الأعين دليل على التطور
إن افتراض أن العين — بما لها من خصائص فذة لضبط البؤرة بما يتماشى مع مسافات مختلفة، وإدخال كميات متباينة من الضوء، وتصحيح الانحراف الكروي واللوني — يمكن أن تكون قد تشكَّلت بواسطة الانتخاب الطبيعي هو افتراض لا بد أن أعترف بمنتهى الصراحة أنه يبدو منافيًا للعقل لأقصى حد. عندما قيل لأول مرة إن الشمس تقف ساكنة في مكانها والعالم يدور حولها، أعلنَ الحدس البشري أنها فكرة خاطئة، لكننا لا يمكن أن نثق بالقول القديم: «صوت الناس هو صوت الرب» في مجال العلم، وذلك أمر يعرفه كل فيلسوف. إنَّ المنطق يدلنا على أنه إذا كان بالإمكان إثبات وجود درجات عديدة من عين بسيطة وغير كاملة إلى عين معقدة وكاملة، وكل درجة تؤدي فائدة لمالكها، كما هو الحال بالتأكيد، وإذا كان الأمر أنَّ العين تتنوع باستمرار وتورث هذه التنويعات، وهو الحال أيضًا بالتأكيد، وإذا كان المفترض أن تكون مثل هذه التنويعات مفيدة لأي حيوان في ظل ظروف الحياة المتغيرة؛ فلا ينبغي اعتبار صعوبة الاعتقاد بتشكُّل العين الكاملة والمعقدة عن طريق الانتخاب الطبيعي؛ أمرًا يدحض النظرية، وإن كنا غير قادرين على تصوره. إن الكيفية التي يصبح بها العصب حساسًا للضوء لا تعنينا تمامًا، مثلما لا تعنينا كيفية نشأة الحياة نفسها، لكن يجوز لي أن أشير إلى أنه لما كانت بعض الكائنات الحية الأقل تعقيدًا التي لا يمكننا رصد أعصاب لديها، قادرةً على إدراك الضوء، فلا يبدو من المستحيل أن تتجمع في بنيتها الحيوية بعض العناصر الحساسة؛ ومن ثَم تنمو إلى أعصاب تتمتع بهذه القدرة الحسية الخاصة.
في كتاب «أصل الأنواع»، تناول داروين واحدًا من أكبر الاعتراضات على أفكاره، وهو ما أسماه «الأعضاء البالغة الكمال». كان داروين يعلم أن أمثلة التصميم الاستثنائي، وتناسق البنى التشريحية هي جوهر مدرسة «اللاهوت الطبيعي» القديمة، وقد بذل جهدًا كبيرًا للتأكيد على أمثلة التصميم الرديء، أو غير الفعال في الفصل التاسع من كتابه. غير أنه لم يكن يستطيع تجنُّب الحديث عن التصميم الجميل إلى الأبد. ولهذا تناوله مباشرة في الفصل السادس، وركز تحديدًا على أعضاء مثل العين. كيف أمكنَ لمثل هذه البنية المثالية أن تُنتَج بواسطة الانتخاب الطبيعي العشوائي؟ يبدو أن داروين «اعترف بصراحة» أن هذا «يبدو منافيًا للعقل لأقصى حد».
عندما نشر داروين أفكاره لأول مرة، واجه هجومًا بالفعل من النقاد، مثل سانت جورج جاكسون ميفارت، بشأن هذه القضية. لقد ظهر الاقتباس الوارد في بداية هذا الفصل في طبعات لاحقة من كتابه كإجابة مباشرة على ميفارت. والحق أنَّ منكري العلم وَلِعون باقتباس الجملة الأولى من هذا الاقتباس على وجه التحديد؛ فهم يزعمون أن داروين اعترف بأن فكرة التطور «منافية للعقل لأقصى حد». إنهم يتجاهلون بقية الاقتباس بالكامل دونما نزاهة؛ لأن الجملة الأولى بالطبع هي التي تؤسس للمعضلة الأولية، بينما يوضح باقي الاقتباس أن داروين لديه إجابة بالفعل عن الكيفية التي يمكن أن تكون قد أدت إلى تطور العين. لقد رأيتهم يفعلون ذلك في المناظرات، وبفضل هاتفي الذكي، يمكنني عرض هذا الاقتباس بالكامل وقراءته عليهم مرة أخرى. وهم إما يفشلون تمامًا في فهم ما قاله داروين، ويستمرون في الإصرار على أن الجملة الأولى فقط هي التي تهم، وإما يصمتون عن هذه المسألة ويحيلون النقاش إلى موضوع آخر.
