وادي القرن
ففي أوائل شهر نيسان (أفريل) سنة ١٨٨٥، اكتروا عربتين ركب في إحداهما فدوى وجدَّاها — وكانا قد أحبَّاها محبة عظيمة جدًّا، ولم يعودوا يفارقانها ساعة — وفي الأخرى الباشا وامرأته وبخيت، وجميعهم ملثمون بالكوفيات الحريرية الدمشقية، وقد التف الرجال منهم بالعبي؛ وقاية لهم من غبار الطريق، واتباعًا لعادة المسافرين في تلك الجهات، فبرحوا دمشق صباحًا على نية أن يصلوا البقاع في الأصيل، ومن هناك يعرجون إلى بعلبك، فيصلونها في الغروب، فيبيتون فيها ويقضون بها اليوم التالي لمشاهدة قلعتها الشهيرة، ثم يواصلون السير في الغد إلى بيروت. وكان الباشا قد أخبر عزيزًا بذلك حتى يقتفي أثرهم.
فسارت العربتان في الطريق المعدة للمسافرين بين دمشق وبيروت، وما زالوا سائرين وعربة الباشا إلى الأمام، والعربة الثانية إلى الوراء مدة ثلاث ساعات. وكانتا سائرتين بسرعة بأمر الباشا لئلا يداهمهم الليل في الطريق، وفيها من الأماكن الخطرة التي تقطعها اللصوص، ويتعرضون بها لأبناء السبيل للنهب والقتل. وفيما هم سائرون حرنت خيل عربة فدوى وجعلت تتقهقر إلى الوراء، والطريق هناك على حافة تحتها هوة عظيمة، فخاف السائق أن تهوي بهم العربة إلى ذلك الوادي، فأنذرهم بالخطر، فتحولوا من العربة حالًا. أما الخيل فلم تكن تزداد إلا حرونًا حتى صدمت العربة صخرًا، فتعطل بعض أدواتها، فبعث السائق إلى أقرب مركز للشركة، فأتى ببعض الرجال بنجدته، فحلُّوا الخيل وأخذوا في تصليح العربة. وكان الباشا قد عاد بعربته بعد أن عرف ما حل بالعربة الأخرى، ولبثوا ينتظرون تصليحها، فلم يتم إلا بعد الظهر بساعتين، فركبوا وساروا يجدون السير خوفًا من خطر الطريق إذا داهمهم الليل فيها، فبدلوا الخيل في محطة ميرسلون، وساروا قليلًا، فأشرفوا على انحدار ينتهي بوادٍ عميق بين جبلين، والشمس قد قاربت الزوال، وشاهدوا إلى جانب الطريق قبل مدخل الوادي بناء قديمًا مهجورًا، فعجبوا له، وقد هابهم سكون ذلك المكان وقفره، ثم لحظوا في ذلك البناء أشخاصًا في لباس أهل تلك الناحية قد وقفوا أمام البناء ينظرون إلى العربتين وهما سائرتان حتى مرَّتا بهم، ثم رآهم بخيت بعد أن بعدت العربتان يسيرون في أثرهما رويدًا رويدًا، فأوجس خوفًا منهم، ولم يخبر أحدًا لئلا يخافوا، ولكنه أوعز إلى السائقين أن يجدَّا في السَّوق ليبعدوا عن أولئك. وما زالت العربتان سائرتين حتى دخلتا ذلك الوادي، فإذا هم بين جبلين شامخين شموخًا عظيمًا، حتى لا يرى المار من السماء إلا جزءًا صغيرًا جدًّا، فقال أحد السائقين يخاطب بخيتًا: هذا هو المكان المعروف بوادي القرن؛ المشهور بقاطعي الطرق، وكان الخطر شديدًا جدًّا في الزمن الماضي، وأما الآن فقد نظمت شركة العربات خفرًا من الفرسان يتجولون ذهابًا وإيابًا؛ حمايةً لها، وتهديدًا للذين يقطنون هذا الجوار من التعدي، والحكومة أيضًا قد نظمت نفرًا من الجند لهذه الغاية. وقد شاهدنا بعض هؤلاء في طريقنا منذ ساعة، فقال الباشا: نعم، قد رأيناهم — وقد أثر ذلك الكلام في قلبه خوفًا شديدًا، لا سيما عندما تذكر أن معظم رفاقه نساء وشيوخ لا يقوون على الدفاع، فبهت الجميع لرهبة ذلك المكان المخيف مع ما سمعوه من حديث ذلك الوادي مما يتحدث به الخاص والعام في سائر بلاد الشام.
