العفو عند المقدرة من شيم الكرام
فقال عزيز: إن ذنوبي أكثر من أن تغتفر، والموت أحب إليَّ من الحياة، ولم تعد عيناي تستحق النظر إلى خيال تلك الفتاة الطاهرة، العفيفة، الودودة، الخالية من كل عيب، ولا إلى هذا الشهم الفاضل الشريف الكريم الأخلاق … لا لا، بل الموت خير لي. قال ذلك وألقى بنفسه إلى السرير، وغاب عن الصواب، فأسرع شفيق إلى الطبيب، فدخل وأمر بالثلج على رأسه، فجاءوا به وجسَّ نبضه فأوعز باشتداد الخطر، فاشتد بلبال شفيق والباشا كثيرًا، ولم يعد يمكنهما براح الغرفة، فطلب إليهما الطبيب أن يخرجا قليلًا، ففعلا، فإذا بفدوى وسائر العائلة بانتظارهما في حجرتهم، فدخلا باكيين فسألوهما عن عزيز، فأخبراهم بما دار بينهم، فشفِقوا عليه كثيرًا، ومضى ذلك الليل ولم يناموا إلا يسيرًا. وبكَّر شفيق في الصباح التالي إلى غرفة عزيز، فقيل له إنه راقد وقد كلله العرق، فاستبشر بزوال الحمى، وعاد فأخبر العائلة بما كان. أما فدوى فكانت تعجب لشهامة حبيبها وكرم أخلاقه، وودت شفاء عزيز إكرامًا لعواطفه؛ لأنها رأته آسفًا كثيرًا على موته.
ولما كان الضحى جاءهم خادم الفندق أن يسيروا إلى غرفة عزيز، فإذا هو في السرير وقد صفا لون بشرته، فدخل شفيق والباشا، فقال لهما: ألا يأذن لي سيدي بنظرة أزودها قبل الممات من تلك العذراء الطاهرة، ولو من وراء اللثام؛ لعلها إذا رأت حالتي ترثي لي، وتعفو عن زلتي؛ فإن الله يستجيب دعاء الطاهرين.
فبعث الباشا إلى فدوى، فحضرت ملثمة، وحضر معها والدتها وجداها، فلما وقع نظره عليها بكى ونادى بأعلى صوته: إليك أتوسل أيها الملاك الأرضي أن تصفحي عن زلتي، وتعفي عن ذنبي؛ أنا الخائن الغادر الكاذب. وها إني سأفارق هذا العالم المدنس بشروري قريبًا، فأطلب إلى الله بهذا اللسان الدنس، وهذا القلب الشقي أن يتم اقترانك بهذا الشهم الذي يليق بك، وأن يحفظكما سعيدين راتعين في الرغد والهناء؛ لكي تنسيا ما كابدتماه بسببي من المتاعب والعذاب. قال ذلك وأخذ يشهق في البكاء حتى كاد يشرق بدموعه. أما فدوى فلم تجب ببنت شفة، ولكنها تأثرت من تلك العبارات كثيرًا حتى بكت وصفَحت عما تحمَّلته بسببه.
فقال الباشا: إنك يا ولدي لقد فطرت قلوبنا برقيق كلامك، وصرنا نودُّ شفاءك من كل قلوبنا، وأنا واثق أن ولدي شفيقًا لا يريد لك إلا الخير، فنطلب إلى الله أن يشفيك، فتكون لنا كما يجب أن يكون التائب.
فهم شفيق إلى عزيز وقبله قائلًا: إن الله قادر على أن يشفيك، وأنا أعاهدك ألا أعاملك إلا معاملة الأخ؛ إذ قد نسيت كل ما جنيته، وما هي إلَّا هفوات يرتكبها بنو الإنسان لضعفهم. جلَّ من لا يغلط.
وفيما هم في الحديث جاء الطبيب وفحصه، ثم تبسم، فاستبشر الجميع بزوال الخطر وشكروا الله، ثم قال لهم الطبيب: إن العليل يحتاج إلى الرقاد الآن، فإذا رقد ساعة ينهض معافًى، إن شاء الله.
فخرجوا من الغرفة فرحين، وعادوه بعد الغداء فإذا هو جالس في الفراش وعلى وجهه أمارات الصحة، وقد زالت عنه الحمى تمامًا، وما زال يتقدم نحو الصحة يومًا بعد يوم حتى مضت ثلاثة أيام وتعافى نوعًا.