في عام ١٨٥٩، لم يكن لدى داروين الكثير من الأدلة لدعم قضيته. استطاع أن يشير إلى أن الكائنات الحية البسيطة الشبيهة بالأميبا (كانت تسمَّى «ساركوديات» في زمن داروين) لديها خلايا حساسة للضوء في أنسجتها تساعدها على التنقل باتجاه الضوء أو بعيدًا عنه، وقد قدَّم ثلاث صفحات من أمثلة لكائنات حية تتمتع بأنواع مختلفة من الإدراك الضوئي. ولكن في زمن داروين، كان هناك القليل جدًّا من العمل الذي أُجريَ على الاستقبال الضوئي في مجموعات أخرى من الحيوانات. ومن حسن الطالع، خلال أكثر من ١٦٠ عامًا منذ نُشِر كتاب داروين، أُنجزَ قدر هائل من الأبحاث فيما يتعلق بالاستشعار الضوئي في مملكة الحيوان، ونحن نمتلك الآن تسلسلًا استثنائيًّا لأنواعٍ مختلفة من المستقبلات الضوئية والأعين، التي توضح كيف يمكن للبصر حقًّا أن يتطور. (إذا كنت مهتمًّا، فإنني أوصي بكتاب إيفان شواب من عام ٢٠١٢، المصوَّر بشكل جميل، «شاهد على التطور: كيف تطورت العيون؟»، والذي يحتوي على مئات الرسوم التوضيحية والصور الملونة التي تعرض كل أنواع العيون المعروفة تقريبًا.)
أو بعبارة داروين:
إنَّ المنطق يدلنا على أنه إذا كان بالإمكان إثبات وجود درجات عديدة من عين بسيطة وغير كاملة إلى عين معقدة وكاملة، وكل درجة تؤدي فائدة لمالكها، كما هو الحال بالتأكيد، وإذا كان الأمر أنَّ العين تتنوع باستمرار وتورث هذه التنويعات، وهو الحال أيضًا بالتأكيد، وإذا كان المفترض أن تكون مثل هذه التنويعات مفيدة لأي حيوان في ظل ظروف الحياة المتغيرة؛ فلا ينبغي اعتبار صعوبة الاعتقاد بتشكُّل العين الكاملة والمعقدة عن طريق الانتخاب الطبيعي؛ أمرًا يدحض النظرية، وإن كنا غير قادرين على تصوره.
تُعَد إضافة عدسة بمثابة تحسُّن هائل. ففي العين البسيطة التي لا يوجد بها سوى قرنية، تُدخِل الفتحة رقعة واسعة من الضوء على مساحة كبيرة من الشبكية. لكن إضافة العدسة تركز الإشعاع المرئي الوارد على منطقة صغيرة من شبكية العين، مما يسمح لها باستشعار حتى الضوء الخافت، وتشكيل صورة أفضل بكثير في الضوء الساطع. وتحتوي بروتينات العدسة أيضًا على مُعامِل انكسار عالٍ، مما يسمح لها بتركيز الضوء بشكل أكثر وضوحًا.
من هذه المرحلة التطورية، تباين تركيب العدسات في العين وعددها تباينًا كبيرًا على مستوى المملكة الحيوانية. فمعظم الحيوانات ذات الأرجل المفصلية، أو المفصليات (الحشرات، والعناكب، والعقارب، والقشريات، والديدان الألفية، ومئويات الأرجل، ومعظم ثلاثيات الفصوص، وأقاربها) تمتلك العديد من العدسات الصغيرة المعبأة في عين مركبة. تستشعر كل عدسة صغيرة اختلافًا بسيطًا في الضوء أو الظلام، وعندما تُدمَج معًا، يمكن لدماغ الكائن تجميع فسيفساء معقدة من البقع الفاتحة والداكنة التي يفسرها على هيئة صورة. يحتوي العديد من هذه الأعين المركبة على مئات العدسات، وهي تنتفخ للخارج في شكل شبه كروي كي يرى الحيوان جميع الجوانب الموجودة حوله تقريبًا، ليَحذَر من الحيوانات المفترسة القادمة من أي اتجاه.
في شُعَب أخرى، يمكن تتبع تسلسل مختلف من المراحل التطورية لدى كائنات المجموعة. فعلى سبيل المثال، تتسم الرخويات عن غيرها من الشُّعب بأنها تتضمن أكبر تنوع من الأعين. بعض الرخويات الأكثر بدائية عمياء، أو لديها بقع صغيرة من الخلايا الحساسة للضوء منتشرة في جميع أنحاء أجسادها، لاكتشاف الظل الداكن لحيوان مفترس يقترب. المرحلة التالية هي العين البدائية المسطحة، أو البقعة العينية، والتي تتمثَّل في وجود مجموعة من الخلايا الحساسة للضوء مجتمعة معًا. إنها لا تسمح للكائن الحي باستشعار الظلام والنور فحسب، بل تسمح بتمييز مصدر الضوء أيضًا. يوجد هذا النوع من الأعين حاليًّا في قناديل البحر، إضافةً إلى مجموعةٍ صغيرةٍ من الرخويات البدائية جدًّا.
