النجدة
وفيما هم في ذلك سمعوا صوت وقع خيول قادمة طرادًا، فظن الباشا أنها نجدة لهؤلاء اللصوص، وأما هم فعلموا أنها ليست لهم، فخافوا وأسرعوا إلى نيل مرامهم، فهمَّ بعضهم إلى الباشا يفتشونه، والبعض الآخر إلى فدوى يريدون حملها والذهاب بها، فصاحت: ويلاه! اتركوني يا ناس وخافوا من الله. ولم تتم كلامها حتى وصلت الخيالة وهم ينادون: عنهم يا كلاب يا أنذال. فعلم الباشا أن القادمين من الخفراء، فاشتدت عزائمه — وكان قد سار إلى ابنته ليدافع عنها — فلما وصلت الخيالة أطلقوا على اللصوص بعض الطلقات النارية، فطلب هؤلاء الفرار، ولما لم يبق أحد منهم تقدم الفرسان، وعددهم خمسة، إلى العربتين، فقامت فدوى إلى عربتها، فنظر إليهم الباشا فإذا هم ملثمون بالكوفيات، وعليهم لباس العسكرية، فتقدم إليهم شاكرًا وتوسل إليهم أن يرافقوهم إلى البقاع أو إلى بعلبك، وقال: إن السائقين فرَّا، ونحن لا نعرف الطريق، فضلًا عن الخطر. فأجابوا الطلب، فقال الباشا لبعضهم: هلمَّ معي نفتش عن خادمي حيث كانت الموقعة. وساروا تحت جنح الظلام، فإذا ببخيت يئن من الألم، فسألوه عما به، فأشار إلى أنه مصاب بجرح في كتفه، وآخر في فخذه لا يستطيع النهوض، فحملوه إلى العربة، وركب اثنان من هؤلاء الفرسان في محل السائقين، وساقا العربتين، وسار من بقي منهم راكبًا حذاء العربتين.
أما فدوى فكان قد سكن روعها، وأما قلبها فكان واجسًا على بخيت، وقد علمت أنه جريح، ولم يمض يسير حتى خرجوا من ذلك الوادي، ووصلوا محطة الجديدة فإذا بالسائقين، فعنَّفهما الباشا على فرارهما، فاعتذرا بأنهما جاءا ليبلغا ما حصل لمأمور المحطة ليرسل مَن ينجدهم، ثم ركب كل منهما كرسيه بعد أن بدلا الخيل، وأنارا المصابيح، وساقا العربتين، وقد أحاط الفرسان بهما، وسار الجميع يريدون البقاع.
ففي أثناء الطريق، كان بمحاذاة عربة فدوى أحد هؤلاء الفرسان، وكان جدها الشيخ قد لحظ في محطة الجديدة على نور المصباح أن تحت عباءة ذلك الفارس لباسًا ملكيًّا، وليس عسكريًّا كسائر رفقائه، فلم يعتدَّ بذلك، فلما كان بإزائه أراد الاستفهام منه عن بعض أحوال تلك الجهات، فأدار شكيمة جواده وأشار إلى أحد رفاقه فجاء إلى الشيخ وسأله عما يريده.
فتعجب الشيخ لذلك، وكيف أن ذلك الفارس لم يكترث بسؤاله، فلما جاءه الفارس الثاني وسأله عما يريد قال: أريد منك أن تخبرني أولًا عن هذا الفارس رفيقك، فإني سألته عن بعض أحوال هذه الجهات فلم يجبني، والمنتظر منه أن يعرف ذلك جيدًا.
فقال الفارس: إنه يا سيدي ليس خفيرًا ولا نحن خفراء.
قال: ومن هو إذن؟ ومن أنتم؟
قال: إنه مسافر لقيناه في البقاع قادمًا من بيروت وقاصدًا دمشق في عجلة، وكان قد دنا الليل وهو لا يعرف الطريق، ونحن جند لبناني ذاهبون في مهمة إلى دمشق، فطلب إلينا مرافقته، فأجبنا الطلب، ويظهر أنه كريم النفس جدًّا؛ لأنه حالما سمع استنجادكم هجم أمام الجميع فتبعناه، وقد عمل في نجاتكم عملًا لم نعمله نحن جميعنا، ومع كثرة استعجاله في المسير إلى دمشق لم يستنكف من مرافقتكم إلى البقاع، مع أن هذا الرجوع يؤخر وصوله إلى دمشق يومًا كاملًا على الأقل، فأعجب الشيخ لهذه الشهامة، وعوَّل أنه عندما يصلون إلى البقاع يخبر صهره بذلك ليوفيه حقه من الشكر والثناء.
