الأوبرا الخديوية
فابتاعا رقعة من مبيع الرقع خارج الملهى، ولما دخلا اندهش شفيق لازدحام الأقدام، ولما هنالك من الإتقان والترتيب؛ لأنه رأى السلالم مكسوَّةً بالمخمل الحريري، والجدران بالمرايا المذهبة الجوانب، الكبيرة الحجم، فلما دخل إيوان المرسح شاهد في سقفه ثريَّا (نجفة) بمئات من الشموع المنيرة بالغاز، فضلًا عن الأنوار الغازية في كل من الخلوات (اللوجات). ومن تلك الخلوات خلوة خاصة بالخديوي مفروشة بأحسن ما يكون من الأثاث، على أن الخلوات — بوجه عام — مكسوَّةٌ جدرانها بالمرايا الجميلة المذهبة، فانبهر شفيق لتلك المشاهد، غير أنها لم تكن لتشغله إلَّا يسيرًا؛ لأنه كان كلما شاهد فتاةً في لباسٍ تركي يختلج قلبه، ويعلو وجهه الاحمرار. وكان يحاول إخفاءَ ذلك جهده فلم يقدر.
أما عزيز فما انفك مفكرًا في أمر فدوى، والاقتران بها، والإيقاع بشفيق. وكان يراقب شفيقًا وحركاته ليستطلع عواطفه.
فلما رآه مفكرًا بادره قائلًا: بماذا تفكر يا عزيزي؟ قال وهو يخفي ما في ضميره: إني أفكر في هذا الملهى البديع، وما اقتضى لبنائه وفرشه من الزمن والمال، فقال وقد أدرك ما يحاول إخفاءَه: ألا تعجب إذا أخبرتك أن أفندينا إسماعيل باشا بناه وفرشه في خمسة أشهر.
فتعجب شفيق وقال: إنه بالحقيقة لأمر غريب، ولكن ما الذي حمله على هذه السرعة، قال: حمله على ذلك قدوم ملوك أوروبا لحضور الاحتفال الذي أعدَّه سموُّه لفتح قنال السويس، فبنى هذا الملهى إتمامًا لدواعي الاحتفاء بهم. وقد دخل فيه بسبب ذلك نفقات طائلة. ثم رُفع ستار المرسح لمشاهدة الألعاب. أما عزيز فجعل ديدنه استراق النظر إلى خلوات السيدات بالمنظار؛ لعله يلمح معصم إحداهنَّ أو وجهها من وراء الحجاب.
أما شفيق فكان يودُّ انشغال رفيقه بأي شيءٍ كان ليعود هو إلى التأمُّل بما وقع فيه من الحب، ولم يكن عمره يعلم معنى الوجد، فلحظ أخيرًا من صديقه النظر بمنظاره إلى إحدى الخلوات، والتبسم تبسمًا يدلُّ على أن وراءه شيئًا، مع ما يخامر تبسمه من ظواهر الخلاعة، فخشي شفيق أن يهزأ الحضور برفيقه لما يُبديه من ضروب الخلاعة، فكاد يتميز غيظًا وقد علتْ وجهه حمرة الخجل، فنظر إليه نظرة اللطف والوداعة قائلًا: علامَ تضحك يا عزيزي؟ قال وأمارات النزق والخفة تبدو على وجهه: إني أشاهد من وراء هذا الحجاب معصمًا صيغ من بلور، وكأني به لو لم يمسك بالأساور لسال من الأكمام سيل الجداول، وأرى تلك اليد أشارت إليَّ (قال ذلك وهو يكاد يطير فرحًا)، فالتفت إليه شفيق شذرًا وقال: ما الذي أوجب وضع هذا الحجاب على نوافذ خلوات المخدرات؟ قال: هو منع الناس من النظر إليهنَّ، قال شفيق: ولماذا؟ قال: مراعاةً لحرمة الدين وجاري العادة.
فأحدق شفيق ببصره إليه قائلًا: وكيف إذن يليق بنا أن نسترق النظر إلى من يقيم بيننا وبينه حجابًا؟ أفلا نكون قد خرقنا حرمة الشرع والدين؟
فضحك عزيز ضحكة يستر بها خجله وسكت، وبعد يسير عاد إلى منظاره فنظر به إلى جهة المرسح وقال لشفيق: اعذرني قليلًا؛ فإني ذاهب في حاجة وأعود حالًا.
فعجب شفيق لتلك الوقاحة، ولكنه لم يسعه إلَّا الإجابة، فبعد خروجه مكث بانتظاره حتى طال غيابه، فلاح له أن هذا التأخير لا يخلو من بأس على رفيقه، فلم يستطع البقاء، فخرج يبحث عنه في سائر الخلوات، وفي حجر المنعشات خارجًا، فلم يقف له على خبر، فبقي في هذا الاضطراب ساعة زمانية، فلما دقت الساعة الحادية عشرة لم يَر بدًّا من الخروج؛ ظنًّا منه أن عزيزًا ربما خرج من الملهى فرارًا من أمرٍ.