فزاره شفيق وهنَّأه بالسلامة، فقال عزيز: إني لا أستطيع النظر إلى وجهك حتى تؤكد لي صفحك عني. فقبَّله وأقسم له بالشرف أنه قد صفح عنه وأخلص له، فقبَّله عزيز ونادى الباشا فحضر، فقبَّل يده قائلًا: إني أكون سعيدًا إذا قبلتموني خادمًا في ركابكم، فقال الباشا: العفو يا ولدي، فقال شفيق: يا عزيزي، إنك ستكون معنا أخًا وصديقًا. يغفر الله لك. وقد علمت بأمر الصك الذي كتبته لعمي، فهذا لا حاجة لنا به. وها إني أتقدم إلى سعادة الباشا أن يتكرم بإرجاعه إليك؛ لتعيش به، فإنه مالُك، وأنت أولَى به، وأما نحن فإننا مكتفون بحول الله تعالى.
فصاح عزيز قائلًا: كلا، كلا، إني لا أستحق غرشًا واحدًا من ذلك المال، وحسبي أني بقيت حيًّا بعد كثرة شقاوتي، فأنا لا آخذ من ذلك المال غرشًا واحدًا، بل هو حق شرعي لمن يستحقه.
فتبسم شفيق وأخذ الصك من يد الباشا ودفعه إلى عزيز، فلم يرض استلامه، وألح عليه أن يبقيه معه، وأنه قد تنازل عن أمواله كلها له، لا يريد منها أكثر من سد الرمق، فأبى شفيق ذلك. ولما لم يقبل عزيز أن يستلم الصك همَّ إليه شفيق ومزقه بين يديه إربًا إربًا.
فأعجبت جميع الحضور بتلك الشهامة. ولم يكن ذلك إلا ليزيده احترامًا في عيونهم، ولا سيما عزيز الذي أصبح أسيرًا له طوع ما يريد، ثم قال: سواء أردتم أم لم تريدوا، فلا أقبل بمفارقتكم بعد الآن، وأعد نفسي خادمًا لكم.
فقال الباشا: إذا أردت البقاء معنا، فتكون ولدًا لنا.
وقال شفيق: أنت أخي بعهد الله، والله غفار الذنوب.
أما بخيت، فعاد بعد شفاء عزيز إلى حب الانتقام منه؛ إذ تذكر سابق خياناته، وقد اغتاظ لما رأى شفيقًا يمزق الصك، ولكنه سُحر بشهامته، ونظر إلى عزيز قائلًا: انظر يا عزيز، إنك والله لا تستوجب بحسب شريعتي أقل من القتل والصلب، ولكن شهامة هذا البطل قد عفَتْ عنك، ولو قال لنا اعبدوه لعبدناك؛ لأن أمره مطاع، والأمر له ولسيدي الباشا، ولكنني لا أنسى أعمالك، وذلك الكتاب الذي بعثت به، بل تلك الكتب التي سببت الشقاء لسيدتي، ولكن …
فابتدره أحمد الخادم وقال: أتذكر يوم رافقته إلى الإسكندرية و…
فأسكته شفيق قائلًا: كفى ما قلتماه، واعلما أن من يريد الأذى لأخي عزيز فقد أراده لي، ولا أقول أكثر من ذلك، فنادى الاثنان معًا: إنه سيدنا ومولانا، والأمر أمره بعد أمرك.
ومكث الجميع في بعلبك يومًا آخر، ثم ساروا إلى بيروت ومنها إلى مصر، ولما دخلوا المدينة نزلوا بيت الباشا، وكانوا قد أعدوا فيه سائر وسائل الزينة.
ففي ليلة وصولهم قالت سعدى لإبراهيم: أتذكر كلامي لك في لندرا عن زواج شفيق لإحدى غنيات مصر فلم ترض، قال: نعم، قالت: هي فدوى التي كنت أعنيها، فها قد تزوجها، فقال: ألم أقل لك إني لا أزوجه إلا بواحدة من أقاربي؟ فها إنه لم يتزوج إلا ابنة عمته، فسبحان مدبر الأمور، وموفِّق الحوادث.
واحتفل الباشا احتفالًا شائقًا بزفاف ابنته على شفيق دعا إليه عددًا غفيرًا من أعيان القاهرة الغرباء والوطنيين.
وعاشت هذه العائلة بعد ذلك بالرغد والهناء إلى أن يقضي الله بما يشاء.