قرية عاليه
فسار بعد الغداء توًّا إلى عزيز وعلى وجهه أمارات البشر، فقص عليه ما دار بينه وبين ابنته، فقال عزيز وقد رقص قلبه في صدره: وأنا ماذا أفعل؟ قال: أما مسيرك معنا في عربة واحدة فلا يليق، ولكن يمكنك أن تتبعنا بعد بضعة أيام، فإننا ذاهبون إلى قرية عاليه، وهي على مسافة ثلاث ساعات في العربة من هنا، وموقعها في سفح جبل عالٍ تشرف على بساتين وغياض.
ثم أمر الباشا بخيتًا أن يهيئ ما يلزم للسفر، وبعد يومين سار الباشا وابنته وبخيت في عربة حتى وصلوا قرية عاليه، فاتخذوا لهم مكانًا في بيتٍ لبعض أهل القرية.
أما فدوى، فلما أشرفت على رُبى لبنان تعجبت من ارتفاعها وخصبها على كونها صخرية، وأما عاليه فأعجبتها وتحسنت صحتها فيها كثيرًا، وكانت تخرج مع والدها أو مع بخيت إلى الكروم خارج القرية، فيأكلون ما حضر من الفاكهة، ويُروِّحون النفس باستنشاق الهواء النقي الذي ليس له مثيل في العالم.
فلم يمض شهران حتى أحست فدوى بتحسن بيِّن في صحتها، وأما عزيز فإنه لحق بهم، واتخذ له مكانًا بالقرب من بيت الباشا حتى يطمئن قلبه على فدوى وهو لا يطمع مع ذلك بمشاهدتها، ولكنه كان يعلل النفس بمواعيد والدها. ورأى بعد مشورته أن لا حاجة إلى التنويم؛ لأنها أخذت تسلو شفيقًا وتميل إليه، فبعث إلى أوروبا يؤخِّر مجيء المنوم.
أما فدوى، فكانت تسلي نفسها ما استطاعت بالذهاب إلى الكروم والينابيع مع والدها أو بخيت، غير أن أفكارها ما انفكت قلقة على شفيق.
ففي ذات يوم من أيام سبتمبر، كانت قد خرجت مع بخيت للنزهة في بعض الكروم. ولما استقر بهما المقام على صخر مرتفع مشرف على عدة آكام يكسوها الكرم والتين والمشمش وغيرها، وقد مالت الشمس إلى الزوال، وأصبح منظر تلك التلال مع ما تشرف عليه من سواحل بحر الروم عن بُعد شاسع منظرًا بديعًا تزينه أشعة الشمس المائلة إلى الاصفرار، ويكلل البحر عند الأفق الشفق المتعدد الألوان، التي لا يقوى أشهر مصوري العالم على تقليدها.
فأخذت تتأمل في تلك المناظر البديعة، فمر في خاطرها الزمن الماضي وتذكرت شفيقًا وأحواله، وما تخافه عليه من الخطر، فبهتت مدة وقد ملأ الدمع عينيها، وازداد بها الوجد حتى بكت، فلحظ بخيت منها ذلك فأخذ يشغلها بالأحاديث والآمال، فقالت له: آه يا بخيت! إن هذا القلب لم يعد يمكنه الاحتمال، فها قد أصبحت كريشة في مهب الربح لا تستقر على حال، فلا أدري إذا كان الحبيب … آه! وسكتت ثم قالت: لا أعلم يا بخيت إذا كان لا يزال حيًّا، وما أنا في يأسٍ من حياته بعدُ أن قرأنا ذلك الكتاب، ولكن التردد صعب، بل هو أصعب الحالات. وزِدْ على كل ذلك أن هذا النذل الذي قد نضب ماء الحياء من وجهه لا يزال يميل إليَّ بعد أن عرف أني لا أقدر أن أراه، ولا يمكن أن أميل إليه أو أقبل به، فكيف يمكنني أن أرى شخصًا يترصد خروجي ودخولي ويسترق النظر إليَّ، وأنا لا أطيق النظر إليه؟ والأنكى من كل ذلك أن والدي قد وافقه على قصده، وأخشى أن يغريه على التعجيل في إنهاء ذلك الأمر، فنقع في بلاء أعظم، ويظهر أنه اطمأن ولم يعد في عجلة من الأمر. أما إذا عاد إلى العجلة، فأعود إلى قصدي السابق، وأفضِّل الموت على حياتي مع من لا أحبه، وهو لا يحب الذي أحبه. وترقرقت الدموع في عينيها.
فابتدرها بخيت قائلًا: طيبي قلبًا يا سيدتي، وتحققي أن الفرج قد صار قريبًا. أما أمر الاقتران فشيء يسهل تأجيله طالما كنت تظهرين لسيدي أنك لا تكرهين ذلك النذل الخائن. أما إذا رأى منك كرهًا له، فإنه يعجل في الأمر انتقامًا منك، واعلمي — وحياة رأسك وشرفك وعفافك — أن قتل عزيز أسهل لدي من شرب كأس ماء! ولا يتعجب ضميري قط؛ لأنه مستوجب لأكثر من القتل، ولكنني لا أرى داعيًا للتعجيل عليه، طالما كنا لا نخشاه، وهو لا يتجرأ على النظر إليك؛ فلا حاجة بنا إلى أن نعرض بأنفسنا لانتقام الحكومة، أو لغضب سيدي الباشا. أما إذا رأيت إلحاحًا يوجب أقل كدر لك، فإني أقتله ولو كان داخل القلاع والحصون ولا أبالي إذا قضيت بعد ذلك.
فقالت: لا تذكر القتل أمامي؛ إني لا أستطيع تصوره. قالت ذلك وتنهدت، ثم قالت: والأمر الذي يهمنا الآن إنما هو الالتقاء بمنى فؤادي ومهجة كبدي. آه من الدهر الخئون! وبكت … ثم قالت: والتخلص من هذا الإنسان الذي لا أقدر أن أحبه، والله يعلم ذلك.
ففكر بخيت قليلًا ثم قال: ليس لنا يا مولاتي إلا أن نشغل سعادة والدك بالأسفار من مكان إلى آخر؛ فإنه عند ذلك يؤجل أمر الاقتران لبعد عودنا إلى القاهرة، ونحن لا نعود من هنا إلا متى علمنا ما انتهى إليه أمر سيدي شفيق.