مصلِّح، لا مهندس
يجب على أي شخص يعتقد أن أجسادنا من عجائب الهندسة الميكانيكية أن يحضر دليل الهاتف، ويتصفح قوائم اختصاصيي تقويم الأسنان، وأطباء العظام، واختصاصيي تصحيح البصر، ومعالجي تقويم العمود الفقري، وذلك على سبيل المثال لا الحصر. إنَّ هؤلاء الأطباء يكسبون رزقهم عن طريق معالجة عيوبنا المتعددة. علينا إذن مواجهة الواقع؛ إنَّ أجسادنا بها العديد من الخصائص التي يمكن أن تؤدي وظائفها بشكل أفضل. إن الحقيقة المحزنة هي أن التطور ليس مهندسًا، بل هو مُصلِّح فحسب.
على مدار القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين، كان علماء الطبيعة واللاهوتيون (وغالبًا ما كان التخصصان متصلين يجمع الباحث بينهما) يرَون الجسد البشري على أنه نموذج للتصميم والهندسة المثاليَّين. أفلا تخبرنا الآية السادسة من الإصحاح التاسع من سِفر التكوين أن «الإله قد خلق الإنسان على صورته»؟ لا بد إذن أنَّ جسد الإنسان مثالي، أو هو بأفضل درجةٍ ممكنةٍ من التصميم على الأقل. وغالبًا ما كانت مدرسة «التفاؤل الفلسفي» الفكرية التي شكَّلها جوتفريد فيلهلم ليبنتز ومفكرون آخرون في سبعينيات وثمانينيات القرن السابع عشر، هي القوة الدافعة لهذه النظرة المتطرفة. وقد سخر فولتير بشراسة من هذه المدرسة الفكرية في روايته «كانديد» الصادرة عام ١٧٥٩، والتي عبَّرت فيها شخصية البروفيسور بانجلوس عن فلسفة ليبنتز، عندما قال إن هذا العالم هو «أفضل العوالم الممكنة» (على الرغم من كل مشاكله الجليَّة، مثل الموت والمرض والكوارث الطبيعية). ويذهب بانجلوس إلى أبعد من ذلك بإطلاقه سخافات مثل «لقد خُلقتْ أرجلنا كي نتمكن من ارتداء البناطيل»، أو «من الواضح أن الأشياء لم يكن من الممكن أن تكون بخلاف ما هي عليه؛ لأن كل الأشياء قد خُلقتْ لغاية ما، ولا بد أنها خُلقتْ للغاية المُثلى. لاحظ، على سبيل المثال، أن الأنف قد شُكِّل كي يحمل نظارات، ولهذا نرتدي النظارات».
تضع القصة كانديد، وأحيانًا بانجلوس، وسط كل أهوال الحياة التي يمكن تخيلها، من فقدان عائلته وثروته ومنزل أجداده، والحرب التي كادت تودي بحياته، إلى نجاته بصعوبة بالغة بعد غرق سفينته، ووصوله إلى ميناء لشبونة لا لشيء إلا ليخوض تجربة زلزال لشبونة وإعصارها وحرائقها المروعة عام ١٧٥٥. يتعرض كانديد وبانجلوس للتعذيب، ويكادان أن يُعدَما بأمر محاكم التفتيش عندما ألقي عليهما اللوم على زلزال لشبونة. يتمكنان من الهروب في النهاية، لكنهما يصبحان عبدَين في العالم الجديد. لقد أدَّت سخرية فولتير البارعة إلى فقدان مدرسة التفاؤل لمصداقيتها تمامًا، حتى إنَّ المرء كاد يعتقد أنها لم تكن لتعود أبدًا. لكن العقيدة الدينية لها قوتها المؤثرة، وكانت الفكرة الأساسية نفسها موجودةً في مدرسة اللاهوت الطبيعي المشهورة في القرن الثامن عشر (انظر الفصل التاسع). الحق أنَّ النهج الذي اتبعته هذه المدرسة كان أقل عبثًا من نهج ليبنتز؛ إذ اكتفت بالاستدلال على وجود مصمم إلهي من خلال التصميم المعقد للطبيعة. ورغم ذلك، فقد روَّجت مدرسة اللاهوت الطبيعي لأفكار مماثلة لتلك التي طرحها ليبنتز.
