لقاء يعجز القلم عن وصفه
فسار الباشا وشفيق في أثره حتى وصلا باب الحجرة، فدخل الباشا وأغلق الباب وراءه، والتفت إلى الجميع متبسمًا، فإذا هم جلوس وعلى وجوههم أمارات الانقباض، فتقدَّم إلى إبراهيم وامرأته قائلًا: انزعا عنكما ثياب الحداد؛ لأن وقت فرحكما قد جاء، بل هو وقت فرحنا جميعًا. فبهت الجميع ينتظرون ما وراء هذا الكلام، فإذا بالباشا قد تحول نحو الباب ففتحه، وخرج وعاد ممسكًا شفيقًا بيده، فلما دخل شفيق بهت الجميع، وجعلوا ينظرون إليه وهم لا يدرون ما إذا كانوا في حلم أو يقظة، وهو أيضًا لم يكن أقل انذهالًا منهم، فاستولى السكوت على جميع الحاضرين لحظةً لم يكن فيها قلبٌ غير مختلج، ولا ركبتان غير مرتجفتين، ولا عينان غير شاخصتين، وكان أكثر الحاضرين انذهالًا ذانك الوالدان اللذان اختارا التنسُّك ولبس الحداد، والابتعاد عن العالم، بعد فراق ولدهما الوحيد، الذي قضيا العمر في تربيته وتثقيفه. أتستعظم الذهول أو الدهشة أو الشخوص أو الجنون منهما عند التقائهما به في تلك البرية بطريق الاتفاق الغريب.
وأما تلك الفتاة التي قاست الأهوال العظام وهي غضة العود، لطيفة المزاج، ولم تكد تفتح عينيها حتى داهمها الحب، بل الوجد، فأخذ بمجامع قلبها، ثم بعد عنها حبيبها الذي لم يكن لديها أعز منه في هذا العالم، ناهيك عما داهمها من نكبات الزمان، وكفى بذلك الخائن نقمة لها، فكم حافظت على ودِّها! وبالغت في تلك المحافظة على ضعف أملها باللقاء! فلا تلم هذا القلم العاجز إذا قصر في وصف حالتها عند ما عاينت حبيبها أمامها في مثل ذلك الاتفاق العجيب، بعد أن أنقذها مرة ثالثة من الموت، وكانت قد يئست من حياته.
أما ذلك الشاب الذي ربِّي في مهد الدلال، وعلق قلبه الحب عن صغر، فقاده حبُّ العلا وإرضاء سالبة لبِّه إلى تجشم الأسفار الطوال، واحتمال الأخطار في أقصى بلاد السودان. أتستعظم منه إذا دخل تلك الغرفة التي اجتمع فيها حبيبته ووالداه اللذان هاجرا الدنيا يأسًا من حياته، واختارا التنسك على الرفاهة، حتى لا يكون بينهما وبينه تفاضل في الحياة. أتستعظم منه الانذهال والدهشة والوقوف لحظة لا يفرق فيها بين اليقظة والمنام.
فبعد انذهاله لحظة عرف والديه وهمَّ إليهما، ورمى بنفسه عليهما، وطفق يقبل أيديهما، وأما هما فعكفا عليه يقبلانه ويذرفان دموع الفرح حتى كاد يغمى عليهما، وهما يناديان بصوت يخالطه البكاء: ولداه شفيق! ولداه وقطعة من كبداه! أأنت حيٌّ بعدُ؟! ولا سيما تلك الوالدة التي عانقت ولدها، وأخذت تقبله وتذرف الدموع وتنادي: ولدي حبيبي، مهجة كبدي. نحمد الله على سلامتك يا ولداه.
أما فدوى فكانت أشد الجميع تأثرًا لما حال بينها وبين إظهار عواطفها من الحياء، على أنها نسيت نفسها، وأخذت تنادي: شفيق شفيق، هل أنت حي …؟! آه يا مهجة فؤادي! أفي حلم أنا أم في يقظة؟!
أما هو فلم يكن يدري من يخاطب، ولا إلى من ينظر، ولم تكن تسمع في تلك الغرفة إلا شهيقًا وبكاءً يمازجه السرور والابتهاج.
أما بخيت فأخذ يقبل الأرض ويفتح يديه نحو السماء قائلًا: نشكر الله تعالى على هذه المنة، فإذا مت أنا الآن أموت قرير العين، طيب القلب. وتقدم إلى يدي شفيق وقبَّلهما، ولم يعد يدري ماذا يقبل فيه: أيديه، أم كتفيه، أم صدره، أم ظهره، أو وجهه، وأما أحمد فهمَّ إلى يديه، وأخذ يقبلهما ظهرًا وبطنًا وهو يقول: الحمد لله على السلامة، يا سيدي، الحمد لله على السلامة.
