الطباخ
أما بخيت فسار توًّا إلى صاحب الفندق والدبوس في يده، فسلمه إليه قائلًا: إن سيدتي سرت كثيرًا بإتقان صنعه، وتحب معرفة المكان الذي صنع فيه لتصطنع مثله.
قال: لقد قلت لك إنه صُنْع أوروبا، وقد جاء به إليَّ سائح إنكليزي هدية، ولما أعطاني إياه لم أسأله عمن اصطنعه، فقال: وهل تريد أن تبيعه لها؟ قال: لا، لا أقدر على ذلك؛ لأن الهدايا لا تباع ولا تشترى، ويا حبذا لو أمكنني ذلك! فإنني ما كنت أمنعه عن حضرتها.
وكان بخيت قد عرف طباخ الفندق في هذين اليومين، وأحب كل منهما الآخر، فقال في نفسه: لأذهبن إليه لعلي أقف منه على خبر، فصبر حتى انقضى وقت العشاء، وسار يتمشى بجانب حجرة الطباخ، فوقف له وحيَّاه داعيًا إياه للجلوس، فدخل وجلس على كرسي بجانب السرير، فلمح على مائدته زجاجة صغيرة فيها سائل أبيض، بجانبها قدح صغيرة، فعلم أنه الخمر المعروفة بالعرقي، ورأى ذلك الرجل قد نزع طربوشه المغربي عن رأسه وشمر عن ساعديه، جاعلًا خرقة بيضاء (مريول) فوق سراويله المصنوعة من الجوخ الثقيل، ثم تقدم إلى بخيت بقدح ملأى من تلك الزجاجة وأعطاه ليشرب وفي يده الأخرى قطعة لحم، فتظاهر بخيت بالشرب وسكب العرقي على الأرض. أما الطباخ فما زال يقص حكاية ويشرب قدحًا حتى فرغت الزجاجة أو كادت.
ففاتحه بخيت بالكلام قائلًا: إن موقع هذا الفندق جميل جدًّا، ولا سيما في فصل الصيف؛ فإنه يشرح الصدر لقُربه من البحر.
قال الرجل وهو يترنح من الخمر: صدقتَ، ولكنَّا نُسرُّ في الشتاء لكثرة السياح، فإنهم يأتوننا جماعات من أقاصي البلاد.
فاستبشر بخيت بذكر السياح آملًا أن يتخلص إلى حكاية الدبوس فقال: وما الذي يحملهم على المجيء إلى هذه الديار في هذا الفصل البارد؟
قال: يأتون في الأصل إلى يافا، ويسيرون منها إلى بيت المقدس لزيارة قبر المسيح، ويأتون إلى هنا غالبًا في أوائل الربيع، فيذهبون لمشاهدة أَرز لبنان المشهور بقدم عهده، حتى ظن بعضهم أن أشجاره باقية من أيام سليمان.
قال بخيت: ولكن المتبادر يا عبود أنهم يزورون مصر في فصل الشتاء لاعتدال الهواء هناك.
قال: نعم، ويأتون من مصر إلى يافا.
قال: ولكنهم إذا أتوا هذه الديار في فصل الشتاء فلا يستطيعون التجوال لكثرة الثلوج التي تتراكم في طرق جبل لبنان؛ فقد علمت أن طريق دمشق غير مطروقة منذ خمسة أيام.
قال الرجل وقد ضاق ذرعًا: أنا أعلم أنهم يأتون إلينا في أواخر الشتاء وأوائل الربيع، والذي يهمنا أنهم إذا جاءوا ينفقون بيننا أموالًا طائلة، فنكسب منهم كثيرًا؛ لأنهم يعطون حلوانًا كبيرًا.
فقال بخيت وقد رجا قرب الوصول إلى مبتغاه: إن الحلوانات ليست شيئًا يذكر، وأما الذي يستحق الذكر فهو ما ينفقونه في الشراء من الأسواق.
فضحك عبود وقد مال ذات اليمين وذات اليسار ثم رفع يده كأنه يُقْسم وقال: ما لي ولما يشترونه ويبيعونه؟! فإني أعلم أني آخذ منهم حلوانات كثيرة، وإذا اشتروا كل المدينة فما الذي يأتي إلى جيبي؟!