في عام ١٧٧٩، جاء الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم بكتابه «محاورات في الدين الطبيعي»، ودحض فيه الفكرة الأساسية للَّاهوت الطبيعي تمامًا. لكن الفكرة المستبشرة بأن الطبيعة دليل على صنع الرب وتصميمه الإلهي كانت لا تزال واضحة في عام ١٨٠٢ في كتاب القس ويليام بايلي «اللاهوت الطبيعي». كان داروين يعرف كتاب بايلي عن ظهر قلب عندما كان طالبًا. ولكن بحلول الوقت الذي كتب فيه داروين كتابه «أصل الأنواع» في عام ١٨٥٩، كان قد رأى في الطبيعة العديد من الأمثلة على البنى السيئة التصميم الارتجالية، والتي هي دون المستوى الأمثل، حتى لم يعد بإمكانه أن يقبل وجهة نظر بايلي الساذجة.
ناقش داروين مشكلة الأعضاء التي هي دون المستوى الأمثل والأعضاء الأثرية في كتابه الصادر عام ١٨٥٩، لكنه حرص بشدة على أن يتفادى مناقشة البشر كأمثلة على التطور في الكتاب. وعندما كتب داروين «أصل الإنسان» في عام ١٨٧١، لم يعد من الممكن تجنب هذه المسألة، وناقش مشكلة الأعضاء الأثرية والأعضاء السيئة التصميم لدى البشر في ذلك الكتاب بإسهاب:
إن جميع الحيوانات الأعلى رتبةً لديها جزء ما في حالة أثرية، وليس الإنسان باستثناء من هذه القاعدة. ولا بد لنا من تمييز الأعضاء الأثرية عن الوليدة، وإن كان التمييز بينهما ليس بالأمر الهيِّن في بعض الحالات. فالأولى إما عديمة الفائدة على الإطلاق، مثل أثداء الذكور من ذوات الأربع، والأسنان القاطعة التي لا تخترق اللثة أبدًا لدى المجترات؛ وإما ذات فائدة طفيفة للكائنات التي توجد لديها الآن، بحيث لا يمكننا أن نفترض أنها قد تطورت في ظل الظروف الحالية. إنَّ الأعضاء في هذه الحالة الثانية ليست أثرية تمامًا، لكنها تميل في هذا الاتجاه. أما الأعضاء الوليدة، فهي تقدم فائدة عظيمة لمالكيها، على الرغم من عدم اكتمال نموها، وهي قادرة على تحقيق مزيد من النمو. تتنوع الأعضاء الأثرية تنوعًا كبيرًا، وهذا أمر مفهوم جزئيًّا؛ لأنها عديمة الفائدة تمامًا أو بصورة شبه كلية؛ ومن ثَم لم تعُد تخضع للانتخاب الطبيعي. غالبًا ما تُكبَح هذه الأعضاء بالكامل. وحتى عندما يحدث هذا، تظل عرضة للظهور من حين لآخر من خلال الارتداد، وهو ظرف جدير بالاهتمام.
ومثلما أشار داروين، لم يُصمَّم البشر ولا أي كائنات أخرى بشكل مثالي، بل تتكون جميع الكائنات من أعضاء وأنسجة تعمل بشكل جيد فقط، بما يكفي لبقاء الكائن الحي وتكاثره. إضافةً إلى ذلك، نظرًا لأن الغرض من الانتخاب الطبيعي هو نقل الجينات إلى الجيل التالي، فإن أي صفات تتطور أو تتغير بعد التكاثر الناجح لا تهم. فبالنسبة لمجموعة متنوعة من الحشرات واللافقاريات الأخرى، وكذلك بعض الأسماك، مثل السلمون، فإن التزاوج الناجح ووضع البيض هما كل ما يلزم، وبعدها يموت البالغون بسرعة. وفي حالاتٍ أخرى، غالبًا ما تُصاب الكائنات البالغة غير القادرة على التكاثر بالجروح وتموت، أو تقتلها المفترسات، مما يجعل بقية المجموعة أصغر سنًّا وأكثر نشاطًا. ومن بين الاستثناءات التي تثبت القاعدة الأفيالُ وغيرها من الحيوانات الطويلة العمر ذات الروابط المجتمعية القوية. فأكبر الأفراد سنًّا تصبح هي الأم الحاكمة، صحيحٌ أنها لم تعد قادرة على التكاثر، لكن قوتها وخبرتها وحكمتها تضمن نجاة إناث القطيع الأصغر سنًّا وبقاءها على قيد الحياة.
