باخرة ولسن
وفي منتصف اليوم التالي (٢٨ يناير سنة ١٨٨٥)، شاهد باخرة قادمة على النيل فوقها العلم الإنكليزي، فعلم أنها قادمة لإنقاذ غوردون من الخرطوم، فقال بنفسه: سامحكم الله على إبطائكم؛ لقد ذهبت أعمالكم أدراج الرياح. ورأى أن نزوله إلى تلك الباخرة آمن له من البقاء هناك، فنظر إليها من الجزيرة فإذا هي تجر وراءها صندلًا ملآنًا بالعساكر الباشبوزوق السودانيين، فأشار إلى من فيها إشارة علموا منها أنه من جندهم، فاقتربوا بالباخرة من الجزيرة ودلوا له خشبة صعد بها إليهم وهو لا يصدق، فاجتمع إليه كل من فيها من الجنود الإنكليزية ينظرون إلى لباسه وهيئته ويعجبون، ثم ذهبوا به إلى ضابط إنكليزي قصير القامة، خفيف شعر العارضين، نحيف البنية، هادئ الطبع، وفهم من كلامهم أنه السير شارلس ولسن؛ رئيس قلم مخابرات الحملة النيلية التي جاءت لإنقاذ غوردون، فخلا به وسأله عن حاله، فقص عليه القصة بالاختصار، فلما تحقق أنه من رجالهم، سأله عن الخرطوم فأحكى له ما كان، وأشار عليه ألا يصل إليها؛ لأنها في قبضة العصاة، فلم يصغ إلى مقاله، فسارت السفينة والدراويش يضربونها من الجانبين، حتى وصلت الخرطوم، فتحقق السير شارلس قول شفيق؛ لأنه رأى أعلام المتمهدي تخفق فوق السراي، والقشلاق والأسوار وأماكن أخرى، ثم أطلقت عليهم الخرطوم عدة قنابل لم تأت بضرر، فعرج السير شارلس قاصدًا المتمة؛ حيث كان معسكرهم.
أما شفيق فجلس إلى شرفة من شرفات الباخرة وهي تخترق عباب النيل يتذكر ما مر عليه من الأهوال أثناء السنتين الغابرتين، ويشكر الله على ما وصل إليه، ثم خطر له ضياع الدبوس، ولكنه لم يكن يحسبه بالشيء المهم في جانب وصوله إلى فدوى والتقائه بوالديه. وبعد مسيرة يومين، وصلت بهم الباخرة إلى شلال السبلوكا؛ وهو الشلال السابع، فاصطدمت بصخر كبير فانكسرت وأوشكت أن تغرق، فصاح الناس: البدار البدار إلى النجاة من الغرق. فهرول شفيق في جملة المهرولين إلى الصندل، ونزل إليه والرصاص يتساقط عليهم من ضفتي النيل، فحملوا في ذلك الصندل ما استطاعوا حمله من الناس والمتاع وجروه إلى الشاطئ، فإذا هم على جزيرة يقال لها جزيرة ود حبشي، فخاف شفيق حبوط آماله؛ لأنه علم أنهم في أرض العدو المحيط بهم من كل الجهات.
ولا سيما لما رأى السير شارلس في حالة الخوف الشديد، وقد أحاط رجاله بزريبة من الشوك لم تكن تغني عنهم شيئًا، ثم علم أنهم بعثوا ضابطًا في قارب صغير يسير إلى المتمة لإعلام الحملة بذلك الأمر حتى يسرعوا إلى إنقاذهم.
ولبثوا على هذه الحال والخطر يزداد كل يوم، حتى مضى ثلاثة أيام أو أربعة، وفي سماء اليوم الرابع رأوا عن بعد باخرة قادمة من جهة المتمة، فعلموا أنها آتية لإنقاذهم، فاستبشروا بالنجاة وشاعت أبصارهم إليها حتى اقتربت من الجزيرة، ولكنهم لم يكادوا يتحققون فوزهم حتى سمعوا إطلاق المدافع من جهات العدو، ثم علموا بالإشارات أن الباخرة أصيبت بقنبلة في آلتها البخارية فتعطلت، فتحقق شفيق حبوط مسعاه، وأيقن بهلاكه وهلاك كل من كان معه.
وبقيت الباخرة تحت الترميم بقية ذلك اليوم ومعظم الليل والنار تتساقط عليها بين قنابل ورصاص، حتى قيض الله لهم إصلاحها فركبوها، فسارت بهم حتى أتت المتمة، فإذا بمعسكر الإنكليز هناك على ضفة النيل الغربية في محل يعرف بالقبة، وقد أيقنوا بالفشل بعد سقوط الخرطوم.
فودَّ شفيق أن يكون ذلك السقوط حاملًا لهم على الإسراع إلى الانسحاب نحو القاهرة؛ لأنه أصبح شديد القلق على والديه وحبيبته، ثم علم بعزم الحملة على ذلك، فسُرَّ، وبعد بضعة أيام انسحبت الحملة راجعة في طريق صحراء البيوضة قاصدة كورتي لتسير من هناك في النيل إلى مصر.
وقد علم شفيق أن المسافة في الصحراء ١٤ يومًا، فقطعوها بعد شق الأنفس مارِّين بأبي طليح وجكدول.
فلما وصلوا كورتي لم يكن يصدق أنه وصل، وأخذ ينتظر ورود الأوامر بالانسحاب إلى مصر، ولكنه علم من التلغرافات الواردة من لندرا أن الحكومة الإنكليزية قررت بقاء الجيش هناك؛ لقضاء فصل الصيف حتى يعودوا في الشتاء القابل إلى فتوح السودان، فأصبح النور في عينيه ظلامًا، ولكنه ما انفك ساعيًا حتى أذن له بنوع استثنائي أن يسير وحده إلى القاهرة، فأخذ ما يحتاج إليه وسار تارة يركب جملًا، وطورًا قاربًا قاصدًا القاهرة، فوصلها في أواخر شهر مارس سنة ١٨٨٥.
فلنتركه يفتش عن والديه، ولنرجع بالقارئ إلى بيروت لنرى ما تم لفدوى.