كل شيء يتطور ويتغير
كل شيء يتغير، ولا شيء يظل ساكنًا.
إننا ننظر اليوم إلى صور الفضاء المذهلة التي تأتينا من التلسكوبات الموجودة على الأرض وتلسكوب هابل الفضائي، ونرى ما لم يكن بمقدور أي شخص أن يتخيله منذ ۳٠ عامًا مضت. فنحن نستطيع أن نرى مراحل ولادة النجوم وموتها، وكيفية تشكُّل الكواكب والأنظمة الشمسية الأخرى. وهذه الصور، إضافةً إلى الحسابات الفيزيائية الفلكية والنماذج الرياضية التي تفسرها؛ تقدِّم لنا رؤيةً جديدةً عن أصل النظام الشمسي، وتسمح لنا بأن نفسر معظم ما كنا نخمِّنه قبل هذا القرن.
من أين أتينا؟ متى وأين بدأ كل شيء؟ مثل هذه الأسئلة أسَرَت الإنسانَ وأثارت لديه القلق منذ أن نظر إلى السماء لأول مرة. وعلى مدار آلاف السنين، أتت التفسيرات من مجموعة كبيرة من مختلف الأساطير والقصص الدينية، التي تمثِّل جميع الثقافات الموجودة على الأرض. لكن في أوائل القرن العشرين، صار تجاوز الأسطورة والتكهُّن ممكنًا، وبدأنا في استخدام مناهج العلم لنكتشف ما حدث بالفعل.
بالرغم من ذلك، سرعان ما ظهرت مواهبهن وقامت كلٌّ منهن باكتشافات أحدثت ثورة في علم الفلك، وتفوَّقْنَ على معظم علماء الفلك الذكور في عصرهن. أشهرهن كانت آني جامب كانون، التي فهرست نجوم سماء الليل، واقترحت أولَ نظامٍ لتصنيف النجوم وفقًا لدرجات حرارتها. استندَت آني جامب كانون في تشكيل هذا النظام إلى أول نظامٍ كاملٍ لتصنيف النجوم لأنتونيا ماوري.
لكن المرأة الأهم في قصتنا هي هنرييتا سوان ليفيت. كُلِّفت هنرييتا بدراسة «النجوم المتغيرة»، وهي أنواع من النجوم يتغير سطوعها من ليلة لأخرى. وسرعان ما أدركت أن التغير في سطوعها يحدث على مدار فترة منتظمة من التقلب، حيث النجوم الأكثر سطوعًا (الأكثر لمعانًا) تمر بأطول فترات من تغير السطوع. وجدت ليفيت نجومًا متغيرة في تجمع نجمي في كوكبة قيفاوس (ومن ثَم سُمِّيتْ بالنجوم «القيفاوية») كانت جميعها على نفس المسافة، مما أتاح لها معايرة طيف السطوع. وفي عام ۱۹۱۳، وبعد دراسة ۱۷۷۷ من النجوم المتغيرة، توصلت ليفيت إلى العلاقة بين مدة تقلب سطوع النجوم المتغيرة ولمعانها، مما مكَّنها من تحديد بُعد نجم ما من خلال قياس لمعانه وفترة تقلُّبه. وبفضل ليفيت، صار لدى علماء الفلك أداة موثوقة لقياس المسافة التي يبعدها نجمٌ ما أو مجرةٌ ما عن الأرض.
كان أهم شريك لهابل في هذا المسعى هو ميلتون هيوماسون، الذي لم يحظَ بأي تعليمٍ بعد أن تخطَّى سن الرابعة عشرة، لكنه كان متحمسًا لإثبات جدارته. كانت مهمة هيوماسون الأصلية هي قيادة البغال الحاملة للتلسكوب وباقي الأدوات إلى أعلى ذلك الجبل الشديد الانحدار. وبعدها أصبح حاجبًا خلال النوبة الليلية التي كانت تتزامن مع عمل علماء الفلك، فتعرف هابل عليه. وجد هابل أن لديه مواهب غير متوقَّعة فقام بترقيته ليكون مساعده. أُعجبَ هابل بتصميم هيوماسون الهادئ على أخذ الصور الفوتوغرافية الصعبة، وإجراء القياسات الدقيقة لأطياف آلاف الألواح الفوتوغرافية التي الْتقطها التلسكوب.
