الدكتور «ن»
وفي الصباح التالي، نهض والدها فرآها في حالة يرثى لها من الضعف والاصفرار، فقلق على صحتها وعزم أن يأتيها بالطبيب يستشيره بأمرها، فسار بعد الغداء إلى قاعة الاستراحة وبعث إلى صاحب الفندق، فلما حضر قال له إنه يريد استحضار أشهر طبيب في بيروت لمشاهدة ابنته.
فقال الرجل: إن في بيروت، يا سعادة الباشا، أطباء ماهرين.
فقال الباشا: أنا أعلم ذلك، وإنما سألتك عن أشهر طبيب فيهم.
فقال: إن لكل طبيب شهرة في فرع من فروع الطب.
قال: أريد أشهر طبيب في الأمراض العمومية الضعفية.
قال: إن في هذه المدينة طبيبًا هو من أعرف الأطباء في هذه الأمراض، وإن يكن مشهورًا على نوع خاص بأمراض العين، يقال له الدكتور «ن»، فإن هذا الرجل فضلًا عن سعة اطلاعه في فن الطب وغيره من الفنون، قد خصَّه الله باللطف والإيناس، فإن كلم المريض طيَّب خاطره، وخفف أوجاعه بلطف حديثه قبل أن يصف له الدواء. ومما يزيده تمكنًا من تشخيص الأمراض سعة اختباره، فقد أقام بين أظهرنا نحو خمسين عامًا بين تطبيب وتدريس في فن الطب، فترى أهل سورية عمومًا يعتقدون في صدق تشخصيه اعتقادًا غريبًا، وهو قادر لحسن فراسته أن يعرف الداء بمجرد النظر إلى المريض.
فقال الباشا: إليَّ به حالًا.
قال: ولكن، يا سيدي، لا يمكننا أن ندعوه إلا بعد الظهر؛ لأنه يطبب الفقراء في بعض المستشفيات مجانًا.
قال الباشا: ولكنا ندعوه من المستشفى؛ إذ لا بد من أنه يفضِّل المريض الذي ينقده الدرهم.
فتبسم الرجل قائلًا: لا يا سيدي، إنه بالضد من ذلك يفضِّل تطبيب الفقراء على الأغنياء، وهذه خلة قد اشتهر بها.
فقال الباشا: يا للعجب! إني لم أسمع بمثل هذه الشهامة قط.
قال: وأزيدك عنه أنه يطبب الفقراء ويساعدهم في الحصول على الدواء وسائر الحاجيات، وكم من عائلات تنال منه الصدقات شهريًّا مقادير معينة!
فقال الباشا: فإذا كان لا يمكننا أن ندعوه قبل الظهر، فابعث إليه بمن يستدعيه بعد الظهر، قال: سمعًا وطاعة.
فلما كانت الساعة الثالثة وقفت عربة أمام باب الفندق، فنزل منها شيخ بلباس إفرنجي في نحو السبعين من العمر يمشي على عصا، لكن من غير تحدُّب ولا خمول، سريع الحركة، قصير القامة، خفيف الجسم، طويل اللحية، خفيفها، وعلى عينيه النظارات، فاستقبله صاحب الفندق وأخبر الباشا أن الطبيب قد حضر، فخرج الباشا لاستقباله، فسار به إلى غرفة الاستراحة، فآنس الباشا به فوق ما سمع عنه من اللطف والدعة، فأثنى عليه ثناءً جميلًا إلى أن قال: إني وددت لو أكون مريضًا فأتمتع بتطبيبك. إن حديثك لأشهى من الترياق، فلم يُجب الحكيم عن هذا المدح فرارًا من مدح آخر.
فبعد أن تحادثا قليلًا قال الباشا: قد دعوتك يا حضرة الحكيم لأستشيرك في أمر، وقد جرَّأتني أخلاقك الشريفة أن أُطلعك على سرٍّ لم أُطلع عليه أحدًا في هذه المدينة.
فقال الحكيم: قل ما بدا لك.
فقص الباشا قصة ابنته مع شفيق كما هي تمامًا إلى أن قال: وقد وقعت في حيرة الآن؛ لأن الفتاة كَلِفة بذلك الشاب كَلفًا شديدًا، ولا أنكر عليك أني أحبُّه أيضًا؛ لأنه أنقذني من الموت، وآنست فيه شهامة غريبة، ولكني لا أرى فائدة من البقاء في ذلك بعد أن تحققنا من الحملة التي سار برفقتها قد هلكت بأجمعها، فلا بد أنه هلك في جملة من هلك.
فقال الحكيم: هل حاولتم أن تشغلوها بشأن من الشئون.
قال: نعم، ولكن لا فائدة.
فقال: إن أفضل طريقة — على ما أرى — أن تلتهي عنه؛ لأنها لا تزيد إلا سقامًا ما دامت تفتكر به. أما إذا شغلها شاغل فقد تسلوه رويدًا رويدًا، ولقد أعجبني فيها المحافظة على الوداد، ولكن ليس في اليد حيلة.
فقال: وكيف نشغلها عنه؟
قال: أشغلوها بالأسفار من بلد إلى آخر، والسفر في جبل لبنان أفضل ما يكون، ولكن هذا الفصل فصل شتاء، فلا تستطيعون التجوال في تلك الأنحاء، فامكثوا هنا ريثما ينقضي هذا الفصل ويحلو المقام على رُبى لبنان، فتتمتع الفتاة بهوائه النقي؛ فإنه من أحسن ما خلق الله من الجبال.
فقال الباشا: ولكن ما العمل بهواجسها، فإنها لا تنفك عن الافتكار بذلك الشاب لا ليلًا ولا نهارًا، وكلما زدت في تسليتها عنه زادت شغفًا به.
فأجاب الحكيم وهو يمسح النظارات بمنديله الحريري: تلك عادة أولي الغرام، فإذا زدتم لومًا زادوا هيامًا، فالأولى أن تغض الطرف عن ذلك، وإذا ذكرت حبيبها اذكره بالحسن معها، وإنما انْقِمْ على الدهر الذي يقضي على المحبين بالفراق، واشغلها بالأمل البعيد حتى يقضي الله بما يشاء.
فتأوه الباشا ثم قال: والله إنك أحسن من يعزي عن المصائب، فهل لك أن تتردد علينا حينًا بعد حين؟
قال: سأفعل إن شاء الله، ولكن ربما كان الأفضل أن تذهب بها إلى زيارة منزلي بقرب المنارة؛ فإنه في مكان أشبه شيء بالجبال يشرف على البحر من جهة، وعلى الجبل من أخرى.