رسم شفيق في سراي الخرطوم
وبعد العشاء بيسير، سار كلٌ إلى فراشه وفي الصباح التالي سأل شفيق عن غوردون، فقيل له: أنه على سطح السراي يراقب حركات العدو بالنظارات — وكان ذلك شغله في معظم النهار، فينظر تارة إلى العدو، وطورًا إلى النيل يترقب عود البواخر. وكان قد أرسلها لملاقاة الحملة الإنكليزية في جهات شندي؛ آملًا أن تكون قد جاءته بنفر من العساكر الإنكليزية؛ ليتحقق أمله بإنقاذ حامية الخرطوم وحبوط أمر المتمهدي — فلم يجسر شفيق على الصعود إليه ومخاطبته، فعاد إلى حجرة رقاده، ولبث مدة ثم خرج منها إلى غرفة الاستقبال، فشاهد فيها بعض الكتب والجرائد الإنكليزية، فأخذ يقلب فيها شاغلًا نفسه ريثما ينزل غوردون، فلاحت منه التفاتة إلى رسم فوتوغرافي بين الجرائد والأوراق، فخفق قلبه لما رآه؛ لأنه رسمه الذي أعطاه تذكارًا لفدوى وعليه علامته بخط يده، وزاد تعجبه كونه مقطوع الرأس بطرف مدية، فأخذت ركبتاه ترتجفان وقلبه يخفق، حتى كاد يغيب عن الوعي وهو لا يصدق أنه في يقظة؛ لأنه شعر لدى مشاهدته تلك الصورة كأنه على مقربة من حبيبته، فأخذت به الهواجس والقلق، وجعل يفكر في كيفية وصول ذلك الرسم إلى ذلك المكان، وما معنى قطع رأسه، وبقي واقفًا مطرقًا مدة، والصورة في يده حتى سمع الجنرال غوردون يخاطبه مسلمًا، فانتبه فإذا هو قد نزل من السطح والنظارات بيده، فبهت شفيق ثم رد التحية محنيًا رأسه احترامًا، ولكنه لم يستطع إخفاء ما كان فيه من الاضطراب والرسم لا يزال في يده، على أنه تجلد خوفًا من ظهور دلائل الوجد والغرام على وجهه؛ لأنه ليس في حال تتيح له ذلك. أما هو فنسي نفسه وما هو فيه من الخطر، وود لو أنه طير ليطير إلى حيث هي فدوى؛ ليشاهدها، ولم يخطر في باله حالة الخرطوم من الخطر، وقد نسي ما دار في مساء أمس من الحديث.
أما غوردون، فحمل تلك المظاهر في شفيق على خوفه من سقوط الخرطوم، بعد أن سمع ما سمعه في الأمس، فابتدره بالكلام قائلًا: لا تجزع يا عزيزي؛ إن قضاء الله — سبحانه وتعالى — لا مفر منه، ولا يجب أن تعوِّد نفسك الخوف وأنت في شرخ الشباب.
فتجلد شفيق وحاول التبسُّم ثم قال: إني يا سيدي لا خوف عليَّ طالما كنت والجنرال غوردون في حال واحدة؛ إذ لست أفضل منه، فقال غوردون: ولكن يا ولدي لا يخفى عليك أني قد أمسيت شيخًا، وقد انقضت أيامي، وأما أنت فلا تزال في أول حياتك، وربما تكون عازبًا عاقدًا على فتاة، وتود البقاء من أجلها، فعاد قلب شفيق إلى الخفقان، ولم يمكنه الجواب لتلعثم لسانه، ولكنه حاول الإجابة فسبقته العبرات رغمًا عنه، وكان يود إخفاءها في تلك الحال إخفاءً مؤبدًا؛ لئلا يظن به الجبن.
فظنه غوردون يبكي خوفًا من وقوع القضاء فقال له: تأمل يا ولدي بما يقاسي الإنسان من الأخطار في هذا العالم، ومن جميعها ينجيه الله.
