دمشق الشام
فلم تتم فدوى قراءة ذلك الكتاب حتى اختلج قلبها في صدرها، وارتجفت ركبتاها، وبردت أطرافها، ونادت قائلة: بخيت بخيت، ما ظنك بكاتب هذا؟ أليس والد حبيبي شفيق، فإن اسمه إبراهيم في قنصلاتو إنكلترا، وولده وحيد، وإلا فما معنى إخفاء والدي هذه الورقة عني.
فتبسم بخيت وقال بصوت منخفض: إن لذلك سببًا مهمًّا.
قالت: وما هو.
فأخرج من يده ورقة أخرى وقال: وهذا كتاب والدتك المرسل مع هذا. فتناولته وقرأتْ فإذا فيه:
أنت تعلم حكاية ضياع أخي أثناء حادثة دمشق سنة ١٨٦٠، وقد استنتجت من قراءة هذه الورقة أن كاتبها هو أخي بعينه، فبعثت بها إليك لأرى رأيك؛ لعلك تعرف شيئًا عن الرجل. وأحب المجيء إليكم؛ لأرى والديَّ، ونتفاوض في كيفية البحث عنه إلخ.
فبهتت وقد أخذ العجب منها مأخذًا عظيمًا، ثم نادت قائلة: إنه من ذوي قرابتي. آه يا بخيت! إنه ابن خالي! آه لو عرفت ذلك قبل الآن! ثم صمتت مدة تتأمل بهذا الاتفاق العجيب، وتذكرت مصيبتها وقد عظمت في عينيها، وازدادت في البكاء والنحيب.
فقال لها بخيت: هل أنت واثقة بما تقولين؟
قالت: أذكر قول والدتي مرة بأن لها أخًا فُقد منذ حادثة دمشق. وها إنه والد حبيبي شفيق، وهذا هو سبب محاولة والدي إخفاء ذلك عني؛ لئلا يهيج أشجاني.
فقال بخيت: عليك بكتمان الأمر كأنك لم تعلمي شيئًا عنه، ومتى جاءت والدتك كاشفيها بالحكاية، واستطلعي كنه الأمر منها. وها إني عائد بالأوراق إلى حيث كانت. قال ذلك وخرج، وعادت هي إلى فراشها وقد تعاظمت هواجسها، وتضاعف حبها لشفيق بعد أن عرفت بما بينهما من القرابة.
وفي اليوم التالي، بكَّرت للخروج إلى الكروم، وسار بخيت برفقتها، فافتتحت حديث الأمس، فرفس الأرض برجله قائلًا: أؤكد لك يا سيدتي أن الله سيطيب قلبك قريبًا؛ لأن محبتكما طاهرة، وأساسها القرابة عن غير علم منكما، فإن هذه الحجارة تقضي باجتماعكما، والله يفعل ما يشاء، فأرى الآن أن تلحِّي على سيدي الباشا ليستقدم سيدتي إلى هنا، ومتى جاءت تذهبون جميعًا إلى دمشق لمشاهدة جدَّيك، ومن هناك نرى ماذا يتم.
فلما عادت ألحت على والدها بذلك فأجابها؛ لأنه كان يراعي رأيها كثيرًا؛ حفظًا لرضاها على عزيز، حسب ظنه. وبعد مضي بضعة أشهر، جاءت والدتها، فاتخذت فدوى كل وسيلة حتى خاطبتها بأمر تلك الوصية، وأفهمتها أن أخاها هو والد شفيق حبيبها، فقالت والدتها: نطلب إلى الله أن يجمعنا بأخي، وعسى أن يعود شفيق من السودان حيًّا.
فتنهدت فدوى وسكتت تنتظر الفرج من عند الله.
وكان الشتاء قد جاء ولم تعد تطيب السكنى في لبنان؛ لتراكم الثلوج، وانهيال الأمطار، واشتداد البرد، فقرَّ رأيهم على السفر إلى دمشق؛ ليشاهدوا الأهل ويقضوا بقية فصل الشتاء هناك.
