كتاب فدوى
وكان قد اسود لون جلده من معاناة الحر، وأتقن اللهجة السودانية جيدًا، وعرف اصطلاحات الدراويش في حديثهم وصلاتهم وسائر أحوالهم، فأخذ يجول في الجزيرة حافيًا، والسبحة في عنقه يكرر الشهادة والدعاء لنصرة الدراويش، وإبادة الكفار، وقد خارت قواه من التعب والسهر والجوع، فوصل إلى مكان اشتم فيه رائحة السودان، وهي رائحة خاصة بأهل السودان يشتمها الإنسان عن بعد، فتقدم نحوها فوصل إلى بيت صغير فيه ثلاثة من أهل تلك القرية، فحياهم بتحيتهم المعتادة، فردوا التحية ودعوه فجلس إليهم، فإذا هم يعدون الطعام وقد جعلوا على النار قدرًا فيه قليل من الماء، فسألوه عن حاله فقال: إنه ممن جاءوا للجهاد في سبيل الإمام المهدي، وقد أصيب برصاصة في رجله أثناء هجومه على المدينة، فلم يعد يستطيع الجهاد، فقالوا: والله إنك لقد نلت أجرًا، ويا حبذا لو كان مثل تلك الإصابة لنا!
ثم قال واحد منهم: والله إن النصارى (يريد الإنكليز) لا يعرفون كرامة سيدنا الإمام المهدي، ولو عرفوها ما تكلفوا المشقة والمجيء من أقاصي الدنيا لكي يعودوا بالفشل.
فقال شفيق: إن هؤلاء لا يعرفون كرامة أحد؛ ولذلك فإن الله قد أوقعهم في شر أعمالهم، ولم يعودوا يقدرون على المجيء إلى هنا بعد سقوط الخرطوم.
فقهقه الرجل ثم قال: وهبْ أنها لم تسقط. أتظنهم يستطيعون المجيء إليها؟ ألا تعلم ما فعل بهم سيدنا الإمام.
قال: وماذا فعل؟
قال: لقد رصدهم.
قال: وكيف ذلك؟
قال: يظهر أنك لم تسمع الخبر؛ وهو أن أميرنا كان في السنة الماضية سائرًا في رجاله إلى الدبة نجدة للدراويش، فعثروا في الطريق على جاسوس من جواسيس الترك آتيًا إلى غوردون، فأخذوا منه متاعه ونجا هو، فوجدوا في جملة متاعه صورة من صور عساكر النصارى الذين تتولى أمورهم حرمة، فلما رجعنا دفعوا الصورة إلى الإمام، فأخذها وصلى ثم قطع رأسها بسيفه، فقطعت رءوس الكفار كافة، ثم بعثها إلى غوردون في الخرطوم ليعلم هذا أن الذين هم قادمون إلى إنقاذه سيصيبهم مثلما أصاب تلك الصورة.
فأدرك شفيق من خلال تلك الحكاية أن تلك الصورة إنما هي صورته، وفهم معنى قطع رأسها، ولكنه لم يفهم كيف جيء بها إلى السودان، ولا من جاء بها، فأخذت منه الهواجس كل مأخذ، حتى خاف أن يظهر عليه ذلك، فتدارك الأمر بالدعاء للمهدي وكرامته.
وكانت القدر قد غلى ماؤها، فجاء أحدهم بقصعة من الخشب قد تلبدت عليها الأوساخ حتى صارت كأنها مدهونة بدهان أسود، واستخرج رفيقه من ثنيات ثوبه ورقة بيضاء ملفوفة وفتحها، فإذا فيها شيء من الويكة (فتات ورق البامياء الجاف)، وأخذ منها شيئًا جعله في ذلك الماء وجعل يحركه بإصبعه، وهي ليست أقل قذارة من القصعة، حتى صار مزيجًا لزجًا، واستخرج كل منهم رغيفًا من خبزهم الأسمر الملبد وأخذوا يغمسون في ذلك المزيج، ويأكلون ويلحسون أصابعهم بعد كل لقمة.
أما شفيق، فكان قد اعتاد ذلك الطعام، فتناول رغيفًا وفعل مثلما فعلوا.
وفيما هو يأكل لاحت منه التفاتة إلى الورقة التي كانت فيها الويكة، وحالما وقع نظره عليها خفق قلبه، ووقفت اللقمة في حلقومه، فحقق نظره فيها، فإذا هي مكتوبة بخط يشبه خط فدوى، فتناول الورقة بأسلوب لطيف وقد أمسك نفسه عن التأثر وتأملها، فتحقق لديه أن الخط خطها، وإذا هو كتابها إليه. وبما أن الورقة كانت خالية، ولم يعد لها عوز عند أصحابه حفظها في يده، ثم أخفاها في ثيابه، ولم يعد يستطيع طعامًا من شدة التأثر، فتظاهر بذهابه في حاجة، فلما خلا بنفسه فتحها وأخذ يقرأ ويبكي وهو في حيرة؛ لاتفاق ذلك له في ذلك اليوم، واستخرج صورته؛ لأنها كانت لا تزال محفوظة عنده، وفهم من ذلك الكتاب أن فدوى في بيروت تقاسي مر العذاب في انتظاره، وقد قنطت من رجوعه، ونظر إلى تاريخ الرقعة فعلم أنها خرجت من يد فدوى منذ عشرة أشهر. وكانت يومئذ قانطة من مجيئه، فكيف بعد هذه المدة؟
فأخذ يبكي ويتحرق لعدم استطاعته الوصول إليها، أو ربما لا يستطيع النجاة من تلك الديار كل حياته، فتصور له حال فدوى وأخذت ركبتاه ترتجفان وقلبه يكاد ينفطر، ولولا تعوُّده الأخطار والمشاق لأغمي عليه، ولكنه تجلَّد وعاد إلى رفاقه متظاهرًا بما أشغلهم عن ملاحظة حاله، وقضى معهم بقية ذلك النهار، ثم أحب الاعتزال عنهم؛ ليتمكن من البكاء؛ خوفًا من وقوع الريب فيه، ففارقهم إلى منعزل في الجزيرة بعيد، وجلس كل ليلة يتذكر فدوى ويبكي، ويندب سوء بخته وما وصل إليه، وكيف أنه مغلول لا يستطيع الوصول إليها، فكان إذا تصور ما قد يلم بها بسبب تأخره من القنوط تدب فيه الحمية؛ خوفًا من أن يكون سببًا لموتها، وقد لعن عزيزًا الخائن، وندم على إبقائه حيًّا، فقضى ذلك الليل في تلك الهواجس.