ضياع رسم شفيق
أما فدوى فلبثت في الحجرة ترتب الثياب، وفيما هي تفتش في صندوقها عثرت على صورة شفيق، فخفق قلبها، فتناولتها وأخذت تتأمل فيها وتذرف الدموع مخاطبة إياها قائلة: أوَّاه يا حبيبي! أوَّاه يا منتهى أملي! أهذا هو نصيبي منك؟ أين أنت الآن؟ ألعلك لا تزال في قيد الحياة؟ آه أوَّاه من نائبات الزمان! أما كان الأجدر بي أن أموت فداءً عنك؟ أأنت حيٌّ بعدُ؟ ثم سكتت صامتة تتأمل في تلك الصورة، وبما في وجه شفيق من الجمال وتبكي حتى بللت ثيابها وخارت قواها، فألقت بنفسها على السرير والصورة في يدها وهي لا تعلم، فاستغرقت في سنة النوم، وفيما هي راقدة دخل والدها، فرآها على تلك الحال، فعلم أنها نامت باكية، فثارت فيه ثائرة الغيظ؛ إذ لم ير فائدة من ذلك، ثم لاحت منه التفاتة فإذا صورة شفيق في يدها، فلاح له أن بقاء تلك الصورة معها مما يجدد أحزانها، فاستخرجها من يدها وهي لا تدري، وأخفاها في مكان وغادر الغرفة وعاد إلى القاعة.
فلما استيقظت افتقدت الرسم فلم تجده، فأخذت تفتش عنه، فلم تقف له على أثر، فجعلت تلطم وجهها، وتنوح وتبكي، فإذا بأبيها داخل، فسألها عن سبب بلبالها، فقالت له: إنها فقدت رسم شفيق، فتظاهر بمشاركتها في التفتيش عنه، فقال لها: وأين كان موضوعًا؟ قالت: كان في يدي الآن، قال: لعلك خرجت به إلى مكان ونسيته خارجًا، قالت: لم أخرج إلى مكان قط، قال: لعلك وقفت على هذه النافذة فسقط منك في البحر، قالت: لم أقف هناك. فأخذ يحاول إقناعها أنه سقط في البحر إلى أن قال: وقد يمكن أنك نهضت من السرير وأنت غائبة عن الصواب فلم تعلمي أنك وقفت عند النافذة، ومع ذلك فسأبحث عنه وأخبرك. فسكتت، ولكن لم يعد يهدأ لها بال، وفهمت من كلام والدها أنه يود ضياع ذلك الرسم، فصبرت حتى خرج وبعثت إلى بخيت وأطلعته على الأمر، فوعدها أن يفتش عنه ويأتي به ولو كان في لج البحار.
أما الباشا فخرج من حجرة ابنته يفكر فيما يشغلها عن هذه الأمور، فعاد إلى النافذة وإذا بصاحب الفندق داخل مُحييًا، فرد الباشا التحية، فقال له الرجل: لقد شرفتنا يا سعادة الباشا، وحلت البركة، فهل تأمر بخدمة؟ قال: لا، تفضل اجلس. فجلس متأدبًا، ولكنه شاهد أن نزيله في ارتباك فأحب استطلاع أمره، فاستخدم طرقًا مختلفة إلى أن قال: ولعل حضرة الهانم لم تُسرَّ من نزولها في هذا الفندق؛ لأنها لا تستطيع التسلية لعدم وجود السيدات.
فقال الباشا: ذلك حقيقي، ولا سيما وأن عوائدنا لا تسمح لها بالظهور أمام الرجال كما يفعل الإفرنج ومَن جرى مجراهم.
فخاف صاحب الفندق أن ذلك ربما أورث لها مللًا، فقال له: ولكن ذلك يا سيدي أمر سهل، وإذا أذنت سعادتك أن تتشرف امرأتي بمعرفة ابنتكم لعلها تأنس بها، فتجد سلوى عن وحدتها.
فسُرَّ الباشا لذلك وقال: نعم نعم، لقد نطقت بالصواب؛ فافْعلْ ولك الفضل، فإذا شرَّفت السيدة فإنني أرسل معها الخصي ليوصلها إلى ابنتي، ولا أشك أنها تأنس بها. فخرج صاحب الفندق، ولما التقى بامرأته أخبرها أن عنده سيدة مصرية تودُّ الاستئناس بها، فلبست أحسن ما عندها من الثياب والحلي.