غوردون باشا وأهل الخرطوم
فلبث شفيق في ذلك المخفر حتى كان الغروب، فسمع وقع أقدام أفراس، فعلم أن غوردون قد عاد ثم لحظه مارًّا في صحن السراي مطرقًا عابسًا لا يلتفت يمنة ولا يسرة، وقد أراد الصعود إلى القاعة فابتدره شفيق وخاطبه بالإنكليزية، فالتفت بغتة فلم ير أحدًا في لباس الإنكليز، فناداه ثانية، فنظر إليه فلم يتحقق صورته؛ لأن الظلمة كانت قد سدلت نقابًا رفيعًا، فقال له: من أنت؟ قال: إني من ضباط الجيش الإنكليزي، فاختلج قلب غوردون؛ لأن لفظ «الجيش الإنكليزي» كان نصب عينيه ليلًا ونهارًا، وقد أقلق أفكاره ومل من انتظار مجيئه، فتقدم إلى النافذة وأمر بالنور فجيء به إليه، فتأمل الرجل فإذا هو بلباس الدراويش، ولكن صورته غير سودانية، فأمر بإخراجه وأن يلحق به، فسار الاثنان، فلما دخلا القاعة وقف الحضور احترامًا، فجلس غوردون وجلس الجميع وليس فيهم وجه باسم وهم ينظرون إلى شفيق ولباسه.
فابتدرهم غوردون بالخطاب قائلًا: لا تعجبوا لهذا الرجل ولباسه؛ فإنه حَمَل في ثياب الذئاب! فنزع شفيق العمامة والطاقية عن رأسه، فبان من تحتها أنه ليس درويشًا.
فقال له غوردون: ما اسمك؟ وما الذي جاء بك إلى هنا؟ قال: اسمي شفيق، وقد جاء بي إلى هنا بواعث الأقدار. وأحكى لهم الحكاية من أولها إلى آخرها، فلما وصل إلى المدافع التي أطلقها العصاة، وما دار بين المهدي وأمرائه، رفس غوردون الأرض برجله والتفت إلى من حوله من الجلوس قائلًا: ألم أقل لكم، يا سادتي، إنهم لم يقصدوا بتلك المدافع إلا إيهام رجالهم خلاف الواقع؛ تشجيعًا لهم، وقد عرفت ذلك من المرأة التي كنت أرسلها لاستطلاع أخبارهم. فها إن الإنكليز منتصرون، وعما قليل يكونون هنا.
فانقشع عن وجه الجلوس بعض العبوسة، وأخذوا ينظرون إلى شفيق نظرهم إلى رجل جاءهم رحمة، وجعلوا يسألونه عن حركات المهدي وقواته، فأخبرهم بكل شيء إلى أن قال: أما هؤلاء العربان، فعلى جانب عظيم من البسالة والإقدام، لا يبالون بالموت وهم متعاقدو الأيدي، مرتبطو القلوب، لا شيء يثنيهم عن القتال، وإذا قال المهدي فإنهم يُنزلون كلامه منزلة الوحي، ولا سيما إذا ادَّعى الحضرة كما أخبرتكم الآن. أما إذا صبرتم على دفاعه، فإنه لا يقوى عليكم؛ لأنكم تعلمون مما قدمت أنه في خوف، وإذا لاقى مقاومة شديدة يخور عزمه، ويعود على أعقابه إلى الأُبيِّض.
فقال قنصل اليونان: من لنا بالدفاع؟ ولكن من أين لنا ذلك وأهل المدينة ينطرحون في الأسواق عشرات يتضورون جوعًا؟ وهل نلومهم إذا أرادوا الخروج إلى العدو، فإن الحامية نفسها لا مئونة عندها على ما سمعت؟
فقال فتح الله جهامي: انظر يا سعادة الباشا، إننا لم نسمع بحصار مثل هذا الحصار، ولم نفهم ما معنى هذا الإبطاء. أيحل في قضاء الله أن نكون في مثل هذه الحال من الضنك والخطر ونجدتنا تأتي إلينا ماشية مشي العروس؟! فلا يأتي الدواء من العراق حتى يكون العليل فارق.