يشير علماء الأنثروبولوجيا إلى أن المجتمعات البشرية جمعت بين عناصر من كلتا الخبرتين عبر الزمن. حتى وقت قريب، نادرًا ما كان الأفراد في معظم مجموعات الصيد وجمع الثمار أو في الحضارات الزراعية البسيطة؛ يتجاوزون سن الثلاثين أو الأربعين، ويكونون قد نجحوا بحلول ذلك الوقت في إنجاب الأطفال أو لم ينجحوا في ذلك. لم يكن السرطان، وأمراض القلب، والسكتات الدماغية، والخرف، والأسقام الأخرى التي تصيب مسنِّينا الآن؛ مصدر قلق في المجتمعات السابقة لأن البشر نادرًا ما كانوا يعيشون فترة طويلة بما يكفي لأن يختبروا مثل هذه المشكلات. من الممكن أن يشكِّل الأفراد الأكبر سنًّا عبئًا على القبيلة، وفي بعض المجموعات كانوا يُتركون ليموتوا إذا ازدادت قسوة الظروف، وأصبحت المجموعة بأكملها في خطر من الموت جوعًا، أو من بعض الضغوط البيئية. وفي المجتمعات البشرية الأخرى، كان هؤلاء الأفراد الأكبر سنًّا يحظَون بالطعام والمأوى، على الرغم من أنهم قد يبطئون القبيلة، أو يحتاجون إلى رعاية إضافية. فهؤلاء المسنُّون لديهم مخزون من الخبرة والحكمة القبلية التي يقدرها الأفراد الأصغر سنًّا القادرون على الإنجاب. لقد وجدت حسابات الطبيعة القاسية، التي تُفضِّل مَن يضمنون اللياقة الإنجابية للمجموعة كلها، استثناءات أيضًا تثبت القاعدة في المجتمعات البشرية. ومعظم المجتمعات البشرية اليوم تُقدِّر حياة جميع الأفراد.
ومن أجل التغلب على نزعة الطبيعة لتفضيل مَن هم في سن الإنجاب والكائنات الأكثر لياقة بشكل عام، تقبل المجموعات الاجتماعية البشرية هؤلاء الأفراد الأقل لياقة، وغالبًا ما تُعوِّض عن ضعفهم وأسقامهم. إنَّ مَن لا يتمتعون من اللياقة بما يكفي للركض مع قبيلة من الصيادين وجامعي الثمار، أو غير القادرين منا على قتل الطرائد بسبب ضعف بصرهم، يتمكنون اليوم من البقاء على قيد الحياة لأن الثقافة تطغى على الطبيعة. ثم إن الأجهزة التي صنعناها من خلال إبداعاتنا، مثل النظارات وأجهزة تقوية السمع والأطراف الصناعية والأدوية، تمكننا من البقاء على قيد الحياة لفترات أطول بكثير مما كانت تسمح به الطبيعة في العادة.
