كيف حصلت الزرافة على عنقها؟
إن الزرافة بقامتها الفارعة الطول، هي وعنقها وساقاها الأماميتان ورأسها ولسانها، تتميز ببنيةٍ تكيَّفت بشكلٍ رائعٍ للرعي على فروع الأشجار المرتفعة. فهي إذن تستطيع الحصول على طعامٍ ليس في متناوَل غيرها من ذوات الحوافر التي تعيش معها في مكانٍ واحد، ومن المؤكَّد أنَّ هذا يمثِّل أفضليةً عظيمةً لها في أوقات ندرة الطعام … وهكذا كان الحال في الطبيعة مع الزرافات وهي في طور النشوء؛ فالزرافات الأطول التي كانت قادرةً على الوصول في أوقات ندرة الطعام إلى أغصانٍ أعلى مما يصل إليه غيرها ولو بمقدار بوصةٍ أو اثنتَين، هي التي تمكَّنت في الغالب من البقاء؛ إذ تكون قد جابت الأرض كلها بحثًا عن الطعام … وتلك الزرافات التي استطال لديها جزء واحد من أجسادها أو عدة أجزاء على نحو أكثر من المعتاد، كانت تنجو غالبًا. ستكون تلك الزرافات قد تزاوجت، وتركت ذرية إما وارثةً لنفس الخصائص الجسدية المميزة، أو نزعت للتنوع مرة أخرى على نفس المنوال، أما الأفراد التي لم يُواتِها الحظ لتنعم بمثل هذه الصفات، فكانت على الأرجح هي الأكثر عرضة للهلاك … ومن خلال هذه العملية المستمرة منذ فترة طويلة، والتي تتوافق تمامًا مع ما أسميتُه بالانتخاب اللاواعي بواسطة الإنسان، وبمشاركة بالغة الأهمية لا ريب فيها لما يورَّث نتيجة للاستخدام المتزايد للبُنى، يبدو لي بشكل شبه مؤكد أن حافرًا عاديًّا رباعي الأرجل قد يتحول إلى زرافة.
الزرافة من أروع الحيوانات. وقد نشأنا جميعًا مع صور لها في الكتب التي كنا نقرؤها في طفولتنا، ورآها معظمنا في حديقة الحيوانات. لقد أذهلت الزرافات البشر وفتنتهم منذ أن رأَوها لأول مرة. فنجد لدى شعب السان في جنوب أفريقيا رقصة طبية تسمَّى «رقصة الزرافة»، يُفترَض أنها تعالج أمراض الرأس. وفي الحكايات الشعبية الأفريقية، اكتسبت الزرافات طولها من خلال أكل أعشاب سحرية. تظهر الزرافات في الفن الأفريقي القديم للمصريين والكوشيين والكيفيين. يُعتقد أن الكيفيين هم الذين أنتجوا نقشًا حجريًّا بالحجم الطبيعي لزرافتين، وهو يُعَد أكبر نقش حجري في العالم. علاوةً على ذلك، خصَّص المصريون حرفًا هيروغليفيًّا للزرافة، واحتفظوا بالزرافات كحيوانات أليفة، وكانوا يبحرون بها عبر البحر المتوسط إلى ثقافات أخرى.
من المثير للاهتمام ملاحظة نتيجة سلوكٍ ما على شكل الزرافة وحجمها العجيبين؛ فمن المعروف أن الزرافة، وهي أطول الثدييات، تعيش في المناطق الداخلية من أفريقيا، حيث تكون التربة قاحلةً جرداء على الدوام؛ لذلك فهي مجبرة على التغذي على أوراق الأشجار، وبذل قُصارَى جهدها للوصول إليها. لقد نتج عن هذا السلوك المحفوظ منذ زمن طويل في جنس الزرافات كله أن ساقيها الأماميتين أصبحتا أطول من الخلفيتين، وأن رقبتها قد استطالت إلى أن أصبح ارتفاع الزرافة ستة أمتار دون أن تقف على رجليها الخلفيتين.
