السودان الشرقي
وأخذت بالمسير في الصحراء تارةً أمر بسهل متسع قليل الأعشاب والأشجار، وطورًا أصعد في جبل وعر السلوك، وآونة أمر بحرجات كثيرة الوحوش، حتى خفت على نفسي أن أذهب فريسة لها، وكنت تارة أعطش، وطورًا أجوع. وأما الطريق فلم أكن أعرفها، ولكني اصطحبت أعرابيًّا من بربر كان سائرًا إلى سواكن، وأظنُّه كان ذاهبًا بمهمة سرية أرسله فيها حسين باشا خليفة؛ مدير بربر، ولما قطعنا نحو نصف الطريق في بضعة أيام، علمنا أن الطريق إلى سواكن مقطوعة لا يمكننا سلوكها لظهور دعاة المتمهدي فيها تحت قيادة عثمان دقنا، الذي أصبح ألد عدو للأتراك ومَن شابههم، على كونه تركي الأصل، فضاق بخيت ذرعًا لطول القصة، وأراد أن يبتدره بالكلام لاستطلاع ما يهمه، ولكنه خاف أن يغضبه فبقي صامتًا وهو على مثل الجمر، فأتم الرجل حديثه قائلًا: فلما سمعنا ذلك وقعنا في حيرة. أما رفيقي فكان يسهل عليه التنكر لقرب حاله ولغته من هؤلاء، وأما أنا فعظم الأمر عليَّ، وتوسلت إلى الرجل أن يدبر لي وسيلة أخلص بها من تلك الورطة، فأعطاني بعض ثيابه، وعلمني من الكلام السوداني فوق ما كنت أعرف، حتى إذا وقعنا في مشكل ندعي أننا من أهل تلك الجهات القائمين بدعوة الإمام المتمهدي.
فما زلنا سائرين حتى صرنا على مقربة من سنكات — وكان صديقي قد أخبرني أنها محاصرة، وفيها حامية من الجنود المصرية، والعدو محدق بها من كل الجهات، وأن الحكومة المصرية أرسلت نجدة تحت قيادة رجل إنكليزي يقال له باكر باشا لإنقاذها — فقلت: إن دخولي مدينة سنكات أفضل من الاستمرار على المسير إلى سواكن؛ فربما ألقى حتفي في الطريق؛ لأني علمت أن عثمان دقنا قد مد سطوة المتمهدي ودَعْوته إلى أقاصي تلك الأنحاء.
فلما صرنا على مقربة من سنكات ونحن فيما يشبه لباس الدراويش سألت رفيقي عن رأيه، فوافقني على دخول سنكات فصبرنا حتى سدل الليل نقابه، وسرنا حتى اقتربنا من الحصون فنادينا الأمان، فأمَّنُونا، فدخلنا البلدة وأخذ العساكر يسألوننا عن حالنا، فأخبرناهم بما عرفناه، وبتنا تلك الليلة قرب الحصون، وذهبت في الصباح التالي إلى البلدة، فإذا هي ليست كبيرة، وأبنيتها من الآجر تتخللها بيوت من القش، ولكني شاهدت أهلها في ضنك شديد من قلة المئونة لانقطاع السابلة عليهم من كل الجهات، فكان كل من شاهدني يسألني عن المهدويين وعن مذبحة هيكس.