ضيف ثقيل
وباتا تلك الليلة وفدوى تناجي نفسها راجية أن يعود بخيت بخبر الدبوس، فلما كان الصباح جاء أحد خدم الفندق يدعو الباشا لمخاطبة شرطي جاء يطلبه، فخرج فإذا بأحد الشرطة وبيده ورقة، فلما تلاها فهم منها أن بخيتًا محجور عليه في السجن، فلبس ثيابه وسار برفقة الشرطي إلى السراي قرب حديقة الحميدية، ودخل توًّا على مأمور الشرطة، فوقف له واحترمه وأجلسه إلى جانبه، فاستخبره الخبر فقال: إن خادمك وأحد المصريين تشاجرا أمس، وجيء بالاثنين إلى المخفر، فسأل عن اسم الآخر فقال: يدعي عزيزًا، فاستغرب الباشا ذلك؛ لتذكره عزيزًا صاحبه، مع علمه أنه كان في مصر، فقال للمأمور: إنهما أبناء بلد واحد. وتقدَّم إليه أن يتخلى عن قضيتهما إذا تصالحا، فوعده بذلك، وأمر بإحضارهما، فحضرا فإذا هما بخيت وعزيز، فلما رأى الباشا عزيز سلم عليه وقال له: ما سبب خصامك؟ قال: التقيت بخادمك هذا — وكان بخيت في حالة الغيظ من عزيز فقال له: تأدب يا فتى؛ إنك والله لمستحق القتل. فأسكته المأمور ريثما يتمُّ الرجل حكايته — فقال عزيز: التقيت به مساء أمس وهو مسرع نحو المدينة، فناديته لأسأله عن سعادتك، فلعنني وأهانني، فترفقت به، فازداد فجورًا، فسمعنا الشرطة، فقبضوا علينا وساقونا إلى السجن.
فقال الباشا: لا بأس يا ولدي، إن ذلك لم يحصل إلا سهوًا؛ إذ ربما لم يعرفك بخيت. فابتدره بخيت قائلًا: كلا، يا سعادة الباشا، إني عرفته، ولولا ذلك ما أهنته؛ لأنه مستوجب فوق الإهانة.
فقال الباشا: اسكت يا بخيت؛ فقد جئت الآن لأصلحكما وأخرجكما من السجن، فقال بخيت: إني أفضل السجن يا سيدي إذا كان هذا الخائن فيه معي؛ لكي يتأدب. فانتهره الباشا. أما عزيز فما زال ساكتًا مُظهرًا التأدب والإصغاء إلى كلام الباشا، فسكت بخيت، فقال الباشا: لقد تصالحا لأنهما من بلد واحد، وكلاهما من خاصتي، فليأمر حضرة المأمور بإطلاق سراحهما، فقال المأمور: ليكن كما تأمر سعادتك، فخرجا من السجن. وأما بخيت، فكان يرتجف ويرتعد لشدة تأثره؛ لأنه كان يود قتل عزيز لو لم يدركهما الشرطي، وسار الجميع قاصدين الفندق، والباشا يرحب بعزيز ويسأله عن سبب مجيئه، فقال: يعلم الله، يا سعادة الباشا، أني لم يعد يهدأ لي بال منذ برحتمونا، ولم أر سبيلًا للاطمئنان إلا بالمجيء إلى هنا ومشاهدتكم، فعسى أن تكون السيدة فدوى بخير، فقال: إنها بخير إن شاء الله.
وكان بخيت كل الطريق ينظر إلى عزيز نظرة الغدر، ونفسه تحدثه بقتله، لولا احترامه لسيده. وكان عزيز قد أدرك ذلك، فأخذ يتزلف إلى الباشا ويظهر له الود والإخلاص والقلق على صحة فدوى، فلما اقتربا من الفندق سأله الباشا عن محل نزوله فقال له: إني لم أختر منزلًا، وقد قيل لي إن هذا الفندق من أفضل فنادق بيروت، وكنت قد وصلت أمس ووضعت أمتعتي في قهوة بقرب المينا على أمل الخروج للتفتيش عن منزل، فالتقيت بخادمك وجرى ما جرى.
فقال: ابعث من يأتيك بالأمتعة وتعال إلى هنا. ودخلا.
أما فدوى فكانت في انتظار عود والدها، فسمعت صوتًا في الدهليز المؤدي إلى غرفتها، ولما فتحت الباب لاستقباله والاستفهام عن بخيت وقعت عيناها على عزيز، فارتعدت فرائصها، وخفق قلبها، واتقدت النار في فؤادها، فعادت إلى الحجرة وأغلقت الباب وراءها، وألقت بنفسها على المقعد خائرة القوى من شدة التأثر قائلة: ما الذي أتى بهذا الخائن إلى هذه الديار؟ قاتله الله! ما أثقله! وما أكثر فضوله!
ثم فتح والدها الباب وقد أدرك ما بها، ودخل بخيت معه وسلما عليها، فأسرع بخيت إلى تقبيل يدها. أما هي فشغلت نفسها عن التأثُّر وخاطبته قائلة: ما الذي جرى لك يا بخيت؟ فقد أقلقتنا بغيابك، فقال: لا أقلقك الله يا سيدتي، إنها حادثة عرضت وانقضت بسلام. قال ذلك وحرق أسنانه، وهز رأسه خيفة من سيده، فأدركت أن في المسألة سرًّا، فصبرت على استطلاعها ريثما تختلي به.
وجلس الباشا يقص القصة عليها وهي مصغية إلى ما يقول حتى وصل إلى ذكر عزيز، فامتقع لونها وظهرت عليها أمارات الغيظ، فلحظ والدها ذلك منها فقال ضاحكًا: ما الذي غاظك من حديثي يا حبيبتي؟ قالت: لم يغظني شيء، وإنما عجبت لهذا الاتفاق.
فقال: إنه اتفاق عجيب، والرجل قد جاء من مصر غيرة علينا، وقد سألني عنك كثيرًا، فازدادت هي غيظًا حتى لم تعد تقدر على إخفاء ما بها، فقالت: وما الذي حمله على افتقاد من لم يخطر لهم في بال؟
فضحك والدها قائلًا: ألا تزالين حاقدة عليه يا عزيزتي؟
قالت: نعم، يا سيدي، ولن أزال ما بقيت حية.
فقال: يا للعجب، وقد عهدتك سليمة القلب وأنت في صحة! فكيف وأنت في مرضٍ؟! فهلا صفحتِ وأخلصت النية.
قالت: وفي أي شيء؟
قال: في أمر هذا الفتى، فإني لم أعد أرى منه من يوم تلك الحكاية إلا إخلاصًا ومحبة.
فازداد اضطرابها لتذكُّرها الأيام الغابرة، وأرادت التكلم فلم تستطع، وغلب عليها البكاء، فألقت نفسها على الفراش وأخذت في البكاء.
فحاول والدها إسكاتها فلم يستطع، فاغتاظ منها ونسي محبته لها وانتهرها قائلًا: كفى يا فدوى، كفى ما أصابك! ألا تزالين مشغوفة بحب الأموات، ومفضلة إياهم على الأحياء؟!
فلم تزدد إلا بكاء، فكلمها ثانية فلم تجبه، فازداد غضبه فتركها وخرج مغلقًا الباب وراءه.