غالبًا ما يُستخدَم هذا المقطع القصير للامارك لتلخيص كامل نظريته المعقدة، عن كيفية تطور الحياة، وهو يُقتبَس باستمرار في مراجع علم الأحياء أيضًا. فعلى غرار معظم علماء الطبيعة في عصره، اعتقد لامارك أن التغيرات التي تقع على أجسادنا البالغة يمكن أن تنتقل مباشرة إلى أبنائنا (وهو ما يُعرَف ﺑ «وراثة الصفات المكتسبة»). ووفقًا لفكرته الشائعة، فإن عضلات الحدَّاد القوية تنتقل إلى أبنائه، وكذلك فإنَّ الرقبة الممتدة لأعلى الأوراق في الشجرة لدى الزرافات الأسلاف القصيرة العنق تنتقل إلى الأحفاد. صاغ لامارك هذه الفكرة على النحو التالي: «تؤدي التنويعات في البيئة إلى تغيرات في احتياجات الكائنات الحية وعاداتها وأنماط حياتها … ومن ثَم تؤدي هذه التغيرات إلى تعديلات أو تطورات في أعضاء هذه الكائنات، وفي شكل أجزائها.»
من المؤسف أنَّ هذا هو الجزء الوحيد من مفاهيم لامارك المعقَّدة، بشأن التطور الذي لا يزال يُذكَر حتى يومنا هذا في المعتاد، ويعود ذلك بدرجة كبيرة إلى أن منافس لامارك، البارون جورج كوفييه، بذل قصارى جهده لتدمير إرث لامارك وتشويهه بعد وفاة هذا الرجل العظيم. وحقيقة الأمر أنه قبل اكتشاف آلية الوراثة المندلية وعلم الوراثة المبكر في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كان معظم علماء الطبيعة يعتقدون بصحة وراثة الصفات المكتسبة، ومنهم تشارلز داروين.
نجد الكثيرين اليوم يسخرون من لامارك باعتباره «الرجل الذي أساء فهم التطور»، على الرغم من أن العديد من أفكاره كانت ثورية وصحيحة. علاوةً على ذلك، كان لامارك هو من أدرك وحدة علم الحيوان وعلم النبات، بل إنه هو من صاغ مصطلح «علم الأحياء». نجا لامارك من الثورة الفرنسية وعهد الإرهاب، لكنه اضطُر إلى التحول عن علم النبات، وتولى منصب أمين «الحشرات والديدان» في متحف التاريخ الطبيعي في باريس. وفي أثناء ذلك، انتهى به الأمر إلى إحداث ثورة وتأسيس مجال علم الحيوانات اللافقارية الحديث. ومن سوء الحظ أنَّ «اللاماركية» أو «الوراثة اللاماركية» قد اختُزِلت في فكرة واحدة خاطئة، لم تكن سوى جزءٍ ثانوي من تفكير لامارك، وهي فكرةٌ تمسَّك بها جميع علماء الطبيعة لعدة عقود أخرى.
هذه القصة جذابة للغاية وتبدو بديهية، لكن الأبحاث التي تُجرَى على سلوك الزرافات الحية تُظهِر أنه من النادر أن تكون هذه هي الحقيقة. فالواقع أنَّ الزرافات تأكل في معظم الأوقات ورقابها في وضع أفقي، كما أنها تتغذى كثيرًا على نباتات الأرض ورءوسها منحنية لأسفل باتجاه أقدامها. نادرًا ما تُرى الزرافات تحاول الوصول إلى أعلى الأشجار؛ لأن معظم أجزاء الأشجار أعلى من أن يصل إليها أيُّ حيوانٍ آخر يتغذى على الأشجار. في دراسة أُجرِيت عام ٢٠۱٠، اتضح أن الزرافات ذات الأعناق الأطول تموت خلال فترات الجفاف أكثر مما تموت ذات الأعناق الأقصر؛ إذ يتطلب العنق الأطول المزيد من العناصر الغذائية، والتي تكون نادرة أثناء الجفاف.
بدلًا من ذلك، وجد علماء أحياء الزرافات أن الأعناق الطويلة غالبًا ما تمثل ميزة تكاثرية للذكور، وهم في العادة أطول كثيرًا من الإناث. يتنافس الذكور على الأزواج مع ذكور منافسين آخرين، وغالبًا ما ينخرطون في معارك عنيفة، تنطوي على الكثير من حركات دفع أعناقهم إزاء أعناق منافسيهم أو ضغطها وضربها («صراع التعانق»)، والتسبب في إصابتهم أحيانًا. إن الحجم الكليَّ والعنق الطويل يعطيان ذكر الزرافة الأكبر أفضلية في التزاوج، يتميَّز بها عن الذكور المنافسين الأصغر.