ثم قال إبراهيم بك فوزي: إننا يا سعادة الباشا إنما جئناك لنستفهم منك عما علمت من أمر الحملة؛ فقد ضاقت نفوسنا، وخارت قوانا، وهلكت أولادنا ونساؤنا، وانحطت ثقتنا، وأصبحنا في حال لم يصل إليها قبلنا ولن يصل إليها أحدٌ بعدنا. أتظن أننا إذا هاجمنا العرب نستطيع دفاعهم؟ وعلى من يكون اعتمادك؛ أعلى حامية حصونك الذين لا طعام لهم إلا الذُّرة، ولا يأكلون منها إلا ما يسدون به رمقهم، أم على أهل المدينة وقد ذهب بعضهم إلى معسكر العدو، ومات بعضهم من الجوع، ولم يبق إلا أفراد لا فرق بينهم وبين الأموات من شدة الضنك؛ فقد اشتد بهم الجوع حتى أكل بعضهم الكلاب والقطط والجلود والجرذان، ومضغوا سعف النخل، أم اعتمادك على الحملة الإنكليزية التي قد مرَّ عليها ستة أشهر ونحن نسمع بقرب صولها ولم تصل؟ ولا أظنها ستصل، فما رأيك؟
فالتفت إليهم غوردون لفتة الاستعطاف وعلامات التأثر ظاهرة على وجهه وقال لهم: ما الذي تريدونه مني؟ مروني فأفعل، ولا ألومكم إذا قلتم إني كاذب أو مماطل بوعودي عن مجيء الحملة، ولكني أقسم لكم بالشرف أني لم أكذب بشيء مما قلتُه وأقوله لكم؛ لأني أفضل الموت على التفوُّه بغير الصحيح، ولكن هذه هي الأخبار التي وصلتني. ها إني أُخلي لكم مركزي، وليتقدم من أراد منكم إلى مكاني، ولنَرَ ماذا يفعل، فإني أؤكد لكم أنه لا يستطيع أحسن مما فعلت؛ لأني بذلت كل ما بوسعي، ولا يخفى عليكم أني مساويكم بنفسي، وقد قيل: مَن ساواك بنفسه ما ظلمك. ولكن مهلًا سادتي، ها قد صبرنا كثيرًا ولم يبق إلا القليل، والجنود الإنكليزية في المتمة، وستكون هنا بعد يومين وننسى هذه الأتعاب.
فلما سمع شفيق ذلك الحديث ازداد كدرًا لحالة تلك المدينة حتى كاد يندم على مجيئه إليها، وتركه الخلاء الواسع، ولكنه تذكر قدوم الإنكليز وقرب وصولهم، فسكن روعه ونظر إلى غوردون، فإذا به قد نزع الطربوش عن رأسه، وقد خف شعره، وشاب ما بقي منه، وقطب وجهه، وأسند خده إلى كفه وهو غارق في بحار الهواجس، وجميع من في القاعة سكوت، ثم وقف الجميع وانصرفوا، وعاد غوردون بعد أن ودعهم إلى القاعة، فوقف له شفيق احترامًا، فنظر إليه نازعًا طربوشه بيده اليسرى، وخاطبه وقد أخذ منه الضجر كل مأخذ قائلًا: أرأيت عمرك مثل هذا الإهمال. ها قد مر عليَّ أكثر من ستة أشهر وأنا أنادي بأعلى صوتي مستنجدًا أصحابنا في لندرا أن يبعثوا بنجدة لإنقاذ حاميات السودان، فبعد أن شبعوا من المحاورة والجدل في برلمانهم، أقروا على إرسال النجدة، ولكني لا أظنها تصل قبل أن يصل إلينا الموت، فإن أهالي الخرطوم بعد أن كانوا يحترمون مقالي احترامهم لكلام منزَّل أصبحوا لا يصدقونني؛ لكثرة ما وعدتهم وأخلفت اعتمادًا على وعود أصحابنا في لندرا، فهل تصل تلك الحملة ونرى رجلًا منهم في الخرطوم. ثم رمى بطربوشه إلى المقعد وجلس مطرقًا ويده في جيبه، ثم تناول سيكارة من علبة بجانبه وأشعلها، وجعل ينفخ بها، فهاب شفيق غضب ذلك الرجل ولبث صامتًا لا يفوه ببنت شفة.
ثم نظر إليه غوردون قائلًا: دع التقادير تجري في أعنتها. وأمر بعض الحشم فجاء شفيقًا ببدلة، فغير ثياب الدراويش، ثم حضر الطعام فتناولاه، وتناوله معهما كبار الموظفين، ولم يفه أحد منهم بكلمة أثناء الطعام؛ لأن كلًّا منهم كان مفكرًا بما قد أحدق بحياته من الخطر.