فتنهد شفيق تتنهدًا عميقًا وسكت، ولم يكن غوردون لينتبه إلى عواطف شفيق؛ لأن الأهوال أنسته عواطف الشبان، وكل ما يتعلق بها. أما شفيق فأراد أن يسأل عن الرسم، وسبب وصوله إلى تلك الغرفة، لكنه لم يجسر على إطالة الكلام؛ لعلمه أن ذلك الرجل في شاغل أهم من ذلك كثيرًا، فصمت وإذا بغوردون قد جلس على المقعد وأشعل السيكارة، وأخذ ينفخ بها ويتلاهى بنفض رمادها بإصبعه وينقلها من يد إلى أخرى، ولا يكاد يمص منها مصة حتى يثنيها ويكررها مرارًا، حتى أمست تلك القاعة تعج بالدخان عجيجًا. كل ذلك وغوردون على المقعد جاعلًا رجلًا فوق أخرى، وقد نزع طربوشه وألقاه جانبًا وهو في قلق لا يستقر في مكان، فبعد أن جلس دقيقة على هذا الطرف من المقعد انتقل إلى الطرف الآخر؛ يتكئ تارة على اليمين، وطورًا على اليسار؛ لكثرة بلباله وقلقه. وكان وجهه قد اعتاد العبوسة، فلم يعد يعرف الابتسام إلا اغتصابًا، وأما شعره فأبيض بغير أوانه، وخف عن ذي قبل، وقد نحل وجهه حتى ظهرت فيه تثنيات الشيخوخة.
فهاب شفيق منظره ولم يجسر على مخاطبته في شيء، لكنه جلس إلى مقعد مقابل لمقعده يقلب صفحات كتاب كأنه يفتش عن شيء، ولكنه كان تائه الأفكار سائحًا في لجج الهواجس التي تراكمت عليه بين خطر وقلق وارتباك من أمر ذلك الرسم، فمضت عدة دقائق والاثنان صامتان لا ينطقان. أما غوردون فكان إذا انتهت سيكارة أشعل غيرها وهو لا يهدأ في جلوسه لحظة، وفيما هما في ذلك دخل جندي يقول: إن بورديني بك في الباب (أحد تجار المدينة. وقد أظهر شهامة عظمى في ذلك الحصار)، فقال الباشا: دعه يدخل.
فدخل الرجل وعليه الجبة والقفطان والعمامة، وهمَّ إلى يد الباشا ليقبلها، فرآه في تلك الحال من القلق، فاضطرب فؤاده ولم يعد يجسر على مخاطبته مع ما كان له من الدالة عليه. أما غوردون فحالما شاهد الرجل نزع طربوشه عن رأسه مغضبًا، ورمى به الأرض قائلًا: ماذا أقول الآن، فإني إذا قلت قولًا لا يصدقني أحد، فكم أنبأتهم بوصول النجدة ولم تصل، فلا بد أنهم يظنون بي سوءًا ورياء، فدعني أدخن هذه السكاير (وأشار إلى صندوقين ملآنين من السكاير على مائدة أمامه). وكان بورديني بك هذا قد جاء يدعو الباشا إلى جلسة يقررون بها قرارًا نهائيًّا بشأن الدفاع، فرأى أن الباشا لا يستطيع وهو في هذه الحال من الغيظ أن يحضر الجلسات، فتركه وانصرف، فازداد الباشا رهبة في قلب شفيق، وود الخروج من حضرته ريثما يسكن روعه، ولكنه لم يستطع النهوض ولا رفع نظره من الكتاب، ثم رأى الباشا ناهضًا فنهض هو، فإذا به قد حمل النظارة المقربة وصعد إلى سطح السراي ليراقب حركات الأعداء، وكانوا محدقين بالمدينة من جهاتها الأربع، فعاد شفيق إلى غرفته والرسم في يده يعيد النظر إليه المرة بعد الأخرى، ويفكر في كيفية خروجه من يد فدوى ووصوله إلى ذلك المكان، فصبَّر نفسه ريثما يهدأ بال غوردون بمجيء الإنكليز ويسأله عنه.
وما زال كذلك إلى وقت الغداء، فتناولوه، وبعد الغداء أخذ يفكر بالخطر المحدق بالمدينة، ولاح له أن يحافظ على بدلة الدراويش لعله يحتاج إليها في تنكر أو تستر، فتفقدها وجعلها في مكان يعلمه.