ثم نهض الشيخ الكبير وتقدم إلى حفيده وقبَّله بدموع الفرح، وكذلك امرأته وامرأة الباشا، وكانوا قد اشتغلوا في بادئ الرأي بملاحظة عواطف الوالدين، ثم انتصب الشيخ واقفًا وقد امتلأت عيناه بدموع الفرح وقال: هلمَّ بنا يا أولادي أن نسجد ونشكر الله — تعالى — على هذه المنة العظيمة التي وهبنا إياها، وكيف أنه جمع شتاتنا من أقاصي العالم. فشاركه الجميع في ذلك. وبعد الصلاة، جلسوا يقصون أقاصيصهم، وكانت حكاية شفيق أغرب الحكايات، وما زالوا كذلك إلى الصباح، فاتفقوا جميعًا على المسير إلى بعلبك يقضون فيها ذلك النهار، ويشاهدون قلعتها الشهيرة العجيبة البناء، ثم يسافرون معًا إلى بيروت، ثم إلى مصر.
وبدل إبراهيم وامرأته ثيابهما السوداء بثياب بيضاء، وهندم إبراهيم شعره، وانقشعت العبوسة عن وجهه.
أما الباشا فما برح كل ذلك الليل يفكر في أمر عزيز وما يترتب على مجيئه في الغد، وبعد طول الافتكار، قرر في ذهنه أن عزيزًا يستحق كل قبيح؛ لأنه خائن ذميم، ومهما أصابه فلا أسف عليه، ولم يعد يهمه شيء منه؛ لأنه أصبح المالك لكل أملاكه بمقتضى صكٍّ مسجل لا يغيره شيء.
وفي الصباح، خرج شفيق إلى العسكر الذين كانوا معه وأنقدهم أجورهم، وأثنى على همتهم، ثم ركب مع سائر العائلة في العربتين، وساروا قاصدين بعلبك فوصلوها في الضحى، فنزلوا في فندق هناك، ثم تجولوا لمشاهدة آثارها، وقضوا بقية ذلك النهار في الجولان من مكان إلى آخر يسرحون الطرف بمناظر تلك السهول الخصبة التي قد كساها الربيع حلة خضراء، وما زالوا إلى المساء، فعادوا مارين بحجر الحبلى الهائل الذي يقتضي لحمله ستة آلاف رجل في يد كل منهم مخل. والحجر المشار إليه منحوت معدٌّ للبناء، وفي القلعة كثير من مثل هذا الحجر يعجب الناظر لعظمها، ولا يفهم كيف استطاعوا نقلها.
أما بخيت، فإنه بقي راقدًا في سريره وقاية لجراحه، فسمع في أصيل ذلك النهار رجل يعرفه، فتحققه فإذا هو صوت عزيز، فخفق قلبه خفوق الفرح، فود لو أنه يأتي إليه لكي يخبره بمجيء شفيق، والتقاء سائر العائلة بخير؛ ليرى ماذا يظهر منه.
فدخل عزيز حجرة بخيت وهو لا يدري، وحالما وقع نظره عليه تعجب من رقاده في منتصف النهار، فتقدم إليه وسأله عن سبب ذلك فأخبره أنه أصيب بجرح من اللصوص الذين سطوا عليهم في وادي القرن.
فبغت عزيز وقال: وكيف نجوتم منهم؟ وهل أصاب فدوى سوء؟
فضحك بخيت وقال: نعم، إننا وصلنا إلى أشد الخطر، وقد نجونا بهمة ذلك البطل الصنديد، والشهم المجيد.
قال عزيز وقد خفق قلبه: ومن هو هذا البطل؟
قال بخيت: أقول لك من هو؟ قال: قل، قال: لا أقول حتى تسألني ذلك بإلحاح. فاغتاظ عزيز وصرخ قائلًا: قل بالله قل، قال: هو سيدي شفيق. فوثب عزيز من كرسيه وقد امتقع لونه، وارتعدت فرائصه، وقال: أحقيق ذلك يا بخيت؟
قال: نعم، وحياة شفيق إني لم أقل إلا الصحيح، ومع ذلك تمهَّل ريثما ترى جميع العائلة آتية معًا وفيها والدا شفيق، وأخبرك شيئًا آخر أظنه لا يسرُّك، وهو أن شفيقًا ابن خال فدوى؛ أي إن أمها وأباه أَخَوانِ.
فاسودَّت الدنيا في عيني عزيز، وتحير بين أن يصدق كلام بخيت أو يكذبه بالنظر لغرابته، فلبث ينتظر عود الباشا ليرى صدق ذلك رأي العين، فدخل غرفة تشرف على الشارع، وجلس إلى النافذة ينتظر عودهم.