أرض النَّار!
استقر الشياطين اﻟ «١٣» فوق مقاعدهم في قاعة الاجتماعات بالمقر السرِّي، وكانت المغامرة الأولى «مغامرة في الفضاء» … قد انتهت منذ أيامٍ قليلة بنجاحٍ باهر. عندما تمكن فريق من الشياطين بقيادة «أحمد» من تدمير قمر صناعي مُعادٍ، كان مخصصًا للتجسس على الدول العربية ومقر الشياطين، ثم التحموا في معركة بالفضاء الخارجي ضد مكوك فضائي مُعادٍ، واستطاعوا نسفه، قبل أن يعودوا إلى الأرض بالمكوك الفضائي العربي الجديد، لِيُكَلِّلُوا مهمتهم بنجاحٍ باهر، وليثبتوا أنَّهم ليسوا شياطين فوق الأرض فقط، بل وفي الفضاء أيضًا.
ومرَّت لحظات قصيرة من الصمت، ثم وضحت خطوات رقم «صفر»، وهو يتجه نحو مقعده في صدر القائمة، والتمعت ابتسامة عريضة فوق وجهه، وقال: مرحبًا بكم أيُّها الأبطال. كانت الأيام القليلة الماضية بعد انتهاء مغامرتكم الأخيرة، أيامًا حافلة بالسعادة والفخر، فلقد وصلتني العديد من برقيات التهنئة والشكر من كل الدول العربية؛ تقديرًا لما بذلتموه من مجهود رائع يكاد يقترب من العمل الإعجازي. وأمامي في نفس الوقت عدة تقارير سرية، استطعنا التقاطها بواسطة عملائنا لعدد من أجهزة المخابرات الأجنبية، وكلها تتحدث بلغة أقرب إلى الذهول، ولا تصدق أنَّ مجموعة عربية من الأبطال استطاعوا اختراق الفضاء وتدمير المكوك الذي كان يعتبر قلعة فضائية حصينة، وأهنئكم مرة أخرى.
التمعت أعين الشياطين ببريق السعادة لإطراء رقم «صفر» وتهنئته، وأخذ رقم «صفر» يقلب في عدَّة أوراق أمامه، ثم قال: لا بد أنكم تتوقعون أن يكون هناك جزء آخر لمغامرتكم الفضائية الأولى، وهذا صحيح تمامًا. فإذا كنا قد دمرنا القمر الصناعي التجسسي والمكوك الذي أُطلق في الفضاء، فإنَّ رأس الأفعى لا تزال حيَّة، وبإمكانها إطلاق المزيد من الأقمار الصناعية التجسسية في القريب العاجل، وربما خلال الأيام القليلة القادمة.
تساءل «عثمان» بدهشة: هل يستعد الأعداء لإطلاق قمر صناعي تجسسي آخر؟
رقم «صفر»: هذا صحيح تمامًا يا «عثمان» … ويبدو أنَّهم يريدون التحدي إلى النهاية … وربما يجهزون لنا هذه المرة شرَكًا خداعيًّا في الفضاء، إذا ما حاولنا اصطياد قمرهم الصناعي في مداره حول الأرض، ولكنَّنا هذه المرة لن نتصدى لهم في الفضاء بل فوق الأرض …
أحمد: تقصد قاعدة إطلاق المكوك الأرضية؟
رقم «صفر»: بالضبط … هذا ما قصدته تمامًا برأس الأفعى، فطالما هذه القاعدة موجودة، فسيتمكن الأعداء من إطلاق المزيد والمزيد من أقمارهم الصناعية التجسسية … ومن هنا لا بد من تدمير تلك القاعدة، بأي ثمن.
وضغط رقم «صفر» زرًّا أمامه، فظهرت خريطة مضاءة لقارة أمريكا الجنوبية … وبدأت الخريطة تتسع وتكبر لتظهر عليها تفاصيل «شيلي» المطلة على المحيط الهادي في الجنوب الشرقي للقارة.
وجاء صوت رقم «صفر» يقول: هذه هي «شيلي» … وهي كما تعرفون تحتل مساحة حوالي ٦٠٪ من ساحل أمريكا الجنوبية، ويبلغ طولها ٥٠٠ كم، أما عرضها فلا يزيد عن ٤٠٠ كم. فهي بلاد ساحليَّة، تكثر فيها الجزر والأرخبيلات والشلالات أيضًا … ويتألف سطحها من سلسلة جبال، الأولى في الشرق وتسمى «الأنديز» و«العليا»، وبها عدة براكين حيَّة ترتفع في بعض القمم إلى ما يصل ﻟ ٦٧٠٠ متر، وفي أقصى الجنوب الشمالي تقع منطقة مضيق ماجيلان … أو أرض النَّار كما يسمونها.
