طيور لها أسنان
إذا كان من الممكن أن تصبح مؤخرة فرخ دجاج لم يكتمل فقسه بعدُ متضخمةً فجأة — من الحَرْقَفة إلى أصابع القدم — ثم تتصلَّب وتتحفر، فإنها ستكون مثالًا على الخطوة الأخيرة للانتقال بين الطيور والزواحف؛ لأنه لن يكون هناك شيء من صفاتها يمنعنا من إلحاقها بالديناصورات.
في عام ۱۸۹٢، ضرب جفاف شديد غرب الولايات المتحدة. وحدثت أيضًا مشكلات في توزيع المياه، وكان المستوطنون يحثون الكونجرس على التدخل. كانوا حانقين خصوصًا على هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية. والسبب في ذلك أنَّ جون ويسلي باول، المحارب المخضرم في الحرب الأهلية، والذي اشتهر بقيادة أول رحلة استكشافية لنهر كولورادو عبر جراند كانيون في عام ۱۸٦۹، تولى رئاسة هذه الهيئة منذ عام ۱۸۸۱. في عام ۱۸۷۸، أصدر باول «تقريرًا عن أراضي المناطق القاحلة بالولايات المتحدة»، حذَّر فيه من أن المياه ستُمثِّل مشكلة على الدوام في الغرب القاحل، وأن المنطقة ليس لديها ما يكفي من المياه للزراعة والاستيطان على نطاق واسع. وفي مؤتمر عام ۱۸۸۳ عن حقوق المياه، حذَّر باول على نحوٍ تنبُّئِي: «إنكم، أيها السادة، تشيِّدون تراثًا من الصراع والدعاوى القضائية بشأن حقوق المياه؛ لأنه لا توجد مياه كافية لإمداد الأرض.» غير أنَّ شركات السكك الحديدية القوية كانت تحقق أرباحًا طائلة من بيع أراضيها الزائدة للمستوطنين (كانت هذه الشركات قد مُنِحت أكثر من ۱۸۳ مليون فدان، عندما قامت ببناء أول خط سكة حديد عابر للقارات). وأرادت هذه الشركات الاستمرار في تشجيع الاستيطان، فقدموا الرِّشا لأعضاء الكونجرس لتعزيز مصالحهم. واستجاب الكونجرس لضغوط الجفاف بإلقاء اللوم على حامل الرسالة بدلًا من الاستماع إلى تحذيراته، والتي ثبتت صحتها خلال سنوات قصعة الغبار في ثلاثينيات القرن الماضي.
غير أنَّ اكتشاف الطيور المسننة لم يكن شيئًا جديدًا. الحق أنَّ أول مثال عليها كان هو الحفرية الانتقالية الشهيرة أركيوبتركس، التي وُصِفت لأول مرة وسُمِّيت في عام ۱۸٦۱، أي بعد عامين فقط من نشر كتاب داروين. وصف ريتشارد أوين أول هيكلٍ عظميٍّ لهذه الحفرية الأسطورية في عام ۱۸٦۳، عندما اشتراها المتحف البريطاني وجلبها من ألمانيا. وعلى الرغم من أن أوين كان من أشد المنتقدين لداروين وأفكاره، وبذل قصارى جهده للتقليل من الصفات الديناصورية لدى أركيوبتركس، فقد كانت أهميتها واضحة لداروين ونصيره توماس هنري هكسلي. وبحلول الوقت الذي أعدَّ فيه داروين الطبعة الرابعة من كتاب «أصل الأنواع»، كان يتفاخر بأنه في وقت ما كان بعض العلماء يرَون أن:
طائفة الطيور بأكملها قد ظهرت فجأة إلى الوجود خلال عصر الإيوسين [قبل ٥٤–۳٤ مليون سنة، كما نؤرخ له حاليًّا]، لكن بناءً على ما قدَّمه البروفيسور أوين، صرنا نعلم الآن أن طائرًا كان يعيش بالتأكيد في أثناء ترسيب تكوين «جرينساند الأعلى» [أواخر العصر الكريتاسي المبكر بالمصطلحات الحديثة، منذ حوالي ۱٠٠ مليون سنة، تبين أن هذه العينة لتيروصور]، وفي الآونة الأخيرة، اكتشف العلماء هذا الطائر الغريب؛ أركيوبتركس، ذا الذيل الطويل الذي يشبه ذيل السحلية، والذي يحمل زوجًا من الريش على كل مفصل، وأجنحته مُزوَّدة بمخلبَين طليقَين. عُثِر عليه في صخور الأردواز الكلسية الرملية في سولنهوفن. وما من اكتشافٍ حديثٍ آخر أوضح من هذا، في تبيان مدى ضآلة ما نعرفه حتى الآن عن الكائنات التي كانت تقطن العالم في السابق.