غير أن هذا المسار الغريب منطقي تمامًا من الناحية التطورية. ففي الأسماك وأجنة الثدييات المبكرة، يوجد الشكل السلفي من العصب الحنجري الراجع الأيسر، متصلًا بالقوس الخيشومي السادس في عمق منطقة العنق والجسد. لا تزال الأسماك تحتفظ بهذا النمط، لكن في أثناء النمو الجنيني للثدييات اللاحقة، عُدِّلت الأقواس الخيشومية إلى أنسجة منطقة الحلق والبلعوم لدينا. وأُعيدَ ترتيب أجزاء من الجهاز الدوري القديم الشبيه بالجهاز الدوري للأسماك؛ ومن ثَم تراجع الشريان الأورطي (وهو أيضًا جزء من القوس الخيشومي السادس) إلى الصدر، آخذًا معه العصب الحنجري الراجع الأيسر (الملتف حوله) إلى الخلف أيضًا. لقد ورثت الزرافات هذا النظام الأخرق السيئ التصميم لأنه كان جزءًا من ماضيها الجنيني والتطوري. لم تكن هناك تكلفة كبيرة لإبقائه على تلك الحال، وكان من المحال تقريبًا إعادة ترتيب هذا النظام بسبب القيود التشريحية. إنَّ أعصاب الزرافة تُثار في غضون فترات تُقاس بالميكروثانية؛ لذا فإن الاختلاف في المدة الزمنية لاستجابتها لنبض عصبي ينتقل على مدار ۱٥ قدمًا بدلًا من قدم واحدة؛ لا يُعَد شيئًا ذا بال. وذلك مثال كلاسيكي على مدى ما قد تكون عليه الطبيعة من عدم كفاءة وسوء تصميم، عندما تسير على عمًى وراء المسارات الجنينية التي تأسَّست لدى أسلافنا أشباه الأسماك. ورغم هذه الدرجة من عدم الكفاءة، فإن الزرافة تتعايش جيدًا مع ۱٤ قدمًا إضافية من الأعصاب. فما دامت الزرافة تستطيع البقاء على قيد الحياة والتكاثر كي تترك المزيد من الزرافات، فإن عدم كفاءة أعصاب رقبتها يصبح أقل أهمية من الرقبة الطويلة التي تمنحها ميزة البقاء على قيد الحياة.
إن قصة الزرافة مثيرة للاهتمام ومعقدة. نحن نعلم أن أعناقها الطويلة قد تطورت، ولدينا الآن الحفريات التي توضح كيفية حدوث ذلك. ولدينا بالفعل حفريات لأكثر من عشرين نوعًا منقرضًا من الزرافيات، وجميعها تقريبًا لها أعناق قصيرة وأجزاء غريبة في الرأس. فلم تكن استطالة رقبة الزرافة ناتجةً بالكامل عن العمليات التي افترضها لامارك وداروين، على الرغم من استمرار هذه القناعات التقليدية لعقود من الزمن. ويقدم مسار العصب الحنجري الراجع الأيسر في عنقها الطويل مثالًا رائعًا على التصميم الأخرق وغير الفعَّال، مما يدحض محاولات الإشارة إلى وجود مصمم مثالي.
قراءات إضافية
-
Danowitz, Melinda, Aleksandr Vasilyev, Victoria Kortlandt, and Nikos Solounias, “Fossil Evidence and Stages of Elongation of the Giraffa camelopardalis Neck,” Royal Society Open Science 2, no. 10 (2015): 150393. http://doi.org/10.1098/rsos.150393.
-
Mitchell, G. and J. D. Skinner, “On the Origin, Evolution, and Phylogeny of Giraffes, Giraffa Camelopardalis,” Transactions of the Royal Society of South Africa 58, no. 1 (2003): 51–73.
-
Prothero, Donald R., The Princeton Field Guide to Prehistoric Mammals, Princeton, NJ: Princeton University Press, 2016.
-
Prothero, Donald R. and Robert M. Schoch, Horns, Tusks, and Flippers: The Evolution of Hoofed Mammals, Baltimore, Md.: Johns Hopkins University Press, 2003.