أرجُل على رءوسها
لقد حمَّلتَ نفسك مشقة لا داعي لها بتبنِّيك مبدأ «الطبيعة لا تصنع قفزات» بلا أي تحفظ.
كما أوضحنا في الفصل الخامس عشر، كانت فكرةُ أن الخصائص المكتسَبة يمكن أن تنتقل من الأبوين إلى الطفل؛ واسعةَ الانتشار في الأيام التي سبقَت علم الوراثة الحديث. سُمِّيت هذه الفكرة خطأً ﺑ «اللاماركية»، لكن حتى داروين صدقها. وجليَّةٌ هي جاذبية هذه الفكرة. إنها تعني أنَّ الكائنات الحية يمكن أن تتكيف بسرعة، في جيل واحد فقط، في استجابة مباشرة للمتطلبات البيئية. أما الانتخاب الدارويني الكلاسيكي، فهو على النقيض من ذلك، بطيء للغاية ومسرِف. يولَد عدد كبير من الذرية، لكن القليل منهم فقط يبقى على قيد الحياة مع احتفاظهم بتنويعات مواتية، ويتطلب الأمر العديد من الأجيال حتى تترسخ مجموعة كاملة كنوع جديد.
وعلى مر السنين، اقترح العديد من العلماء أفكارًا بدا أنها تُخِل بهذا المبدأ المركزي. ففي الخمسينيات من القرن الماضي، عرَّض عالم الأجنة كونراد وادينجتون يرقات ذباب الفاكهة لصدمة حرارية، وأنتج طفرة تفتقر فيها الأجنحة إلى الوريد المتقاطع. نُفِّذ هذا الإجراء جيلًا بعد جيل، وبعد ١٤ جيلًا ظهر ذباب لا يمتلك الوريد المتقاطع دون أن يكون قد تعرض لصدمة حرارية. فهل أدى الضغط البيئي بطريقة ما إلى تغيير النمط الجيني مباشرةً وليس من خلال الانتخاب؟ أطلق وادينجتون على هذه الظاهرة «الاستيعاب الجيني»، واستمر الداروينيون الجدد في الجدل بشأن كيفية تفسيرها بدون الاستناد إلى اللاماركية الجديدة.
في الآونة الأخيرة، أجرى علماء المناعة تجارب بدا أنها تبرهن على الوراثة المكتسبة. فعندما يتعرض كائن حي لمرض ما، يطور جهازه المناعي أجسامًا مضادة تقتل العدوى الدخيلة. وهذه المناعة تُكتسَب خلال فترة الحياة، ولا ينبغي أن تكون قادرة على أن تجد طريقها إلى الجينوم. غير أنَّ التجارب أثبتت أن الفئران يمكن أن تنقل مناعتها إلى ذريتها. ورغم أن الداروينيين الجدد لا يزالون يزعمون أن هذه الظاهرة يمكن تفسيرها بوسائل غير لاماركية، فإنها تثير أسئلة جدية بشأن حصانة الخط الجنسي.
في علم الأحياء الجزيئي، وثَّق العلماء المزيد والمزيد من الأمثلة التي تفيد بتغير الجينات بعد ولادة الكائن الحي. حصلت باربرا مكلينتوك على جائزة نوبل لاكتشافها «الجينات القافزة» التي تنتقل من بقعة على شريط الحمض النووي إلى أخرى، مغيِّرةً الشفرة الجينية. وأثبتت تجارب أخرى إمكانية دمج الحمض النووي الخارجي في خلية، وربما في الحمض النووي المضيف. في إحدى الحالات، بدا أن بكتيريا مختلفة تتبادل أجزاءً من المادة الجينية، وهو تحوُّل سمح لها جميعًا بتطوير طفرة جديدة بسرعة. وتقوم مجموعة واحدة من الفيروسات، الفيروسات الراجعة (مثل فيروس نقص المناعة البشرية المسبب للإيدز، وكذلك الفيروس المسبب لجدري الماء/الهِربِس النُّطاقي) بنَسْخ المعلومات الجينية الخاصة بها في الحمض النووي للمضيف. فهل يمكن أن تكون هذه هي الآلية التي تسمح بترجمة التغييرات البيئية إلى الشفرة الوراثية بشكل مباشر؟
على الرغم من أن المتشددين من الداروينيين الجدد لا يزالون يتجادلون بشأن الآثار المترتبة على هذه الدراسات ويختلفون معها، فقد صار جليًّا الآن أن الجينوم أكثر تعقيدًا ومرونة من البنية الثابتة الأصلية التي تصوَّرها وايزمان. ونظرًا لأن علم الأحياء الجزيئي وعلم المناعة يكتشفان المزيد والمزيد من الاستثناءات التي تُنافي المبدأ المركزي، فإنَّ الفكرة القائلة بإمكانية استجابة الكائنات الحية للضغوط البيئية عن طريق تغيير جينوماتها مباشرة، والتي كانت سيئة السمعة في يومٍ ما؛ قد لا تكون خاطئة تمامًا.