وعلى الرغم من ذلك كله، فإن الطبيعة الارتجالية العشوائية لأجسادنا تظل حقيقة. فما دامت هذه الصفات «جيدة بما يكفي» لبقاء الكائن الحي (أو لا تؤذينا بشكل مباشر على الأقل)، فسوف تستمر. وفي كثير من الحالات، تكون هذه الصفات دون المثالية موجودة لأن الأنواع القريبة منا كانت تمتلكها، أو كانت لدى أسلافنا، وهي مُتأصِّلة في الجينوم البشري رغم أنها لم تَعُد تؤدِّي وظيفة. ذلك أنَّ تحديث جيناتنا للتخلُّص من هذه الصفات العديمة الفائدة أمرٌ مكلفٌ للغاية في معظم الحالات. وعن ذلك كتب لويس هيلد جونيور في كتابه «غرائب تشريح الإنسان»؛ أننا لا نزال نتأقلم مع:
الأداء دون المثالي للبنية بسبب ما يلي: (١) استخدامها في سياق جديد (كالوقوف على قدمَين بدلًا من أربعة أطراف)؛ و(٢) عدم قدرة التطور على إصلاحها (بسبب المتطلبات التقييدية لإعادة تحديث الجينومات، على سبيل المثال). وذلك يشبه أن يظل النوع غير قادر على التطور بدرجة كبيرة في بيئة تكيفية وعرة. (٣٣)
من الأمثلة المشهورة أيضًا، تدلِّي الخصيتين لدى البشر. في الحيوانات ذات الدم البارد، توجد الخصيتان داخل الجسد للحفاظ على ثبات درجة حرارتها قدر الإمكان. لكن وجود الخصيتين في التجويف البطني في ذوات الدم الحار غالبًا ما يجعلها شديدة الحرارة، مما يمكن أن يُثبِّط النمو الصحي للحيوانات المنوية. وتتمتع بعض الحيوانات بنظام تبريد داخلي يَحُول دون حدوث ذلك، لكن في البشر والرئيسيات الأخرى، تنبثق الخصيتان من تجويف الجسد الداخلي في كيس يسمى الصفن، وتتدلى من الجسد. وصحيحٌ أنَّ هذا يساعد في الحفاظ على الخصيتين من السخونة الزائدة، لكنه يخلق مجموعة جديدة من المشاكل. فالأمر لا يقتصر على أنَّ خروجهما من الجسد يجعلهما أكثر عرضة للأذى أو لهجوم المنافسين، بل يجب حمايتهما أيضًا من البرودة الشديدة في الطقس البارد. غير أنَّ المشكلة الأكبر هي أن تدلِّي الخصيتين عبر جدار البطن يخلق ضعفًا في الغشاء البريتوني، مما قد يؤدي إلى فتق أُرْبي، وهي حالة مرضية مؤلمة جدًّا ومنهكة. إنَّ معظم الرئيسيات تمشي على أطرافها الأربعة، ويتدلى وزن بطنها من العمود الفقري، ويمتد عبر بطنها؛ ولهذا لا يمثل خروج الخصيتين مشكلة كبيرة بالنسبة لها. ولكن عندما بدأ الإنسان في المشي منتصبًا، دُفِع ثِقَل أعضائنا البطنية إلى أسفل مباشرة، وتحملتها منطقة الورك، مما شكَّل ضغطًا كبيرًا على الغشاء البريتوني، وهو الوضع المثالي للفتق.
ويتسبَّب تحمُّل الوركَين وأسفل العمود الفقري لوزن الجزء العلوي من الجسم بأكمله؛ في حدوث العديد من مشاكل أسفل الظهر. لقد تكيَّف عمودنا الفقري السفلي في الأصل لمشيةٍ رباعية الأرجل، ولم يكن على العمود الفقري أن يتحمَّل سوى جزءٍ فقط من وزننا. ونظرًا لأن تصميم العمود الفقري ليس جيدًا لتحمل وزن الجسد بالكامل في وضعية الجسد الثنائي القدمين، يعاني العديد من الأشخاص من آلام الظهر ومشاكل العمود الفقري، مثل الانزلاق الغضروفي، وانحناء العمود الفقري (الجَنَف).