وبعد قياس المئات من مختلف النجوم والمجرات، لاحظ هابل وهيوماسون شيئًا غير اعتيادي. وجدا أنَّ أطياف النجوم الأقرب بها خطوط امتصاص تتشابه مع خطوط الامتصاص التي تظهر في طيف ذلك العنصر الموجود على الأرض. وكلما ابتعد النجم أو المجرة عن الأرض، انزاحت نطاقات الامتصاص البيضاء من مكانها الأصلي باتجاه الطرَف الأحمر من الطيف.
ينطبق تأثير دوبلر على موجات الضوء مثلما ينطبق على الموجات الصوتية. فإذا كان المصدر يتحرك بسرعة شديدة تجاهنا، فستتكتَّل الموجات الضوئية، وسيصبح طولها الموجي أقصر (وهو ما يتطابق مع الطرف الأزرق والبنفسجي من طيف الضوء). وإذا كان مصدر الضوء يتحرك مبتعدًا عنا بسرعة كبيرة، فستتمدَّد الموجات الضوئية وتصبح أطول (وهو ما يتطابق مع الطرف الأحمر من الطيف).
أوضحتْ أولى ملاحظات سليفر في عام ۱۹۱٢، ثم التصنيف الدقيق الذي وضعه هابل وهيوماسون لأكثر من ٤٦ مجرة والعديد من النجوم، أنَّ المجرات المرصودة جميعها تقريبًا تنزاح باتجاه الطرف الأحمر، مع عدم وجود أية أجرام تنزاح باتجاه الطرف الأزرق ربما تكون تتحرك باتجاهنا. والأهم من ذلك أنَّ هابل وهيوماسون اكتشفا أن الأجرام الأبعد عنَّا تتَّسم بدرجةٍ أكبر من الانزياح نحو الأحمر، ولا بد أن تكون هي الأسرع في الابتعاد عنَّا. كان ما اقترحه عمل هابل وهيوماسون أنَّ الكون يتمدد. ويمكننا تشبيه ذلك بصنع رغيف خبز بالزبيب. فعندما تبدأ بكُرة العجين، تكون جميع حبَّات الزبيب متلاصقة بالقرب من بعضها. لكن مع تمدد كرة العجين، تبتعد كل حبة زبيب عن الأخرى، وتلك الحبَّات الواقعة على الجزء الخارجي من كرة العجين تكون هي الأسرع حركةً.
«الكون يتمدد». هذه فكرة مخيفة، ولم يكن معظم علماء الفلك قادرين على تقبلها في البداية. غير أنَّ بيانات هابل وهيوماسون كانت متَّسقة ومتماسكة، ومع مرور الوقت، ومع تحليل المزيد والمزيد من الأجرام، تبيَّن أنَّ جميعها ينزاح نحو الأحمر. وفي عام ۱۹٢۷، اقترح عالم الفلك والقَسُّ البلجيكي جورج لومتر نموذجًا تمدَّد فيه الكون من نقطةٍ واحدةٍ في الماضي السحيق. لم يُعجَب معظم علماء الفلك بفكرة وجود بداية للكون؛ إذ كانوا يعتقدون أنه في «حالة ثابتة»، مع خلق مادة جديدة في المركز طوال الوقت. وكان فريد هويل من بين هؤلاء المؤيدين لفكرة الحالة الثابتة، وهو الذي صاغ مصطلح «الانفجار الكبير» على سبيل السخرية من نموذج لومتر، وقد ظل هذا المصطلح مستخدمًا منذ ذلك الحين.
