على الباغي تدور الدوائر
فلما كان الغروب رأى جمهورًا كبيرًا قادمًا، فحقق نظره فإذا بشفيق إلى جانب فدوى يتحادثان وقد حمل كل منهما طاقة من الأزهار يتبادلان منها الأقمار وهما في غاية السرور، والباشا ماشٍ إلى جانب شفيق فرحًا، فتحقق لديه أن فدوى قد خرجت من يده، ولم يعد يمكنه الحصول عليها، ثم تذكر الصك الذي أعطاه للباشا، فاشتعل جسمه وأحس كأنك تصب عليه ماءً تارة غاليًا، وطورًا باردًا، ثم سمع وقع أقدامهم على السلم فلم يعد يتمالك نفسه عن الارتعاش، فذهب إلى سريره وهو ينتفض من البرد والقشعريرة، ثم عقب ذلك حمى شديدة أخذت تتعاظم حتى بلغت بمدة ساعتين درجة ٤١° س، فبادر صاحب الفندق إلى استدعاء الأطباء الموجودين في بعلبك، فعقدوا مشورة طبية فإذا هو في حالة الخطر الشديد يهذي بكلامه غائبًا عن الصواب.
فشاع الخبر في الفندق — وكان الباشا وعائلته قد عرفوا بمجيء عزيز من بخيت. وهذا لم يكن لديه يوم أكثر سعادة من ذلك اليوم — فلما سمعوا بمرضه تراكضوا لمشاهدته، فلم يأذن الأطباء بالدخول، بدعوى أن المريض في حالة لا تسمح لأحد بالدخول عليه، فلما علم شفيق بذلك تكدَّر لما ألم بذلك الشاب في ديار الغربة؛ لأنه خشي أن تكون تلك الضربة قاضية، وأما أحمد وبخيت فكانا مسرورين بذلك؛ لأنهما اتفقا على كره ذلك الشاب والانتقام منه، لما عرفا من دسائسه وخيانته، وأما الباشا فبهت صامتًا يراجع في ذاكرته حكاية الصك، وما قاساه ذلك الشاب من الأسفار والذل طمعًا بنيل ابنته، وكيف أنه استولى على كل ماله، وكيف كانت نهاية أمره من الفشل الذي أورث له هذا الداء الشديد.
وأما شفيق، فكان أشد الجميع أسفًا عليه؛ لأنه علم أن سبب مرضه إنما هو الفشل وخيبة الأمل، فلم يستطع طعامًا في ذلك المساء قط، وقضى الجميع معظم ذلك الليل في حديث عزيز ومرضه. وفيما هم في ذلك إذ جاءهم خادم الفندق يقول: إن العليل يود مقابلتهم غير مبالٍ بوصية الطبيب. فأسرع شفيق والباشا إلى غرفته، وحالما دخلا وقع نظرهما عليه وهو متوسد في فراشه، وقد علا وجهه الاحمرار من اشتداد الحمى عليه.
أما هو فلما سمع وقع خطواتهما حول وجهه نحوهما، وحالما رآهما امتلأت عيناه بالدموع، ولم يكن يستطيع الحركة، فأشار إليهما بأهداب عينيه، فاقتربا منه باكيين، ووقفا بإزاء سريره صامتين لئلا يزعجاه بالكلام. وكان الطبيب في الغرفة ساهرًا من أجله، فأشار عزيز إليه أن يخرج قليلًا، فخرج ولم يبق في الغرفة غيره والباشا وشفيق، فأومأ إليهما وقد ضاق تنفسه من اشتداد الحمى أن يجلسا، فأخذ كل منهما كرسيًّا وجلسا أمام السرير ينظران إليه نظرة الأسف، ولا سيما شفيق، فإنه نسي كل سيئاته، وكاد ينفطر قلبه شفقةً عليه.
وبعد بضع دقائق، أعاد عزيز نظره إليهما، وكان يريد التكلم ولا يستطيعه، فسأله شفيق: هل يحتاج إلى شيء؟ فأشار إليه بيده أن ينتظر ريثما يهدأ روعه فيخاطبه، فسكت، ثم مد عزيز يده إلى شفيق، فمد شفيق يده إليه وأمسكه، فأحس بارتجاف شديد، ومد يده الأخرى فأمسكه شفيق باليد الأخرى، فتوكأ عزيز على يدي شفيق يريد الجلوس فلم يستطع، فوقف الباشا وأسند ظهره وأجلساه وجعلا الوسائد وراء ظهره، فجلس وما زال قابضًا على يدي شفيق، ثم جذبه إليه حتى دنا منه، فضمه إلى صدره وجعل يقبله ويبكي بكاء الطفل والدموع تتساقط على خديه كالمطر. ولم يكن شفيق أقل بكاء منه وقد أدرك أنه يريد استغفاره على ما فرط منه بحقه، فقال له: طبْ نفسًا يا عزيزي؛ إني واثق برجوعك، وإنك لم تفعل ما فعلته إلا غلطًا.
فتكلم عزيز عند ذلك وقال: إني مستوجب لأكثر من الموت؛ لأن السماء قد سخطت عليَّ لجنايتي ودناءتي، وكأن الله لم يرد أن تدنس يدك بقتلي، فقتلني بالمرض، فأتقدم إليك أن تشفق على دموعي وضعفي، وتصفح عن شقاوتي؛ فإني لا أستحق أقل من القتل، وعما قليل أفارق هذه الدنيا، فلم أشأ مفارقتها قبل أن أستغفرك أيها الشهم الكريم؛ لأني قد أخطأت إليك، وأذنبت ذنبًا لا يُغتفر، وكم أردت بك سوءًا وأنت لم تجازني إلا بالصفح! فها إن الله قد انتقم لك انتقامًا عادلًا.
فلم يعد شفيق يتمالك عن البكاء، ولكنه همَّ إلى عزيز وقبَّله مرارًا وقال له: إن الله يغفر الذنوب يا عزيزي، وكل شيء بقضاء منه سبحانه وتعالى. فها إني صافح عنك، وأطلب إلى الله — تعالى — أن ينقذك من هذا الداء، وينهضك من هذا الفراش.
فصاح عزيز وقد أنهكه العياء: لا، لا، إني لا أستحق الحياة، ولم يعد يحلو لي المقام في هذه الدنيا؛ لأني دنستها بشروري، وارتكبت فيها الخيانة والغدر … أجل إني خائن غادر. إليَّ يا موت؛ فقد كرهت حياتي الرديئة المدنسة بالشرور، ثم التفت إلى الباشا قائلًا: وأنت أيها الشيخ الجليل، اصفح عن شروري، واسأل ذلك الملاك الأرضي أن تعفو عني لما سببت لها من الشقاء بخيانتي، فكم نغصت عيشها، وحاولت أذيتها، وهي ثابتة على وداد من لا أستحق أن ألثم حذاءه! آه لو أراها فأقبِّل نعالها وأستغفرها قبل موتي؛ لأني أشعر بثقل آثامي نحوها ونحو حبيبها هذا … آه! إني أشعر بأثقال أعظم مما أحتمل، وها إني أرى الأبالسة قادمة لاختطاف روحي الشقية لتلقيها إلى السعير.
فقال الباشا: شفاك الله يا ولداه، ولا أراك مكروهًا، فإذا كنت مشعرًا بخطئك، فيرفع الله هذه الشدة عنك؛ لأنه يقبل التائبين. شفاك الله بجاه خاتمة الأنبياء وسيد المرسلين.