ثمة مثالٌ آخر على التصميم السيئ يتمثَّل في المسار الحَلَقي السخيف الذي يسلكه الإحليل في الجهاز التناسلي الذكري. يمر الإحليل عبر منتصف غدَّة البروستاتا التي يمكن أن تصاب بالالتهابات أو السرطان. وعندما تتضخم غدة البروستاتا، تضغط على مجرى البول، مما يزيد من صعوبة تدفق البول من المثانة إلى القضيب. وكما يعلم الرجال الأكبر سنًّا الذين عانَوا من مشاكل البروستاتا، من الممكن أن تسبب هذه الحالة ألمًا شديدًا، وتضطر المصابين بها إلى التبول مرارًا وتكرارًا، خاصة في الليل. إن سرطان البروستاتا هو السبب الأول للوفاة بين الذكور فوق سن الخمسين، وهو يجعل هذه المنطقة معرضة للأذى بشدة. وقد نتج هذا المسار الحَلَقي عن تطورنا الجنيني وتدلي الخصيتين، وكلاهما من القيود التي تجعل تصميم هذا المسار سيئًا بالنسبة لوظيفته.
وليست بقية أعضاء الجهاز التناسلي أفضل حالًا. فقنوات فالوب التي توجد لدى الإناث طويلة بشكل غير ضروري، مما يؤدي في بعض الأحيان إلى الحمل البوقي أو الحمل خارج الرحم. إنَّ فتحتَي القناتَين لا تتصلان حتى بالمبيضين مباشرةً، مما يؤدي في حالات نادرة إلى خروج البويضة المخصبة إلى تجويف الجسد، ويتسبب في مشكلة صحية تُعرَف باسم (الحمل البطني). القناة الدافقة التي توجد لدى الذكور هي أيضًا طويلة جدًّا؛ إذ تتخذ مسارًا حلقيًّا طويلًا، بدلًا من مسار أقصر وأكثر كفاءة. يخصص ناثان لينتس فصلًا كاملًا في كتابه «أخطاء في الإنسان»، يسرد فيه سلسلة من المشاكل الأخرى في أنظمتنا التناسلية التي لا توجد في أي حيوان آخر، والتي تجعل البشر أقل خصوبة مما كان يمكن أن يكونوا. ما من حيوان آخر لديه مثل هذا المعدل المرتفع لحالات الحمل الفاشلة، والعيوب الخلقية، وفرص الإنجاب الضائعة، وغيرها من المشاكل.
أما المشكلة الكبرى في التكاثر فهي الزيادة الكبيرة في حجم دماغ الوليد، مما يجعل رأسه أكبر من أن يمر عبر الفتحة العظمية الموجودة في حوض الإناث، والتي تشكل جزءًا من قناة الولادة. ولو كانت فتحة الحوض أكبر لدى إناث البشر لاستيعاب هذا التوسع الدماغي، لصارت الوركان عريضتَين جدًّا لدرجة تجعل المشي في وضعية الجسد الثنائي القدمين أكثر صعوبة. وبدلًا من ذلك، يتغلب البشر على هذه المشكلة عن طريق الولادة المبكرة (تسعة أشهر من الحمل مقابل الوقت الأطول المتوقع لحيوان ثديي بحجم جسدنا). يسمح هذا للطفل المولود مبكرًا أن يعبر قناة الولادة بدماغه الأصغر (على الرغم من أنَّ دفع الطفل لا يزال عملية صعبة، وقد تُوفي العديدُ من النساء أثناء الولادة بسبب هذه المشكلة). يكتمل نمو دماغ الطفل فيما بعد خارج الرحم. ويأتي ذلك في مقابل أنَّ الطفل لا ينمو في فترة الحمل بالدرجة الكافية، فيحتاج إلى رعاية كبيرة من الوالدين بعد الولادة. أما الثدييات التي يحظى أطفالها بفترات حمل مناسبة، فتكون أكثر قدرةً على العناية بأنفسها بعد الولادة بفترةٍ وجيزة. غير أنَّ بعض الباحثين في مجال الأنثروبولوجيا يتشككون في صحة هذا المفهوم.