ومن حسن الطالع أنه على بُعد ۳۷ ميلًا فقط، في برينستون بولاية نيوجيرسي، كان الفيزيائيون روبيرت ديك، وجيم بيبلز، وديفيد ويلكينسون يعملون على مشكلةٍ وثيقة الصلة بهذا الأمر. ففي أربعينيات القرن العشرين، تنبَّأ جورج جامو ورالف ألفر بوجود «ضوضاء» في الخلفية متبقية من الانفجار الكبير، عندما تفجر كل شيء بدفقات ضخمة من الإشعاع. كان علماء برينستون في بداية تجاربهم للكشف عن تلك الضوضاء، عندما قال صديقٌ ما لبنزياس إنه اطَّلع على ورقةٍ علمية، لم تُطبع بعدُ، لمجموعة برينستون التي تنبَّأت بضوضاء الخلفية نفسها. تواصلت المجموعتان، وعرض بنزياس وويلسون ما اكتشفاه. ويا للمفاجأة؛ لقد اكتشف عالِما مختبرات بِل بالصدفة الدليلَ على أن الانفجار الكبير قد حدث بالفعل. فاز بنزياس وويلسون بجائزة نوبل في الفيزياء لعام ۱۹۷۸، عن هذا الاكتشاف الذي حدث بالكامل عن طريق الصدفة!
هذه القصص أمثلةٌ تقليديةٌ توضِّح كيف يمكن للبحث العلمي «الخالص» أن يؤدي إلى اكتشافات مذهلة. في بعض الأحيان يتوصل إلى الاكتشافات أشخاصٌ يبحثون عن حل لمشكلة بعينها. لكن في أغلب الأحيان، يقوم العلماء والمهندسون بإنجازات مهمة عن طريق ممارسة البحث فحسب، أي ممارسة البحث لغرض البحث في حد ذاته. لكن أفضل الإنتاج العلمي في الغالب يتحقق عن طريق جمع نطاق واسع من البيانات عن موضوع محدَّد، بدون معرفة ما يمكن أن نجده. عادةً ما يتهكَّم الساسة وغيرهم على الأبحاث التي لا يكون لها هدف محدد، ويحاولون منع التمويل عن مثل هذه المشروعات. وبالرغم من ذلك، فالبحث من أجل البحث في حد ذاته هو ما أدى إلى الاكتشافات العظيمة في العلم جميعها تقريبًا، وبدونه سينتهي العلم، وستنتهي معه الطفرات العلمية والاكتشافات التي يمكن أن تنقذ حياتنا وتنفعنا جميعًا.
منذ هذا الاكتشاف، خضع نموذج الانفجار الكبير للكثير من التعديلات؛ إذ يستخدم الفيزيائيون خصائص المادة ومعادلات الفيزياء ليعرفوا كيف حدث كل شيء. وأحدثُ الأساليب الموجودة لدينا يؤرِّخ وقت الانفجار الكبير بأنه حدث منذ نحو ۱۳٫۸ مليار سنة تقريبًا. في البداية، كان الكون عبارةً عن «متفردة»، وهي منطقة صغيرة بشكل لا نهائي، عالية الطاقة، وذات كثافة لا نهائية. وبعد مرور ۱٠ ملِّي ثوانٍ على هذه المتفردة، امتلأ الكون بجزيئاتٍ عالية الطاقة، تتمدد بسرعة كبيرة في كل الاتجاهات، في درجات حرارة تتعدى التريليون درجة كلفنية. كانت الحرارة مرتفعة للغاية حتى إنه لم يكن للمادة وجود، بل الإشعاع فحسب، ولم يكن للزمان والمكان المعنى الذي نعطيه لهما الآن، وإنما كانا مُلتوِيَين بشكل لا نهائي حول هذه المنطقة الشديدة الكثافة. وخلال الثواني القليلة التالية، انخفضت حرارة الكون بما يكفي لتكوين الجُسيمات دون الذرية، وظهرت المادة في صورة ذرَّات في غضون حوالي ۳۸٠٠٠٠ سنة. استمر التمدد خلال الاثني عشر مليار سنة التالية، وبدأت كُتَل عشوائية من المادة تندمج لتُكوِّن نجومًا ومجرات وكوازارات. واحترقت بعض هذه النجوم بالفعل وانفجرت، منتجِةً العناصر الأثقل، كالأكسجين، والسيليكون، والكربون، والحديد … إلخ، والتي تُكوِّن معظم المادة في النظام الشمسي. وعلى هذا النحو، فنحن جميعًا نُعد من غبار النجوم.
