الألوان، وفي سطوحها القرميدية مع ما يحدق بها من الحدائق؛ مما يجعلها بهجة للناظرين.
وكان الباشا يقول ذلك وينظر إلى وجه ابنته ليرى ما يكون منها، فإذا هي ساكتة لا تبدي جوابًا، فظنَّها تتأمل في جمال ذلك المنظر، ثم جاء الخدم يخبرونه أنهم قد أنزلوا كل الأمتعة إلى القوارب، فنزل إلى قارب نظيف خاص لركوبهم ممسكًا بيد فدوى. أما الخدم فنزلوا في قوارب الأمتعة، فمخرت بهم القوارب. أما قاربهم فوصل الشاطئ قبل الجميع، فنزل الباشا ووقف في انتظار وصول الأمتعة، ففرغ صبره ولم تصل، فأخذ ينظر إليهم عن بُعد، وإذا بالقوارب واقفة في البحر لا تتحرك، فاشتغل باله، ثم مشت حتى وصلت إليه، فنزل الخدم وأنزلوا الأمتعة، فسألهم عن سبب تأخرهم، فقالوا: إن البحارة اتفقوا معهم على أجرة، فلما وصلوا منتصف الطريق أخلفوا وطلبوا زيادة فيها، ولم يكونوا يريدون المسير حتى يقبضوا ما يريدون، ولم يسيروا حتى نالوا ما أرادوا، فقال الباشا: لا بأس أعطوهم ما شاءوا وهيَّا بالأمتعة إلى فندق بسُّول على الشاطئ، فإننا نسبقكم إلى هناك، قالوا: حسنًا، فصعد وابنته ملثمة على جاري العادة حتى التقوا بعربة فركبوا حتى نزلوا الفندق، فإذا به حسن الموقع لا تنفك الأمواج تضرب أساساته ليلًا ونهارًا، فهيأ لهم صاحب الفندق حجرة لمنامهم وأخرى للخدم، فلما دخلت فدوى الغرفة استقبلت المرآة في صدرها، فارتاعت لما رأت نحولها، فألقت بنفسها على السرير وقد غلب عليها البكاء، فأمسكت نفسها ما استطاعت.
وبعد الغسل وتغيير الثياب وشرب المنعشات، طلبت فدوى التوسد للاستراحة من وعثاء السفر، فنامت ونام والدها إلى الظهر، ثم استفاقوا يطلبون الطعام إلى غرفتهم، وبعد تناوله خرج الباشا ملتفًا بقباءٍ شتوي لمشاهدة غرف الفندق، فقابله أحد خدمه وذهب به إلى غرفة الاستقبال المطلة على البحر، فأشعل سيكارته وجلس بجانب النافذة يسرِّح نظره في ذلك البحر — وكان هادئًا — وصوت أمواجه يلهي الفكر عن الهواجس، ويخفف الأكدار، فأخذ يتأمل في سفره وما فيه، وما وصلت إليه ابنته من الضعف والهزال.