مسير الدراويش إلى الخرطوم
فلنترك صاحبنا عبودًا في انتظار الحملة، ولنعد إلى شفيق في الأُبيِّض حيث تركناه ينتظر الفرج من عند الله، فلبث حتى إذا كان ذات صباح علم أن المهدي أمر باستعراض جيشه استعراضًا عامًّا.
وفي صباح الغد، حضر الجميع إلى ساحة متسعة خارج البلدة؛ حيث استعرضت الجنود، ثم جاء المهدي وخلفاؤه وأمراؤه، فوقف المهدي بعد الصلاة للخطبة في الجماهير، فسأل شفيق حسنًا عن سبب هذا الجهاد، فقال: إن الحملة سائرة لمحاصرة الخرطوم. فلما انتصب المهدي للخطابة صمت الناس وأطرقوا إصغاء لقول زعيمهم.
فافتتح كلامه بالفاتحة، ثم أخذ يستحث الناس على الجهاد، ويغريهم بالقتل والاستشهاد. ولما أتم خطبته، أخذ الدراويش في الدعاء والتكبير، وقد هاجت عواطفهم وأصبحوا لا يخافون الموت.
ولما انتهى الاستعراض، وبلغت الأوامر بالسفر إلى جهات الخرطوم لنصرة الدراويش المحاصرين لها، وتشديد الحصار عليها، عاد المهدي إلى مجلسه بعد أن وكَل قيادة الحملة إلى الأمير ولد النجومي، على أن يتولى القيادة العامة لجنود المهدي التي هناك بعد وصوله إلى جهات الخرطوم. وكان من قواد المهدي في حصار الخرطوم الأمراء أبو جرجه وولده البصير حمد المهدي، والأمير الفضل، والأمير عبد القادر ولد أم مريم، والأمير مصطفى بن الفقي الأمين، وشيخ الأُبيِّض وغيرهم، وجميع هؤلاء تحت قيادة ولد النجومي.
أما شفيق، فاجتمع برفيقه حسن، وسأله عما سيكون من أمره، فقال: إنك ذاهب برفقة هذه الحملة إلى حصار الخرطوم. وهذا ولد النجومي؛ رئيس الحملة، سيسافر بعد غدٍ، فتسير أنت بصحبته كأحد الكتبة.
فقال شفيق: وكم عدد هذه الحملة المسافرة؟ قال: عشرون ألفًا، فقال: وهل هذه هي القوة التي ستحاصر الخرطوم؟ فقال حسن: اعلم يا أخي أن معظم الدراويش الآن محيطون بالخرطوم وأم درمان، وقد بدءوا بحصارها منذ عودنا من محاربة هيكس؛ أي قبل أن يأتي غوردون إلى السودان، ولكن المهدي أراد تعزيز القوة المحاصرة حتى يضايقوا المدينة ويأخذوها بالتسليم جوعًا وغوردون فيها.
فقال شفيق: وهل أنت ذاهب معنا إلى هناك؟ قال: لا؛ لأن الأوامر لم تصدر إليَّ بذلك بعدُ. ويا حبذا لو أتيح لي الذهاب معك! وإني أهنئك بهذا السفر؛ لأنك ستكون قريبًا من بلادك، وربما أتيح لك الخروج من معسكر الدراويش ودخول الخرطوم، فتدخل في حوزة الحكومة المصرية وتتخلص من هذه المرقعية.
ففرح شفيق بذلك، ورأى بابًا للفرج، وذهب إلى حجرته وأخذ في الاستعداد لطريقة يتخلص بها من هذه العبودية، ثم سافرت الحملة بعد الغد يتقدمها النقارات والفرسان، وفيهم الأمراء، ثم المشاة، وجميعهم في لباس الدراويش المتقدم ذكره، ووراء الجميع النساء والأولاد. وكان شفيق قد اعتاد طعام الدراويش. أما طعام السفر فقاصر على الذرة اليابسة، فكل رجل يحمل جرابًا فيه قدر من الذرة كلما جاع أكل منه شيئًا، وقلَّ بينهم من يحمل سقاءً ولو كان طريقهم في الصحراء؛ لأنهم يصبرون على العطش. وأما شفيق، فلم يكن كذلك، فقاسى في سفره هذا عذابًا أليمًا من العطش والجوع. وكان قد ودع صديقه حسنًا يوم خروجهم من الأُبيِّض، فلما أبعدوا عنها أيامًا اشتاق إليه وإلى مجالسته؛ لأنه كان تعزية كبيرة له في تلك الديار، وما زالت الحملة سائرة في البر تمر تارة بصحراء، وطورًا بغابات، وأخرى في جبال، حتى وصلوا إلى جوار الخرطوم، فبعث ولد النجومي الأخبار إلى رجال المهدي في الجهات المجاورة، فأخذوا في الاجتماع من سائر النواحي حتى زاد عددهم على مائة ألف، ففرَّقهم ولد النجومي فرقًا، وأرسل كل فرقة إلى مركز في جوار الخرطوم.