ليس أركيوبتركس سوى ديناصور له ريش من معظم النواحي. وكل ما يميزه عن باقي الديناصورات مثل فيلوسيرابتور، هو انعكاس اتجاه إصبع القدم الكبيرة للإشارة خلفًا، وعدم وجود السطح المنشاري الشبيه بسكين تقطيع اللحم على حواف أسنانه، وامتلاكه ريش طيران غير متناسق، وأذرعًا كبيرة نسبيًّا. وفي العقود القليلة الماضية، أسفرت المئات من الاكتشافات المذهلة (خاصة من طبقات العصر الكريتاسي السفلي في مقاطعة لياونينج في الصين) عن مختلف أنواع الطيور البدائية ذات الأسنان، المحفوظة جيدًا مع الحفاظ على سلامة ريشها، وبعضها كان لا يزال يحتفظ بألوان ريشها الأصلية، إضافةً إلى بعض العينات النادرة التي كانت تضم محتويات المعدة أو الأعضاء الداخلية محفوظةً. علاوةً على ذلك، تكشف هذه الطبقات نفسها عن مجموعة من الديناصورات ليست من الطيور، مما يشير إلى أن الريش موجود في جميع مجموعات الديناصورات (ومنذ عام ٢٠۱۸ وجدنا عينات من التيروصورات توضح امتلاكها هي أيضًا للريش). معظم هذه الديناصورات التي ليست من الطيور ليس لديها ريش للطيران، وإنما تمتلك الريش لغرضه الأصلي، وهو العزل الحراري. هذا هو الحال تمامًا بالنسبة للطيور الحديثة التي تستخدم نسبة صغيرة فقط من ريش أجنحتها وريش الذيل للطيران. فمعظم ريشها هو ريش جسدي مثل الريش السفلي الذي يحتفظ بحرارة أجسادها.
وأخيرًا، نصل إلى أول أفراد طائفة الطيور، أو الطيور الحديثة. إن الكثير من صفات الطيور التشريحية لا يوجد في أسلافها، ومن ذلك فقدان الأسنان (أخيرًا)، والاندماج الكامل لعظام الساق والصف الأول من عظام الكاحل لتشكيل ما يُسمى بالعظم الرسغي المشطي. إنَّ التسلسل الانتقالي من الطيور إلى الديناصورات أحد أكثر التسلسلات التي وُثِّقت بشكلٍ كاملٍ في السجل الأحفوري، لكن تحديد الخط الفاصل بين الطيور والديناصورات يُعَد مهمة شبه مستحيلة؛ لأننا نرى الطيور الآن على أنها مجموعةٌ فرعيةٌ من الديناصورات؛ ومن ثَم فإن الديناصورات لم تنقرض.
هل فقدت الطيور أسنانها بالكامل؟ قد يظن المرء ذلك لأننا لا نرى أي أسنان على الإطلاق في الطيور الحية الآن، وهي تمتلك منقارًا قرنيًّا بدلًا من ذلك. تنعكس هذه الفكرة في مقولة «نادر مثل أسنان الدجاجة» (أي نادر جدًّا حتى إنه لا يوجد أبدًا). بالرغم من ذلك، فقد أجرى إي جيه كولر وسي فيشر تجربة رائدة في علم الأجنة وعلم الوراثة في عام ۱۹۸٠، وكانت النتيجة مفاجئة. قام كولر وفيشر بزرع غشاء فم فأر مختبر في منقار فرخ كان ما يزال ينمو. تركا الفرخ ينمو، وأصابهما الذهول لدى اكتشافهما أنه بطريقة ما نمت أسنان الفرخ مرة أخرى! ولم تكن هذه الأسنان بأسنان فأر على الإطلاق، بل كانت تلك الأسنان المخروطية البسيطة للديناصورات المفترسة، وطيور العصر الكريتاسي التي كانت لا يزال لديها أسنان. يبدو أنَّ الطيور لا تزال تمتلك في جيناتها المعلومات اللازمة لصنع الأسنان الديناصورية، لكن جيناتها التنظيمية كبحت هذه المعلومات فلا يمكن التعبير عنها أبدًا، إلا عندما يتلاعب بها العلماء في التجارب العلمية.