أما التصميم غير المتقَن لأطرافنا ذات القدمين، فيعود إلى أسلافنا من ذوات الأربع؛ فلم تكن الوركان والركبتان والكاحلان والقدمان بحاجة لتحمل كل هذا الوزن. لكن في حالة السير على قدمين، تتحمل كل هذه المفاصل وزن أجسادنا بالكامل، والذي يَعظُم عندما نحمِّل تلك المفاصل مجهودًا شديدًا بالقفز أو الجري كثيرًا. إنَّ الوركين والركبتين والكاحلين والقدمين تسبب للبشر القدر الأكبر من مشاكل الحياة؛ لأنها لم تُصمَّم لاحتمال كل هذا الضغط. ونجد أنَّ أكثر الإصابات التي يعاني منها الرياضيون (لا سيما مَن يمارسون الرياضات القاسية، مثل كرة القدم وكرة السلة، حيث يتحرَّك هؤلاء الرياضيون الضخام بسرعةٍ كبيرة، ويغيرون اتجاههم بشكل سريع) هي إصابات في هذه المفاصل، وبخاصة في مفصل الركبة السيئ التصميم. لقد أنهى العديد من الرياضيين مسيرتهم المهنية في وقتٍ مبكر؛ بسبب إصابات مفصل الركبة (لا سيما تمزُّق الأربطة في الركبتين)، أو تمزق وتر أخيل في الكاحل، أو بسبب مشكلات في القدم. الواقع أن البشر ليسوا مصمَّمين جيدًا على الإطلاق للمشي على قدمين أو الجري عليهما، كما يتضح من مشاكل أقدامنا على وجه الخصوص. وإذا كنت ترغب في رؤية فقاريات ذات تصميم جيد للسير على طرفين، فتأمَّل النعامةَ التي يمكنها الركض بشكل أسرع، ولا تعاني من مشاكل القدم أو المفاصل التي يعاني منها البشر.
تأتي معظم هذه الأنظمة السيئة التصميم نتيجة للنمو الجنيني وللمسارات النمائية، أو بسبب تراكب المشية الثنائية القدمين على جسدٍ ورث مشية رباعية. وما يثير الدهشة بالقدر نفسه أمثلة الأنظمة العضوية التي لم يعد لها أي وظيفة، وهي بالفعل أعضاء بدائية أو أنظمة أثرية. تتنوع هذه الأنظمة من مثال بسيط، كالقشعريرة، إلى أنظمة أكثر تعقيدًا. تَنتُج القشعريرة عن تقلُّص العضلات الموجودة حول جذور شعر الجسد لرفع الشعر ونفخه، إما لإنشاء طبقة عازلة عندما يكون الجو باردًا أو لإخافة الأعداء (كما يفعل العديدُ من الحيوانات عندما تنفش فراءها أو ريشها لتبدو أكبر إذا شعرت بالتهديد). غير أنَّ معظم البشر لا يمتلكون سوى القليل من شعر الجسد، وتُشكِّل العضلات المحيطة ببصيلات الشعر تأثيرًا ضئيلًا بدلًا من ذلك، وهي عديمة الفائدة تمامًا.
في عام ١٨٩٣، نشر عالم التشريح روبرت ويدرشايم كتاب «بنية الإنسان: فهرس لتاريخه السابق»، وأدرج فيه ما لا يقل عن ٨٦ عضوًا بشريًّا جميعها من الأعضاء الأثرية (زادت لاحقًا إلى ١٨٠ مثالًا). وكتب عالم الأحياء هوراشيو نيومان، في شهادته لصالح التطور خلال محاكمة سكوبس في عام ١٩٢٥ أنه «وفقًا لفيديرشايم، يوجد ما لا يقل عن ١٨٠ بنية أثرية في جسد الإنسان، تكفي لأن تجعل منه متحفًا فعليًّا مليئًا بالآثار يمشي على قدمين». ومنذ ذلك الحين، ثبت أن بعض هذه البنى لها وظيفة بسيطة على الأقل، لكن معظمها في الحقيقة أجزاء أثرية عديمة الفائدة لأنظمة كانت تعمل في السابق. كما يشير فيديرشايم، لا يلزم أن يكون العضو عديم الفائدة تمامًا لكي يُعَد من الأعضاء الأثرية، بل يكفي أن يكون «عديم الوظيفة كليًّا أو جزئيًّا». لقد تضاءل استخدام هذه الأعضاء بشكل كبير، إن لم يختفِ، أو يمكن القول، على حد تعبير فيديرشايم، إنَّ هذه الأعضاء «فقدت أهميتها الفسيولوجية الأصلية». يحاول منكرو التطور حفظ ماء الوجه، من خلال الإشارة إلى بعض الأعضاء الأثرية التي لا تزال تحتفظ بالقليل من الوظائف المتبقية، في محاولةٍ لتكذيب جميع هذه الأدلة. لكن هذا يجانب الصواب. فإذا اختُزِل نظام عضوي بشكل كبير (مقارنة بحالة الأسلاف) وأصبح يؤدي الحد الأدنى من الوظائف، فإنه لا يزال دليلًا على وجود نظام وظيفي سابق قد تعرض للاضمحلال؛ ومن ثَم فهو ليس مُصمَّمًا جيدًا.