فبعث الباشا إلى بيروت يكتري عربة خصوصية من شركة طريق الشام، فلما حضرت العربة ركب بها الباشا وامرأته وابنته، وركب بخيت بجانب السائق تاركين سائر الخدم والأمتعة في عاليه.
أما عزيز فتواطأ مع الباشا على أن يتبعهم إلى دمشق، فسارت بهم العربة على تلك الربى في طريق كثيرة التعرج، تارة يصعدون، وطورًا ينحدرون، حتى وصلوا البقاع العزيزية المشهورة بخصبها واتساعها في منتصف الطريق بين بيروت ودمشق.
فانذهل الباشا وفدوى بنوع خاص لذلك المنظر البهج، فإن المشرف على تلك البقاع الخصبة يخيل له أنها بساط متسع منقسم أقسامًا مربعة، عديدة الألوان بين أحمر قانٍ وأسمر وأخضر وأزرق وسنجابي وعنابي وأبيض كاختلاف الزرع في النضج، والتربة في الحراثة.
فوقفت بهم العربة بالقرب من فندق في ذلك السهل نحو ساعة حتى استراحوا، ثم عادوا يريدون دمشق فلم يدركوها إلا بعد الغروب، فنزلوا في فندق مشرف على نهر بردى، ونزل الباشا في الصباح التالي يفتش عن حمويه، فإذا هما لا يزالان في بيتهما القديم. فلما شاهدا الباشا لم يعرفاه لطول غيابه عنهما، وهو أيضًا لم يعرفهما؛ لما كان من تأثير الشيخوخة عليهما، مع ما رافق حياتهما من الأحزان والأكدار. ولمَّا عرَفاه وعرَفهما همَّا إليه وقبَّلاه وقبَّل أيديهما، وسألاه عن ابنتهما، فقال: هي هنا معي بخير، وابنتي كذلك، وإنما جئت وحدي لكي أتحقق وجودكما في البيت، فتقدما إليه أن يبعث إليهما فيأتيا، فذهب هو بنفسه وجاء بهم جميعًا، ونزلوا في بيت عمه. ولا تسل عن قلب ذينك الوالدين وما أظهراه من الاشتياق لابنتهما التي لم يرياها منذ ٢٥ سنة تقريبًا، وقد أحبَّا فدوى بنوع خاص لما كان في وجهها من اللطف والجمال مع ما هي فيه من الضعف.
فمكث الباشا وسائر عائلته في دمشق بقية ذلك الشتاء إلى ربيع سنة ١٨٨٥، وكان عزيز قد جاء دمشق يترقب نيل مرامه، وكان قد خامره ريب في مواعيد الباشا لطول مدة الانتظار، ولكنه لم يجترئ على مخاطبته إلا برقة وحسن أسلوب لئلا يغضبه؛ إذ كان قد عرف أن يده على جميع ممتلكاته. ولا تسل عن ندمه على كتابة تلك الورقة، ولم يكن يُظهر ذلك أمام أحد.
ولما جاء الربيع أراد الباشا الرجوع إلى مصر، وألح على حمويه أن يذهبا معه؛ إذ ليس لهما إرب في دمشق — وكان قد أطلعهما على تلك الورقة — فقال: إننا من الممكن أن نجتمع بولدكما في مصر. أما إلى هنا، فلا أظنه يأتي؛ فالأفضل أن تسيرا معنا نقضي بقية هذه الحياة معًا في مصر، فاستحسنا الرأي، بل كان ذلك غاية مناهما تخلُّصًا من تذكر ولدهما في المدينة التي فُقد فيها، فباعا كل ما كان لهما من الأمتعة والأثاث والأملاك، وهاجرا دمشق وقد تجددت أحزانهما بعد تلاوة تلك الورقة، وبكيا من أجلها بكاءً شديدًا.