فسارت العربتان برهة والرهبة مستولية على الجميع، وكان الفرس الذي تبدل في محطة ميرسلون حرونًا، فأجفل بغتة وأخذ يسير القهقرى حتى دارت العربة وسقطت إحدى عجلاتها في قناة على جانب الطريق، ولم يعد طلوعها ممكنًا إلا رفعًا بالأيدي. وكان الباشا فيها، فاستعاذ بالله، ونزل بخيت لمساعدة السائق في إخراجها، وما زالوا يعالجونها مدة حتى غابت الشمس وأظلمت الدنيا. وكان السائقان من الجهة الأخرى ينقمان على الساعة التي ركب فيها هؤلاء الركاب معهم، وكان الباشا يسمع السبَّ بأذنيه ويغضُّ الطرف لمَا رأى من افتقاره إلى ذينك السائقين إذا اقتضت الحال، فأخذ يلاطفهما ويقدم لهما سكاير للتدخين وغير ذلك من أنواع الملاطفة وهم لا يزدادون إلا غضبًا. وأما بخيت فكان قد درس طباع القوم، وسمع كثيرًا من حوادث وادي القرن، فأخذ يتظاهر أمام السائقين بعدم الاكتراث؛ تشجيعًا لهما، ووقاية من تعديهما.
ولم تخرج العربة من القناة إلا بعد الغروب بساعة، فتشاءم الجميع مما اتفق لهم في ذلك اليوم، وكان البرد قد اشتد، فبالغوا في التلثُّم حتى لم يعد يظهر من وجوههم إلا العيون، وتزمَّلوا بالعبي تزمُّلًا مُحْكمًا نساءً ورجالًا، وكل منهم يحاذر أن يسمع صوتًا، أو يرى شبحًا؛ لهول ذلك الوادي وشدة رهبته. أما فدوى فكانت مع جدَّيها في عربة مقفلة، وقلما علموا شيئًا مما كان يحاذره الآخرون، غير أن منظر ذلك الوادي كان كافيًا لإرهاب أشد الرجال.
فأنار السائقان مصابيح العربتين وهمَّا بالسَّوق وقد لعنا ذلك اليوم، وكان بخيت راكبًا بجوار السائق في العربة الأمامية. ولم تجر الخيل حتى سمعوا وقع أقدام وراءهم، فالتفت بخيت فإذا بالرجال الذين خرجوا من ذلك البناء قد أسرعوا يريدون إدراك العربتين، فأوعز إلى السائقين أن يُسرعا، وإذا بهؤلاء الرجال قد أدركوا الخيل وأمسكوا بأعنتها وأوقفوها، فصاح بهم بخيت — وكان منظره مخيفًا للغاية؛ لأنه كان شديد السواد، محملق العينين، ملثمًا بالكوفية، فأصبح منظره في ذلك النور الضعيف كمنظر الجان — فلما صاح بهم أجابه أحدُهم قائلًا: هاتوا ما عندكم وفوزوا بأرواحكم. فأجابه بخيت بصوت جهوري وقلب لا يهاب الموت: ليس عندنا إلا السيوف القاطعة، والنار الدائمة، وإذا أعدت السؤال لا ينوبك إلا الوبال أنت وجميع هؤلاء الأنذال، فقال الرجل: فوزوا بأرواحكم؛ ذلك خير لكم، فإنكم نفر قليلون، فنذيقكم الهلاك بهذه السيوف. وجرد سيفه.
