دليلة الدلالة
أما شفيق فبقي واقفًا مكانه وقد فقد حواسه بذهاب فدوى حتى زاحمه المارَّة فانتبهَ إلى نفسه، وتوجهَ توًّا إلى الملعب فشاهد بخيتًا ينتظره خارجًا، فلما اقترب منه أخذه جانبًا وشرع يستطلع منه ما أشارت إليه فدوى ممَّا لم تقدر أن تفوهَ به هي، فقال بخيت: إني لا أستحيي أن أقول لك يا سيدي أن عزيزًا لا يستحق أن يكون صديقًا لك.
قال شفيق: لماذا؟
– لأنه رجل ذميم.
– وكيف ذلك؟
– لأنه غادرك على مثل الجَمر وسار إلى مَن هي على شاكلته.
فقاطعه شفيق: ماذا تقول؟
أقول الواقع يا سيدي، وكيفية الأمر أني كنت في الخلوة مع سيدتي نراقب حركاتكما؛ لأنها أعجبت بك وبشريف مباديك، فلاحت مني التفاتة إلى بعض الخلوات، فإذا بواحدة قد أومأت إليه من وراء الحجاب. ولما خرج هو من عندك خرجت هي من خلوتها، ولا أعلم إلى أين، وإنما أؤكد لك أنهما لم يخرجا من الملعب، فإذا بقيت هنا إلى انقضاء التمثيل لا بدَّ من أن تراه خارجًا.
فقال شفيق وقد اشتدَّ به الغضب: يا للغرابة! كيف يمكن أن يكون ذلك؟
قال بخيت: إن سموَّ أدبك يا سيدي يجعلك ألا تظن به سوءًا؛ فتعال بنا ندخل الملعب وأنا أبحث عنه، فإذا ظفرت بمكانه أتيتُ بك إليه وأريتُك إياه رأي العين. ثم دخلا وسار شفيق إلى خلوته، وذهب بخيت ليفتش عن عزيز. وبعد يسيرٍ، عاد مهرولًا وعلى وجهه أمارات الدهشة، فسأله شفيق عن الخبر، فقال: لقيت صاحبك وسيدي الباشا في خلوة يتسارَّان، وسأرجع إليك بما يدور بينهما، فانذهل شفيق ولبث مبهوتًا يفكر في أمر صديقه، وعاد بخيت لاستطلاع الخبر.
أما ما كان من أمر عزيز، فإنه غادر شفيقًا في خلوته وخرج لمحادثة عجوز دهياء كأنها حية رقطاء بجفن أحمر، وخد أصفر، ووجه أغبش. وكانت هذه العجوز في الخلوة التي أشار إليها بخيت، وهي دلَّالة تبيع الأقمشة والمصاغ على السيدات في بيوت الأعيان وأرباب المناصب، تتكلم التركية والفرنسوية جيدًا، وقد عاشت زمنًا طويلًا حتى صيرها الدهر عظْمًا على جلدٍ، فلما رأتْ عزيزًا رحبت به؛ طمعًا في غنائه، وقالت له: ما وراءك؟
قال: بل أنت ما وراءك؟
قالت: ليس لديَّ إلَّا الخير.
فضحك عزيزُ مُظهرًا لها الوقار والاعتبار وقال: أدامك الله لنا يا خالتي دليلة؛ إنك — والله — ملجَؤُنا وهدانا.
قالت: بارك الله فيك يا ولدي.
فقال: أعندك للسرِّ مكان؟
قالت: بئر عميقة. وهل تجهل ذلك؟
قال: كلَّا، وأنا لديَّ أمر ذو بال أحتاج في قضائه إلى هِمَّتك وغَيرتك.
قالت: قل ما بدا لك. إني رهينة أمرك.
فمدَّ يده إلى جيبه وأخرج نقودًا في منديل وقال لها (جاعلًا تلك الصرَّة في يدها بإشارة لطيفة): مرادي أن أُكلِّفك قضاءَ أمرٍ أرجو ألا يكون صعبًا لديك.
قالت وقد وضعت الدراهم في جيبها: ثق يا حبيبي أنك بمعزَّة ولدي، وما يهمك يهمني، وقد عتبت عليك لدفعك لي دراهم، ولم أقبلْها إلَّا مرضاةً لك.
فقال عزيز: ليس لنا بركة إلَّا فيك يا خالتي، وأما ما أطلب إليك قضاءَه فهو: هل تعرفين فلانًا باشا؟
فقهقهت دليلة قائلةً: أليس الباشا المورالي الذي كان أبوه في جند إبراهيم باشا عند عوده من حرب المورا، فإني أعرفه جيدًا، وأعرف امرأته وهي تعرفني، وكل يوم تقريبًا أراها، وذلك من يوم أتى بها من بر الشام؛ لأنه تزوَّج بها هناك.
قال: وهل تعرفين ابنته فدوى ذات الحسن والجمال والبهاء والكمال.
قالت: كيف لا أعرفها وهي عندي بمنزلة ابنتي، وقد عرفتها منذ نعومة أظفارها.
قال عزيز: لقد قضي الأمر؛ فإذا كانت هي — كما تقولين — بمثابة ابنتك، أظنُّك لا تكرهين أن أكون عندك بمثابة صهرك. فسكتت هنيهة ثم قالت: ذلك أمر سهل، ولا يكون إلَّا ما تريد؛ فأنت شاب غنيٌّ، وهي لا تطمع بمن هو أكثر منك مالًا، وأعظم نوالًا، ولكني علمتُ منذ بضعة أسابيع أنها معقود عليها لأحد شبان العاصمة.
فقاطعها عزيز قائلًا: لم يعقد له عليها، وإنما طلبها من أبيها ولم ترضَ هي، وقد ترتب على ذلك ميله إلى الانتقام منها. فامدُديني برأيكِ لعلِّي أكسب رضاءَ تلك العذراء؛ لأني أحبها حبًّا زائدًا.
قالت: عليك بمرضاة أبيها، وعليَّ مرضاة أمها. أما هي فلا أظنها تخالف والديها.
قال: وما الذي يُرضي أباها؟ وإلامَ تتوق نفسه؟
قالت: إنه بخيل يحب المال، ويستسهل الصعب في سبيل نواله، ومثله الإطراء والمدح.
قال: ماذا يتعاطى من الأعمال؟
– لا يتعاطى عملًا؛ لأنه ذو عقارات كثيرة يعيش مِن دَخْلها، ويقضي معظم أيام السنة في أبعدية له في مديرية الشرقية.
قال عزيز: عليكِ إذن استطلاع رأي والدتها. وها إني ماضٍ إلى والدها لعلي أستفيد منه شيئًا. ثم ودَّعها وخرج.