فقال بخيت: لقد بالغت يا صاحبي في كلامك عن الحلوانات، فما هي؟ أخبرني هل يعطونكم دراهم أو ثيابًا أو حليًّا؟
قال عبود: يعطوننا من ذلك كله.
قال بخيت: ولكن أظن أنهم يعطون كلًّا على قدر حاجته، فلا أظنهم يعطونك أقراطًا ولا أساور، وإنما يعطونك قطعة ثياب أو بعضًا من النقود، وأظنك تفضل النقود.
فضحك عبود قائلًا: نعم نعم، هذا هو الصحيح.
فقال بخيت: ولكن إذا أعطوك قطعة حلي مثل دبوس رقبة مثلًا، أفلا تفضله على الدراهم؟!
قال: وما أصنع بالدبابيس، فأنا لا ألبس ثوبًا إفرنجيًّا ولا قميصًا مكويًّا، وإنما لبسي هذه السراويل، وهذا المنتيان، ولو أعطيتني حلة إفرنجية ما لبستُها، وكذا لو أعطيتني قطعة حلي فإني أفضل بيعها بأي شيء كان؛ لأن الذهب الرنان أفضل من كل شيء.
قال بخيت: أعذرني يا صاحبي؛ فإني لا أصدق ذلك.
فقال عبود ضاحكًا: إذا كنت لا تصدق، فاسأل معلمي الخواجة بسُّول وهو يخبرك عني، فقد جئت من بلاد السودان … آه من تلك البلاد! وسكت هنيهة كأنه تذكر أمرًا محزنًا، ثم أخذ في البكاء.
فتعجب بخيت لذلك، وأحب إتمام الحديث ليسمع ما يعرفه الرجل عن السودان، فقال له: هل تعرف بلاد السودان يا أخي؟
قال: نعم، أعرفها. وازداد في البكاء، فازداد بخيت تعجبًا ورغبة في استطلاع حاله، فقال: وما أصابك في تلك الديار حتى تبكي عند ذكرها.
فتغيرت حالة الرجل من السكر المضحك إلى الهدوء والرزانة وقال: إني أُصبت فيها ببلية عظمى. قبَّح الله المتمهدي وأعماله؛ فقد قطع رزقي وحرمني من سيدي وملاذي.
فقال بخيت: وهل كنت ساكنًا في تلك البلاد أم ذهبت إليها مؤخرًا؟
أجاب وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه: قد ذهبت إليها من مصر؛ لأني كنت أذهب كل سنة إلى القاهرة في فصل الشتاء لمرافقة السياح، فلما كانت سنة ١٨٨٢ مضى فصل الشتاء ولم أصب سائحًا؛ لأن محل كوك احتكر السياح كافة، وتكفل بإرسالهم، على أن يقوم بكفايتهم، وكان يرسل معهم تراجمة وخدامًا من عنده، فلم يعد لنا نفع يذكر، فلما مضى فصل الشتاء ضاقت بي الحيل، وعولت أن أعود إلى بيروت، فسمعت بمسير حملة هيكس باشا لمحاربة المتمهدي الملعون، فوفق الله لي أحد ضباك تلك الحملة لأسير معه خادمًا، فرافقته يئسًا، وما زلت معه حتى أتينا الخرطوم، وبعد أن مكثنا هناك برهة جاءني يومًا وعليه ثياب غير ثيابه الاعتيادية كأنه قد تنكر فقلت: وما هذا يا سيدي؟ قال: إني يا عبود مسافر في مهمة إلى الأُبيِّض؛ حيث يقيم المتمهدي، ولا أستطيع أن آخذك معي؛ لأني ذاهب متنكرًا، وليس معي إلا هذا الخبير السوداني، فامكث أنت هنا، وهذه ثيابي باقية عندك ريثما أعود. ولكن آه يا سيدي! إنه لم يعد قط فلبثنا في الخرطوم حتى سمعنا بمذبحة هيكس وجيشه، ولم يعد يطيب لي المقام، فحملت ما كان عندي وفي جملته ثياب ذلك الضابط، وجئت بها قاصدًا هذه الديار عن طريق بربر، فرأيت خطرًا بمروري إلى سواكن، وأنه لا بد لي من التنكُّر وتخفيف حملي، فطرحت ما كان معي من الثياب في تلك المدينة، ولم أُبق إلا بعض الأشياء الخفيفة والغالية الثمن.