لقد علَّمَنا علمُ الفلك أن الكون هائل بدرجة نعجز عن إدراكها، وأن البشر ليسوا سوى جزء صغير منه. لقد تلقَّى غرورُنا الكوني، الذي ورثناه عبر آلاف السنين من الثقافة والأسطورة، ضربةً مميتة. ففكرة أننا في مركز الكون، وأن الكون قد خُلِق من أجلنا تحطمت بفعل الجهد الدَّءوب لاكتشاف ماهية الكون الحقيقية، وليس ما نودُّه أن يكون عليه. وقد عبَّر كارل ساجان عن هذا المعنى في برنامج «كوزموز» قائلًا:
منذ أن كان لنا نحن البشر وجودٌ في هذا الكون، ونحن نبحث عن موضعنا فيه. أين نحن؟ من نحن؟ ثم نكتشف أننا نحيا على كوكب عديم الأهمية، لنجم رتيب تائه، في مجرة تقبع بعيدًا في زاويةٍ منسيَّة من كون به من المجرات أكثر مما يوجد من البشر. وهذا المنظور للكون هو امتدادٌ شجاع لوَلَعنا ببناء نماذج ذهنية للسموات واختبارها، مثلما حدث عندما وصفنا الشمس بأنها حجر ملتهب، والنجوم بأنها شعلة سماوية، والمجرة بأنها العمود الفقري للَّيل.
قراءات إضافية
-
Bartusiak, Marcia, The Day We Found the Universe, New York: Pantheon, 2009.
-
Bembenek, Scott, The Cosmic Machine: The Science That Runs Our Universe and the Story Behind It, New York: Zoari Press, 2017.
-
Brockman, John, ed., The Universe: Leading Scientists Explore the Origin, Mysteries and Future of the Cosmos, New York: Harper Perennial, 2014.
-
Carroll, Sean, The Big Picture: On the Origins of Life, Meaning and the Universe Itself, New York: Dutton, 2016.
-
An Illustrated Guide to the Cosmos and All We Know About It, New York: Chartwell Books, 2017.
-
Hazen, Robert, The Story of Earth: The First 4.5 Billion Years from Stardust to Living Planet, New York: Penguin, 2013.
-
Krauss, Lawrence, The Greatest Story Ever Told … So Far: Why Are We Here? New York: Atria Books, 2017.
-
______, A Universe from Nothing: Why There Is Something Rather Than Nothing, New York: Atria Books, 2012.
-
Natarajan, Priyamavada, Mapping the Heavens: The Radical Scientific Ideas that Reveal the Cosmos, New Haven, Conn.: Yale University Press, 2016.
-
Perlov, Delia and Alex Velenkin, Cosmology for the Curious, Berlin: Springer, 2017.
-
Ryden, Barbara, Introduction to Cosmology, Cambridge: Cambridge University Press, 2017.
-
Sagan, Carl, Cosmos, New York: Ballantine, 2013.
-
Saraceno, Pablo, Beyond the Stars: Our Origins and the Search for Life in the Universe, New York: World Scientific, 2012.
-
Silk, Joseph, The Big Bang, 3rd ed., New York: W. H. Freeman, 2001.
-
Singh, Simon, Big Bang: The Origin of the Universe, New York: Harper Perennial, 2005.
-
Sobel, Dava, The Glass Universe: How the Ladies of the Harvard Observatory Took the Measure of the Stars, New York: Viking, 2016.
-
Tyson, Neil deGrasse and David Goldsmith, Origins: Fourteen Billion Years of Cosmic Evolution, New York: Norton, 2004.