لا يزال الكثير من الجينات القديمة موجودًا في الحيوانات، مثل جينات الذيل لدينا (الفصل الخامس)، أو جينات أصابع القدم الجانبية للحصان (الفصل الرابع عشر). تظهر هذه الجينات على أنها «ارتدادات تطورية» أو تأسلات، مما يوضِّح أنه حتى إذا لم تَعُد التعليمات الخاصة لعمل صفةٍ ما ضرورية، فلا يزال من الممكن ألَّا يتخلص منها الكائن الحي خلال تطوره. فربما يكتفي بدلًا من ذلك بإسكات الجينات الخاصة بها. منذ تجربة كولر وفيشر الشهيرة، وجد العلماء الكثير من جينات الديناصورات الأخرى التي كُبِحت في الطيور، ولكن يمكن التعبير عنها إذا تخلصنا من أمر الإغلاق. تمكنت إحدى الدراسات من التلاعب بجينوم الفرخ، كي يُنمِّي الطائر ذيلًا عظميًّا ديناصوريًّا طويلًا، مثل ذيل أركيوبتركس، وليس الشاخص الذيلي القصير الذي يوجد لدى الطيور الحديثة. وعدَّل الباحثون في تجربة أخرى من جينات الأفرخ؛ بحيث بدت أقدامها ديناصورية على عكس أقدام الطيور. والأكثر إثارة للدهشة هو التلاعب الجيني بالجينات الخاصة بفم الطائر، والذي أدى إلى فم ديناصوري بأسنان بدلًا من المنقار غير المُسنَّن للطيور الحديثة.
الخلاصة أننا نمتلك سجلًّا أحفوريًّا ممتازًا يوضح الانتقال من فيلوسيرابتور إلى أركيوبتركس إلى الطيور الحديثة. إنها لحقيقة ثابتة أن الطيور تنحدر من ديناصورات صغيرة مفترسة، ويمكننا أيضًا أن نقول إن «الطيور ديناصورات حية». علاوةً على ذلك، فنحن نعرف المفاتيح الجينية التي استُخدِمت لتحويل الهيكل العظمي للطيور خلال هذا التاريخ التطوري. ففي المرة القادمة التي تنظر فيها إلى أعلى وتسمع تغريدًا، أو ترى كائنًا ذا ريش يطير بالقرب منك، استمتع بالديناصورات التي لا تزال تزدهر على كوكبنا.
قراءات إضافية
-
Chiappe, Luis M., “The First 85 Million Years of Avian Evolution,” Nature 378 (1995): 349–355.
-
Chiappe, Luis M. and Gareth J. Dyke, “The Mesozoic Radiation of Birds,” Annual Review of Ecology and Systematics 33 (2002): 91–124.
-
Chiappe, Luis M. and Lawrence M. Witmer, eds., Mesozoic Birds: Above the Heads ofDinosaurs, Berkeley: University of California Press, 2002.
-
Currie, Philip J., Eva B. Koppelhus, Martin A. Shugar, and Joanna L. Wright, eds., Feathered Dragons: Studies on the Transition from Dinosaurs to Birds, Bloomington: Indiana University Press, 2004.
-
Dingus, Lowell and Timothy Rowe, The Mistaken Extinction, New York: W. H. Freeman, 1997.
-
Gauthier, Jacques A., “Saurischian Monophyly and the Origin of Birds,” In The Origin of Birdsand the Evolution of Flight, ed., Kevin Padian, 1–56, San Francisco: California Academy of Sciences, 1986.
-
Gauthier, Jacques A. and Lawrence F. Gall, eds., New Perspectives on the Origin and Early Evolution of Birds, New Haven, Conn.: Yale University Press, 2001.
-
Kollar, E. J. and C. Fisher, “Tooth Induction in Chick Epithelium: Expression of Quiescent Genes for Enamel Synthesis,” Science 207, no. 4434 (1980): 993–995.
-
Norell, Mark A., Unearthing Dragons: The Great Feathered Dinosaur Discoveries, New York: Pi Press, 2005.
-
Ostrom, John H., “Archaeopteryx and the Origin of Birds,” Biological Journal of the Linnaean Society 8, no. 2 (1976): 91–182.
-
______, “Archaeopteryx and the Origin of Flight,” Quarterly Review of Biology 49, no. 1 (1974): 27–47.
-
Padian, Kevin and Luis M. Chiappe, “The Origin of Birds and their Flight,” Scientific American 278, no. 2 (February 1998): 28–37.
-
Prum, Richard O. and Alan H. Brush, “Which Came First, the Feather or the Bird?” Scientific American 288 (March 2004): 84–93.
-
Shipman, Pat, Taking Wing: Archaeopteryx and the Evolution of Bird Flight, New York: Simon & Schuster, 1988.