قالت «إلهام»: ولا بد أنَّ مغامرتنا القادمة ستدور فوق أرض النَّار … أليس كذلك؟
رقم «صفر»: هذا صحيح يا «إلهام» … ولا بد أنَّكِ أدركتِ العلاقة بين تلك التسمية لأرض البراكين في جنوب شيلي، وبين قاعدة إطلاق الصواريخ والمكوكات الفضائية. وفي الحقيقة فلا بدَّ لنا أن نعترف ببراعة الأعداء في اختيار هذا المكان النائي المخيف لإقامة قاعدتهم، فالقاعدة محاطة ببراكين حيَّة تصب حممها في كل لحظة، وبذلك يصعب إن لم يكن مستحيلًا على أي إنسان الوصول إليها، بل إنَّ القاعدة نفسها مبنية فوق سطح بركان خامد، وهذا يمثل أفضل ستار لعمل القاعدة، فأنتم تعرفون أنَّه عندما يتم إطلاق أي صاروخ للفضاء الخارجي تقوم الأقمار الصناعية التجسسية بالتقاط ذلك الإطلاق مهتدية بالحرارة الكبيرة التي تصدر عن الصاروخ الفضائي أو المكوك … ومِن ثَم، فإنَّ مثل هذا الإطلاق لا يمكن إخفاؤه أبدًا … أما عندما يحاط الإطلاق بمصدر حراري عالٍ طبيعي مثل البراكين المشتعلة، فهذا سيُخفي عملية الإطلاق، وربما تظنُّ أقمار التجسس أنَّ الحرارة الناتجة من إطلاق المكوك أو الصاروخ الفضائي، هي ناتج الاشتعال لأحد البراكين وتفجره.
زبيدة: فكرة رائعة.
ردَّ رقم «صفر»: وقد كلفنا البحث عن هذه القاعدة وقتًا طويلًا قبل أن نتمكن من الاهتداء إليها … فهي تقع بالقرب من مدينة «بونتا ريناس»، في أقصى الجنوب لشيلي في حزام المنطقة المسماة بحزام «أرض النَّار» …
عثمان: وهل تعلم حكومة «شيلي» شيئًا عن هذه القاعدة؟
أجاب رقم «صفر»: إنَّ المعلومات المتوفرة لدينا حتى الآن تقطع بعدم وجود أيَّة صلة بين حكومة «شيلي» وبين أصحاب تلك القاعدة، وفي الحقيقة فإنَّ أعداءنا استغلوا طبيعة الأرض في تلك المنطقة، وأرسلوا عددًا من علمائهم بدعوى دراسة المنطقة والبراكين وإنشاء محطة إنذار مبكر لهذه البراكين قبل انفجارها، ولكنَّهم قاموا ببناء قاعدة لإطلاق الصواريخ الفضائية والمكوكات في نفس المكان. أما مسألة أرض البراكين ودراسة طبيعة الأرض؛ فهي لا تحتل إلا جزءًا يسيرًا من نشاط القاعدة، وللتمويه فقط … إننا نتعامل هذه المرة مع أعداء على قدر كبير من الذكاء والحيطة، ولديهم أيضًا إمكانيات تكنولوجية وعلمية هائلة. واختفت خريطة «شيلي» من فوق الشاشة، وظهر مكانها عدد من قمم البراكين المتفجرة، التي يتصاعد اللهب وألسنة النيران من فوهتها، على حين كان يسيل من بعضها الآخر حِمم مصهورة في شكل سائل ملتهب اللون … وأخذت الكاميرا تقترب من منطقة نائية عالية على شكل سطح جبل عريض … وبدأت الصورة تتضح أكثر وتظهر تفاصيلها بشيء من الوضوح … فقد كان هناك عدد من المباني الصغيرة التي ظهرت، وكأنَّها منحوتة من سطح الجبل بسبب لونها الأصفر القريب من لون الجبل نفسه، وكان هناك سور من الصخر يحيط بالمكان، وقد ظهرت سحب سوداء كثيفة من الدخان الناتج من نشاط البراكين القريبة.