أحد أشهر هذه الأنظمة هو الزائدة الدودية، وهي عضو زائد عن الحاجة يمد الثدييات العاشبة بإنزيمات للأمعاء للمساعدة في هضم السليلوز. لكن الزائدة لم تعد تعمل بهذه الطريقة عند البشر؛ لأننا لسنا في الأساس من الحيوانات العاشبة، وليست لدينا بكتيريا الأمعاء المتخصصة لهضم السليلوز بكفاءة. ظلت الزائدة الدودية توصَف لفترة طويلة بأنها عضو أثري كلاسيكي، وهي تشكل مصدر قلق للبشر بالتأكيد عندما تصاب بالعدوى. وإذا انفجرت الزائدة الدودية، يمكن أن تتسبَّب في وفاة حامل العدوى. لكنَّ ثمة أبحاثًا حديثةً تشير إلى أنَّ الزائدة قد تمد النبيت الجرثومي المعوي ببعض البكتيريا، لا سيما إذا كان قد نضب بسبب المضادات الحيوية. وبالرغم من ذلك، يجب الموازنة بين هذه الفائدة الصغيرة للزائدة الدودية والمخاطر الهائلة التي تهدد الحياة من الْتهابها أو انفجارها.
يمكن لهذه القائمة أن تستمر وتطول (انظر الكتب التي كتبها هيلد أو لينتس في قائمة القراءات الإضافية للاطلاع على العديد من الأمثلة الأخرى). إذا كنا قد خُلِقنا خلقًا خاصًّا مستقلًّا وصُمِّمنا بشكل مثالي، فلماذا لا يزال لدينا بقايا صغيرة من الغشاء الرامش في زاوية العين؟ يعمل هذا الغشاء على تغطية مقلة العين وحمايتها في العديد من الثدييات والفقاريات الأخرى، لكن الرئيسيات لا تمتلك منه سوى آثارٍ صغيرةٍ على هيئة ثنيةٍ غير وظيفيةٍ من الأنسجة، توجد في الزاوية الداخلية للعين. للعديد من الحيوانات عضو ميكعي أنفي في حنكها يعمل مصدرًا ثانويًّا لتمييز الرائحة. لكنه اندثر في البشر، أو لم يعد يتبقى منه سوى أثر صغير، واضمحلَّت الحزم العصبية التي تخدمه ولم تعد تعمل، وحتى الجينات التي تؤدي إلى نمو هذا العضو أصبحت جينات زائفة غير وظيفية. علاوة على ذلك، لا يزال أطفال البشر يتمتعون باستجابة انعكاسية قوية لقبض راحة اليد، وهي تفيد الصغار في التشبث بفراء أمهاتهم، لكن أمهات البشر ليس لديهن فراء؛ ومن ثَم لم تعد هذه الاستجابة تؤدي وظيفة مفيدة. يمكنك أيضًا أن تتأمل القائمة الطويلة للجينات غير الوظيفية والحمض النووي النفاية الذي يحمله جميع البشر (انظر الفصل الثامن عشر).