وتتمثل الخطوة التالية على ذلك في العين التي تتخذ شكل الكوب، والتي تحتوي على طبقة مصطبغة في الأسفل لاستشعار الضوء. تنتشر هذه الأعين بين الرخويات التي تحتاج إلى اكتشاف أي مفترس قادم، وتوجد في البطلينوس، والخيتون، وأنواع معينة من المحار. تُبعتْ هذه الخطوة بنمط الكاميرا ذات الثقب، الذي يعطي صورة مُركَّزة منخفضة الإضاءة على شبكية العين. عُثِر على مثل هذه في نوع نوتيلوس، وكذلك في أذن البحر والأنواع القريبة منهما. تحتوي العين الأكثر تقدمًا على قرنية (وهي في هذه الحالة نسيج ظهاري شفاف) بدون وجود عدسة دائمة تُذكَر، على الرغم من أن بعض الرخويات تستخدم حويصلة أو فقاعة من السائل لتقوم بدور العدسة. إنَّ هذه الأنواع من الأعين توجد في الحلزونات البحرية المفترسة ومعظم الحلزونات البرية، ومما يثير الدهشة أنها توجد لدى المحار المروحي الذي يمتلك العديد من الأعين الصغيرة حول حافة وشاحه، وهي تمكِّنه من استشعار اقتراب حيوان مفترس.
إنَّ مُقَل الفقاريات في العموم تشبه مقلنا، والتي نعتقد أنها «اعتيادية» بالنسبة لأعين الحيوانات. لكن الفقاريات الأكثر بدائية، مثل سمكة الجريث اللزجة اللافكية، ليس لها سوى عين بسيطة على شكل كوب. تعيش هذه السمكة في المياه العميقة المظلمة، وهي تتنقل وتتغذى بواسطة حاستَي التذوق والشم. أما أقاربنا البدائيون من اللافقاريات، مثل الغلاليات (بخاخات البحر) والسُّهيمات أو الرُّميحات، فلديها بقعة عينية بسيطة، عندما تكون يرقات على الأقل. ويبدو أيضًا أن حفريات أقدم سمكة لا فكية من العصر الكمبري في الصين امتلكت بقعة عينية بسيطة أيضًا. لكن بدءًا من الجلكيات التي امتلكت عينًا بها عدسة بدون مقلة مملوءة بالسوائل، ثم أسماك القرش، التي لها مقلة تشبه مقلتنا إلى حد كبير، تمتلك جميع الفقاريات تقريبًا عينًا أكثر تعقيدًا لها عدسة، وقزحية، إضافةً إلى الخصائص الأخرى المتعلقة بقدرتنا على الإبصار.
لقد وُفِّق داروين في التحدي الذي طرحه. أشار الرجل إلى أنَّ تطور عين معقدة من عين أبسط قد تضمن، لا بد، خطوات عديدة، وذكر الأمثلة القليلة التي كانت معروفة في عصره. ونحن رأينا أنه يوجد بالفعل العديد من الخطوات الوسيطة التي مرت بها العين، بدءًا من بقعة عين بسيطة، ثم أعين معقدة لها عدسات وخصائص أخرى، وقد مرت عدة مجموعات أخرى، مثل الرخويات والفقاريات، بجميع هذه الخطوات بشكل مستقل لتطوير مقلة العين المعقدة التي نمتلكها. لقد اقترح داروين أنه «بالإمكان إثبات وجود درجات عديدة من عين بسيطة وغير كاملة إلى عين معقدة وكاملة»، وقد وثَّق العلم الآن كل هذه الدرجات، وليس ذلك في أقاربنا الأحياء الأكثر بدائية فحسب، بل في السجل الأحفوري أيضًا في بعض الأحيان. إن تصوُّر كيفية تطور العين لم يَعُد «منافيًا للعقل لأقصى حد».
قراءات إضافية
-
Glaeser, Georg and Hannes F. Paulus, The Evolution of the Eye, Berlin: Springer, 2015.
-
Lamb, Trever D., “Evolution of the Eye,” Scientific American 305, no. 1 (2011): 64–69.
-
Land, Michael F., Eyes to See: The Astonishing Variety of Vision in Nature, Oxford: Oxford University Press, 2019.
-
Land, Michael F. and Dan-Eric Nilsson, Animal Eyes, 2nd ed., Oxford: Oxford University Press, 2012.
-
Oakley, Todd H. and Daniel I. Speiser, “How Complexity Originates: The Evolution of Animal Eyes,” Annual Review of Ecology, Evolution, and Systematics 46 (2015): 237–260.
-
Parker, Steven, Color and Vision: The Evolution of Eyes and Perception, New York: Firefly Books, 2016.
-
Schwab, Ivan, Evolution’s Witness: How Eyes Evolved, Oxford: Oxford University Press, 2012.