وكانت فدوى جالسة بجانب جدِّها تسمع حكاية الفارس، فأعجبتها تلك الشهامة، وتذكرت حبيبها شفيقًا؛ مثال الشهامة والمروءة، فهاج بها الوجد، وأخذت دموعها تتساقط رغمًا عنها، ولم تكن تخشى ملاحظة جدَّيها؛ لأن داخل العربة مظلم إلا إذا كلماها، فإنها لا تستطيع الجواب لاختناقها بالدموع.
وفيما كان الشيخ يخاطب العسكري بذلك، كان الباشا يخاطب عسكريًّا آخر بإزاء عربته في أحاديث مختلفة على سبيل التسلية، ففهم منه الباشا مثلما فهم الشيخ، فتعجب لشهامة ذلك الفارس أيضًا.
وكان الفارس المحكي عنه سائقًا وراء العربة الخلفية التي هي عربة فدوى، وهو في شاغل عن كل تلك الأحاديث بما يجول في خاطره من الهواجس والتأملات، تطلعًا إلى دمشق التي يتوقع الوصول إليها بفروغ الصبر، ولم يحمله على تأخير وصوله إليها إلا شهامته.
وما زالت العربتان جاريتين حتى سمع الباشا الفرسان يقولون: قد وصلنا البقاع العزيزية، وأصبحنا على مسافة ٤ ساعات من بعلبك، فقال الباشا: أظن الأفضل أن نبيت بقية هذا الليل في إحدى القرى المجاورة؛ لأن حركة العربة قد أضرت بجراح الجريح. ثم سأل عن أقرب قرية من الطريق، فقيل له: إن هناك قرية على مسافة نصف ساعة، فهمَّ أن يأمر السائق بالمسير إليها، فإذا ببخيت يئن، وكان في عربة الباشا فسأله عن حاله فقال: إنه لم يعد يستطيع البقاء في العربة لحظة، فأوقفوا العربتين، فنزلت فدوى وهي ملثمة ودنت من والدها تسأله عن بخيت، فطيب قلبها وبعث أحد الفرسان يسأل عن أقرب بيت في ذلك الجوار، فعاد حالًا وأخبر أنه وجد بيتًا كبيرًا على مقربة منهم، فنزل الجميع — وكانوا يشاهدون النور في البيت — فترجل بعض الفرسان وحملوا بخيتًا على أيديهم، وسار الجميع في الظلام يريدون ذلك البيت، حتى إذا اقتربوا منه تقدمهم الفارس المجهول وهو لا يزال على جواده، وسأل عن أهل ذلك البيت، فخرج إليه رجل في لباس أسود لم يستطع تمييزه، ولكنه هابه لاسترسال شعر رأسه على كتفيه، وشعر لحيته على صدره. وكان لباسه جبة سوداء في غاية البساطة. فظنه راهبًا، فسأله الرجل عن غرضه فقال: إن جريحًا معنا لم يعد يستطيع الركوب في العربة، فجئنا به إليكم، فهل تريدون أن يبيت عندكم الليلة وأجركم على الله؟ فبهت الرجل برهة كأنه يفكر في أمر طرق ذهنه؟ ثم قال: حسنًا، فليأت، ونادى قائلًا: تعال يا أحمد، ساعد هؤلاء في نقل جريحهم إلى هنا. قال ذلك مشيرًا إلى البيت، فجاء رجل في مثل لباس ذلك الرجل وأسرع إلى موقف العربتين.
أما ذلك الفارس، فبعث يخبر الباشا أن لا بأس من تقدمهم، فتقدموا حاملين بخيتًا حتى دخلوا به البيت وأجلسوه على مقعد في إحدى الغرف، ودخل الجميع إلا العسكر فإنهم بقوا خارجًا.