فوثب بخيت من العربة وفي يده الريفولفر، وأطلق منه طلقًا قائلًا: إننا لا نهاب سيوفكم، وهذه نارنا تحرق أبدانكم، فسيروا بأنفسكم من هنا قبل أن يدرككم الهلاك. وكان بخيت يتكلم وقلبه واجس على أسياده، ولا سيما فدوى. أما السائقان فلأنهما مسئولان عن العربتين أمام أصحاب الشركة اضطرا إلى مشاركة بخيت بالدفاع.
أما أولئك اللصوص فكانوا قد علموا بنور المصابيح أن ليس في هاتين العربتين من الرجال الأشداء غير هذا العبد والسائقين، فصفر أحدهم بصفارة فخرج من جوانب الطريق نفرٌ من أمثالهم بالسيوف والعصي، فوقع الرعب في قلوب الجميع. أما بخيت فاشتدت به النخوة حتى أوصلته إلى الجنون، وتقدم إلى كلٍّ من السائقين قائلًا: إنكم إذا ساعدتمونا تنالان من سيدي الباشا مالًا كثيرًا، وتنقذان أنفسكما، فهيا بنا يا رجال لبنان. فاتقدت بهما نار الحمية، واستل كل منهما شاكريته (خنجره)، ونزلا يريدان إيهام اللصوص أنهم عدة كثيرة.
وكان هؤلاء قد همُّوا إلى العربتين، فأطلق عليهم بخيت بعض الطلقات النارية فجُرح اثنان منهم، وبدلًا من أن يفرُّوا جمهروا حتى بلغ عددهم أكثر من العشرة، وأصيب بخيت بضربة في كتفه، فصاح من الألم، ولكنه لم يكف عن الدفاع.
وأما العربتان، فإن خيلهما أجفلت من إطلاق النار، وسارت القهقرى، وجعلت ترفس الأرض بأرجلها، فأصبحت فدوى وجدَّاها في خوف لا مزيد عليه، وكذلك الباشا وامرأته في العربة الثانية. وفيما الخصام قائم كان بعض هؤلاء اللصوص واقفين عند العربتين وقد أطفئوا مصابيحهما، وأخذوا يطلبون إلى من فيها أن يسلِّموا ما لديهم، فلم يمنع الباشا منهم شيئًا، ووعدهم بأكثر من ذلك إذا كفوا عن أذاهم. وأما هم، فلم يكن يرضيهم شيء قط، ثم جاء رفاقهم بعد أن تركوا بخيتًا مضرجًا بدماه بين حي وميت وقد فرَّ السائقان.
فنزل الباشا من عربته، ونزل ذلك الشيخ من العربة الثانية وأخذا في استعطاف هؤلاء اللصوص واسترحامهم قائلين: إننا نعطيكم كل ما تريدون، وإنما نريد منكم الكف عن أذانا؛ لأن بصحبتنا نساء، فتقدم واحد منهم وأشعل عودًا أمام نافذة عربة فدوى، فإذا فيها تلك العجوز وفدوى إلى جانبها في لباس السفر، وفي وجهها من وراء اللثام جمال باهر، فلما رأته بالغت في التلثم، وأخذت في البكاء والانتحاب مع جدتها، فقال أحد هؤلاء اللصوص: لا تبكوا؛ إننا نكف عن قتالكم إذا أعطيتمونا كل ما معكم، وهذه الفتاة. وأشار إلى فدوى، فصاح الباشا وتضرع إليهم أن يستبدلوها بما شاءوا، فلم يقبلوا، ثم أمسكها أحدهم بيدها وجذبها من العربة، فسقطت على الأرض، فقامت الصيحة، وتعاظم النواح والبكاء والاستغاثة، وهؤلاء لا يبالون، ولم يشغلهم شاغل عن جر فدوى على التراب يريدون حملها، وقد همَّ بعضهم إلى نهب العربتين.