وإذا تألفت القلوب على الهوى، فالناس تضرب في حديد بارد
وفيما هما في الحديث سمعا وقع أقدام، فعرفا أن الباشا قادم وتظاهرا بالسكون، فوصل الباشا مقطب الوجه، فرأى ابنته حمراء العينين، فازداد غضبه، فأمر بخيتًا أن يخرج خارجًا، ففعل، فنظر إلى ابنته شزرًا ولحيته تنتفض في وجهه، ويداه ترتعشان، حتى كادت السيكارة تقع من يده من شدة التأثر قائلًا: وما هي نهاية الأمر معك يا فدوى؟ أتريدين أن تلبسيني ثوب العار في هذه الديار؟
قالت: حاشا يا سيدي! لا ألبسك الله عارًا، وكيف تقول هذا القول؟
قال: أقوله لأني رأيت أنك تريدين عصيان أمري، والانقياد إلى الأهواء ومغازلة الأموات.
فقال: لا تقل هذا يا أبتاه؛ فإنك بذلك تزيد أشجاني، وتهيج أحزاني، وتسوِّد قلبي.
قال: وماذا؟ ألا تزالين راجية قيامة الأموات على هذه الأرض؟
قالت: إن آمالي لا تزال حية، وإن تكن الحياة فيها ضعيفة.
فنهض عن الكرسي بغتة وصرخ بأعلى صوته قائلًا: يا للعجب لهذه الآمال الكاذبة! ألا تصدقين أنه مات حتى تريه رأي العين؟
فأجابته وقد اغرورقت عيناها بالدموع قائلة: لا تقل مات يا أبتاه، بل قل إنه حي يرزق، بإذن الله.
فقال: هل إذا قلت ذلك يقوم من بين الأموات؟
فقالت: قد قلت لك إن آمالي لا تزال حية، والله على كل شيء قدير، وهب أنه لا سمح الله غير حي، فماذا تريد مني؟
قال: أريد أن تطيعي أوامري.
قالت: إني رهينة كل أوامرك ما خلا …
قال: لا تقولي ما خلا … ويظهر أنك لا تزالين على غيِّك وعقوقك، وليست هذه شيم من تربى تربيتك. فسكتت ولم تجبه، واشتغلت بمسح دموعها بمنديلها، فابتدرها هو بالكلام قائلًا: وما رأيك الآن؟ ألا تزالين على ما أنت عليه؟
قالت: إني لا أزال ابنتك الحقيرة، وروحي بيدك إلا … فغضب الباشا وانتهرها قائلًا: قلت لك دعينا من الاستثناءات، وعليك بترك الحقد والتمسك بالإخلاص.
فقالت: ها إني قد أخلصت، وهل تظن أني أريد بهذا الرجل سوءًا، حاشا لله! ولكن ماذا يترتب على هذا الإخلاص؟
قال: متى تأكدت إخلاصك أخبرك ماذا يترتب عليه في فرصة أخرى، فانهضي الآن واغسلي وجهك، وخففي روعك، ودعي عنك الهواجس. إنها مجلبة للسقام. إلى متى تعلقين آمالك بحبال الهواء، وإني لأعجب من هذا العناد بعد أن سمعت بأذنك عندما سألنا شفيقًا عن مذهبه ووطنه، فلم يقدر أن يحقق لنا ما إذا كان مسلمًا أو غير مسلم، ولا ما إذا كان من الشام أو مصر، فافرضي أنه حي، فهو ليس من أمثالنا، ولا يجب أن نعلق به آمالنا.
فكان هذا القول في قلب فدوى كالسهام، ولم يزدها إلا ولعًا بشفيق، ولكنها نهضت وغسلت وجهها وهي عالمة بما يضمر والدها، وقد أغضتْ عنه اختصارًا للمقال، وتخلُّصًا من القيل والقال، وأضمرت في باطن سرها الإصرار على عزمها مهما حال دون ذلك من الأهوال.