جاء أول إنجاز مهم في اكتشاف كيفية عمل التنظيم الجيني عام ١٩٦١، على يد جاك مونود وجان بيير تشانجو وفرانسوا جاكوب. كانوا يعملون على البكتيريا الإشريكية القولونية المألوفة (البكتيريا القولونية المعروفة أيضًا باسم إي كولاي، والتي تعيش بالملايين في أمعائنا). ووجدوا أنها تحتوي على مجموعة من الجينات التي تعمل في حلقة تغذية رجعية، وأنها تقوم بتشغيل جين معين أو إيقافه، وهو الجين المشغِّل للاكتوز، الذي ينتج إنزيم اللكتاز، المستخدم لتكسير سكريات الحليب (اللاكتوز). وما أثار دهشتهم أنهم اكتشفوا أنَّ المفتاح الذي يعمل على تشغيل الجين المشغِّل للاكتوز أو إيقافه، هو محفز خارجي في البيئة. ففي حالة وجود الكثير من اللاكتوز في محيط البكتيريا، يُشغَّل المفتاح، وتنتج البكتيريا الكثير من اللاكتاز بسرعة لهضم السكريات الزائدة. وإذا انخفض تركيز اللاكتوز، يتوقف تشغيل المفتاح، وتتوقف البكتيريا عن استثمار الطاقة في تكسير اللاكتوز. معنى هذا أنَّ مادةً خارجية هي التي تحفز قدرة الجينوم على إنتاج أشياء معينة. من الواضح أن الجينوم لا يتجاهل البيئة، وقد يتأثر بالمحفزات الخارجية.
إن جميع هذه الأفكار هي جزء من مجالٍ بحثيٍّ جديد مثير يُعرَف بالنماء التطوري، وهو الآن أكثر المواضيع إثارةً في مجال التطور. لقد انتقلنا من إصرار الداروينية الجديدة على لزوم أن يتغير كل جين تدريجيًّا لإنتاج نوع جديد، إلى إدراك أن عددًا قليلًا فقط من الجينات التنظيمية الرئيسية هو الذي يجب أن يتغير لإحداث فارق كبير، وغالبًا ما يحدث ذلك خلال جيل واحد. ويجنِّبنا هذا المفهوم العديد من المشكلات السابقة بخصوص التطور الكبروي. فمن الممكن ألَّا تكون العملياتُ التي تبني تخطيطات جسدية جديدة، وتسمح للكائنات الحية بإنماء علاقات بيئية جديدة؛ ناتجةً عن تغيرات تطورية صغروية على نطاق صغير تُعمَّم عبر الزمن. لا يزال بعض أنصار التطور يعتبرون النماء التطوري محض امتداد لفكرة الداروينية الجديدة، لكن آخرين يرَون أنه يشكِّل مسارًا من نوع مختلف تمامًا عن ذلك المتصوَّر في خمسينيات القرن الماضي.
في كلتا الحالتَين، تخبرنا فكرة أن جميع الكائنات المتعددة الخلايا على الكوكب — سواء كانت حيوانات أو نباتات أو فطريات — تشترك في مجموعة الأدوات الجينية نفسها؛ بالكثير عن مدى ارتباطنا الوثيق ببقية الكائنات الحية. ويمكن لهذه المفاتيح الجينية القليلة الموجودة في مجموعة الأدوات الخاصة بنا، أن تنتج العيون والأطراف وغيرها من البنى المختلفة تمامًا في جميع الكائنات، من ذباب الفاكهة إلى الفئران إلى البشر. إن اكتشاف أن بعض المفاتيح الجينية يمكن أن تُحدِث تغيراتٍ جذريةً في بنية الجسد في وقتٍ قصيرٍ يسمح لنا بالنظر في إمكانية حدوث تغيراتٍ تطوريةٍ كبروية من خلال التغيرات البيئية، وفي إمكانية تأثر الجينات التنظيمية الرئيسية بالظروف البيئية. ذلك شيء لم يكن من الممكن لشخصٍ أن يتخيله، ولو كان لامارك، فضلًا عن تشارلز داروين!
قراءات إضافية
-
Carroll, Sean, Endless Forms Most Beautiful: The New Science of Evo Devo, New York: Norton, 2005.
-
______, The Making of the Fittest: DNA and the Ultimate Forensic Record of Evolution, New York: Norton, 2006.
-
Gregory, T. Ryan, ed., The Evolution of the Genome, Amsterdam: Elsevier, 2005.
-
Held, Lewis I., Jr., Deep Homology? Uncanny Similarities of Humans and Flies Uncovered by Evo-Devo, Cambridge: Cambridge University Press, 2017.
-
______, How the Snake Lost Its Legs: Curious Tales from the Frontiers of Evo-Devo, Cambridge: Cambridge University Press, 2014.
-
______. Quirks of Human Anatomy: An Evo-Devo Look at the Human Body, Cambridge: Cambridge University Press, 2009.
-
Levinton, Jeffrey, Genetics, Paleontology, and Macroevolution, 2nd ed., Cambridge: Cambridge University Press, 2001.
-
Ridley, Mark, Evolution. 2nd ed., Cambridge, Mass.: Blackwell, 1996.
-
Wills, Christopher, 1989, The Wisdom of the Genes: New Pathways in Evolution, New York: Basic Books, 1989.