وقال رقم «صفر» شارحًا: هذه القاعدة التي أقامها العدو … أو بمعنى أدق سطح القاعدة، فهذه الأبنية القليلة البريئة المظهر مخصصة بالفعل لرصد البراكين القريبة … أما القاعدة الحقيقية لإطلاق الصواريخ والمكوكات؛ فهي تقع أسفل ذلك المكان … في قلب الجبل نفسه، وحتى لا يمكن لأيِّ إنسان التقاط صورة لها أو معرفة تفاصيلها … وللأسف فإننا لا نملك أيَّة معلومات عن قلب هذا الجبل وما يحتويه، بسبب وعورة المكان وتحصيناته الإلكترونية الهائلة، وكل ما استطعنا الحصول عليه هو هذه الصور القليلة لسطح الجبل، وتم التقاطها من الجو في طائرة شراعية … وقد دفعنا ثمنًا لها اثنين من أفضل رجالنا.
وصمت رقم «صفر»، ورانَ السكون على القاعدة، وسأله «عثمان» بصوته الغاضب قائلًا: على أيِّ حال؛ فنحن لسنا بحاجة لمعرفة تفاصيل تلك القاعدة، لأنَّها بعد أيام قليلة لن يكون لها وجود في عالمنا.
ابتسم الشياطين لعبارة «عثمان». وأكمل رقم «صفر» بإعجاب: هذه هي الروح التي أريدها أن تسيطر عليكم في مهمتكم القادمة … ولقد أرسلنا عدة استفسارات للقسم العلمي الخاص بالشياطين عن الإمكانات المحتملة لتلك القاعدة حسب نشاطها الظاهر لنا، فجاءت الإجابة أنَّ المكان بسبب طبيعته المنحوتة داخل الجبل نفسه لن تزيد مساحته عن دائرة قطرها كيلومتر أو أكثر قليلًا، وهو في الغالب ينقسم إلى ثلاثة أجزاء؛ أولها: خاص بالأبحاث والتجارب، والثاني: خاص بإطلاق الصواريخ أو المكوك الفضائي ومنصة الإطلاق، والثالث: خاص بالرصد والمتابعة … هذا طبعًا غير أماكن إقامة العاملين في المكان، ومحطة توليد الكهرباء التي تمده بالطاقة والماء … أما رادارات التقاط الرسائل الفضائية؛ فهي تقع فوق سطح الجبل بلا شك … ويمكنكم أن تعتبروها نقطة بداية لكم … وحسب الافتراضات العلمية، فلا بد أن يوجد ليس أقل من مائة عالم وفني لإدارة المكان … وحسب الافتراضات الأمنية، فلا بد أن يحرسه عدد مماثل من رجال الأمن …
أحمد: وكيف يمكن الوصول إلى هذا الجبل؟
رقم «صفر»: هناك طريق برِّي غير ممهد كان يُستعمل إلى وقت قريب قبل أن ينهدم بفعل هزة أرضية ولم يتم استصلاحه بعد، وهو يعتبر الآن طريقًا غير آمنٍ بسبب الشقوق العميقة التي ظهرت فيه. إنَّ بعضها بعرض مائة متر … ولكن ليس هناك طريق آخر للوصول إلى قمة الجبل إلا بالطيران فوقه …
أحمد: وأظن أنَّ ذلك سيكون مكشوفًا تمامًا لعدونا.
رقم «صفر»: هذا صحيح، ولذلك فأنا أُفضِّل استخدام هذا الطريق البري برغم خطورته … وعلى أيِّ الأحوال؛ فإنَّ أمامكم خمسة أيام فقط للوصول إلى القاعدة وتدميرها، قبل أن ترسل قمرها الصناعي التجسسي الثاني … أما المجموعة التي ستقوم بهذه المهمة، فهي تتكون من «أحمد» و«إلهام» و«عثمان» و«زبيدة» و«قيس» و«بو عمير» … هل هناك أيَّة أسئلة؟
ولم يردَّ أحد من الشياطين، فقال رقم «صفر»: سوف تجد المجموعة المسافرة تذاكرهم على الطائرة المتجهة إلى «سانتياغو» عاصمة «شيلي»، والتي ستقلع بعد ساعتين، وفي فندق «كلب البحر الأزرق» سيتصل بكم أحد عملائنا لإمدادكم ببعض المعلومات والأسلحة الضرورية، وسيكون التعارف بينكم بكلمة السر «جبل النَّار سوف يبرد للأبد».
وصمت رقم «صفر» لحظة، ثم أضاف في رقة: وأرجو أن أسمع أخبارًا طيبة قبل انتهاء الأيام الخمس.
وسمع الشياطين صوت خطواته في وضوح وهي تغادر المكان، ثم أُضيئت الأنوار، وتقابلت أنظار الشياطين الستة الذين كلفهم رقم «صفر» بالمهمة، وكان في ابتسامتهم ثقة عالية، وتلهف للوصول إلى «أرض النَّار».