التفرنج الحديث
فخرجا من باب الحديقة القبلي، فأقبلا على الملهى (الأوبرا)، فوقف عزيز ونظر إلى ساعته وقال: إن الساعة لم تتجاوز التاسعة، واحتفال فتح الخليج لا يكون على أتقنه إلَّا نحو الحادية عشرة، فلنقض هاتين الساعتين في هذا الملهى؛ فإنه من أجمل الملاهي، والتشخيص فيه الليلة باللغة الفرنسوية.
وكان شفيق لم يشاهد زمانه تشخيص الروايات لا في هذا الملهى ولا في غيره، فقال لصاحبه: إني أُحسن فَهم اللغة الفرنسوية، ولكني لا أرتاح إلى حديثها كالعربية. فضحك منه حتى فحص الأرض برجليه، ثم قال وهو يعدل وضع نظاراته: يا للعجب منك يا صاح! فإني لم أعرف لك مراسًا. أراك من جهة شابًّا ذكيًّا عاقلًا، ومن جهة أخرى — اسمح لي أن أقول لك — مغفلًا. أيليق بك ونحن في عصر التمدن أن تقول مثل هذا القول؟ وأعجب لقولك إنك لا ترتاح إلى التكلُّم في اللغة الفرنسوية، وجميع أصدقائنا المتمدنين لا يتكلمون إلَّا بها، حتى إنهم أهملوا اللغة العربية؛ لتعقدها وصعوبة التلفظ بها، فلا يتكلم بها الآن إلَّا البسطاء الذين لم يلِجوا المدارس.
فبهت شفيق لخطابه، ونظر إليه نظرة مملوءة من الرزانة والكمال متبسمًا تبسمًا خفيفًا، وقال (مسندًا يده إلى قائمة القنديل الغازي أمام باب الملهى): إني لأعجب من رسوخ ذلك في اعتقادك، فكأني بك تحسب التمسك بالأخلاق الشرقية حِطَّة لمقامك حتى أنكرت اللغة التي ربِّيت فيها، وصِرْت تفضل الرطانة عليها، زاعمًا أنها لغة عامة الناس وأسافل السوقة. فما معنى مخاطبتك رجلًا عربيًّا بلغة أعجمية إلَّا التفنن بمبتدعاتك الفرنجية المؤَديَّة إلى سوء المصير؟ أرني واحدًا ممن تتقلدهم من الفرنجة — ولو مهما أتقن العربية — يخاطب ابن لغته بها، فكيف تسير على خطواتهم إلَّا فيما يوافق مصلحة بلادك منها؟
فأنت مقرٌّ بصنيعك هذا أن أحط الناس في عينيك إنما هم والداك، وسائر أعمامك وأخوالك وغيرهم من ذوي قرباك وأصدقائك؛ لأنهم لا يعرفون الرطانة، ولا يهملون لغتهم.
فضحك عزيز ضحكة يمازجها الخجل وقال: إن قولك لأشبه بما نسمعه من عجائز بلادنا؛ لأنهم لم يخالطوا الفرنجة، ولا تعلموا التمدن، ولكن ما لنا ولهذا الجدال؟ هل تريد أن تدخل بنا الملهى أم لا؟
فقال شفيق: أما إذا كان لمشاهدة التمثيل، فإني لا أتمناه إلَّا مراعاةً لإرادتك، فقال عزيز: إذا كنت لا ترتاح إلى التمثيل، فإنك تسرُّ بمشاهدة معدَّات هذا الملهى، فهيَّا بنا.