إليك مثالًا أخيرًا بسيطًا؛ إذا كان البشر قد خُلقوا خلقًا خاصًّا مستقلًّا وصُمِّموا جيدًا، فلمَ يمتلك الذكور حلمات غير وظيفية؟ إنه أمر منطقي من الناحية التطورية؛ لأن الحلمات والصفات الجنسية الثانوية الأخرى لا تُحدَّد على نحو صارم في الأجنة، ولا يبدأ الجنين في تطوير جميع الأعضاء الجنسية المتمايزة بين الذكور والإناث، إلا بعد تحفيز هذه الأعضاء بهرمون الإستروجين أو التستوستيرون. لكن جينات الحلمات موجودة دائمًا في الأجنة، حتى لو لم يطور الذكور غددًا ثديية كبيرة لإرضاع أطفالهم كما تفعل الإناث. وفي بعض البشر، يضل المسار النمائي طريقه أبعد من ذلك، ويصنع حلمات إضافية غير وظيفية لدى الذكور، وقد يصل عدد هذه الحلمات الإضافية إلى سبعة! إنَّ هذا كله يضيف إلى قائمة ضخمة من الأدلة على أن البشر ليسوا مصمَّمين بشكل جيد؛ فلسنا سوى كومةٍ من الأعضاء شبه الوظيفية وغير الوظيفية التي تقف كشاهد صامت على ماضينا التطوري.
قراءات إضافية
-
Dao, Anh H. and Martin G. Netsky, “Human Tails and Pseudotails,” Human Pathology 15, no. 5 (1984): 449–453.
-
Fallon, John F. and B. Kay Simandl, “Evidence of a Role for Cell Death in the Disappearance of the Embryonic Human Tail,” American Journal of Anatomy 152, no. 1 (1978): 111–129.
-
Held, Lewis I., Jr., Quirks of Human Anatomy: An Evo-Devo Look at the Human Body, Cambridge: Cambridge University Press, 2009.
-
Lents, Nathan H., Human Errors: A Panorama of Our Glitches, from Pointless Bones to Broken Genes, New York: Houghton Mifflin Harcourt, 2018.
-
Mukhopadhyay, Biswanath, Ram M. Shukla, Madhumita Mukhopadhyay, Kartik C. Mandal, Pankaj Haldar, and Abhijit Benare, “Spectrum of Human Tails: A Report of Six Cases,” Journal of Indian Association of Pediatric Surgeons 17, no. 1 (2012): 23–25.
-
Pereira, Tiago V., Francisco M. Salzano, Adrianna Mostowska, Wieslaw H. Trzeciak, Andrés Ruiz-Linares, José A. B. Chies, Carmen Saavedra, Cleusa Nagamachi, Ana M. Hurtado, Kim Hill, Dinorah Castro-De-Guerra, Wilson A. Silva-Júnior, and Maria-Cátira Bortolini, “Natural Selection and Molecular Evolution in Primate PAX9 Gene, a Major Determinant of Tooth Development,” Proceedings of the National Academy of Sciences 103, no. 15 (2006): 5676–5681.
-
Saraga-Babić, Mirna, Eero Lehtonen, Anton Švajger, and Jorma Wartiovaara, “Morphological and Immunohistochemical Characteristics of Axial Structures in the Transitory Human Tail,” Annals of Anatomy: Anatomischer Anzeiger 176, no. 3 (1994): 277–286.
-
Shubin, Neil, Your Inner Fish: A Journey Into the 3.5 Billion-Year History of the Human Body, New York: Vintage Books, 2009.
-
Spiegelmann, Roberto, Edgardo Schinder, Mordejai Mintz, and Alexander Blakstein, “The Human Tail: A Benign Stigma,” Journal of Neurosurgery 63, no. 3 (1985): 461-462.
-
Spinney, Laura, “Remnants of Evolution,” New Scientist 198, no. 2656 (2008): 42–45.
-
Wiedersheim, Robert, The Structure of Man: An Index to His Past History, London: Macmillan, 1893.