الفصل الرابع والعشرون
عظام أسلافنا
السجل الأحفوري للبشر
نحن جميعًا عائلة واحدة، مفكَّكة
أينما تجولنا نحن الرحالة
جوَّالي الوادي المتصدع؛ نتَّجه نحو موطننا
جينومًا بجينوم
ألقِ نظرة على جيناتك يا رفيقي
وسترى
جميعنا لدينا شهادة ميلاد من كينيا
روي زيمرمان، «جوَّالو الوادي
المتصدع»
نحن البشر لدينا فضول لمعرفة أصلنا وموضعنا في الطبيعة. من
نحن؟ من أين أتينا؟ ما معنى أن نكون من البشر؟ وقد شكَّل
العديدُ من الثقافات أساطير عن الخلق تُفسِّر موضع البشر من
الطبيعة ومن الآلهة. لكننا — وقد صرنا أشخاصًا متعلمين في
القرن الحادي والعشرين — مهتمون بالأدلة العلمية بشأن كيفية
تطورنا وأصلنا.
ازدادت الأدلة على أصل الإنسان بشكل هائل في الخمسين عامًا
الماضية، وأصبحت القصة الآن معروفة جيدًا (الشكل
٢٤-١). ولكنها لم تكن دائمًا كذلك. في وقت
ما، لم نكن نعرف سوى القليل عن السجل الأحفوري للبشر، ولم
تظهر الأدلة من علم الأحياء الجزيئي إلا في الأربعين عامًا
الماضية. لكن المشكلة الأكبر هي أن ما يعتقد معظم الناس أنهم
«يعرفونه» عن التطور البشري هو ببساطة غير صحيح، ويستند إلى
مفاهيم عتيقة أو مشوهة أو خاطئة. وهذه «الخرافات» تَحُول دون
أي فهم جاد أو أي نقاش عن هذا الموضوع. وعلى أية حال، فإنَّ
تصور الناس لأفكار قديمة أو خاطئة لا يعني بطلان هذا الكم
الهائل من الأدلة على التطور.
إنَّ التطور، كما ذكرنا في الفصل السابع، شُجيرة وليس
سُلمًا. كانت الفكرة القديمة ﻟ «سُلم الحياة» تضع «الأشكال
الدنيا» من الحياة، مثل الإسفنج والشعاب المرجانية في الأسفل،
ثم الرخويات، فالأسماك، فالبرمائيات، فالزواحف، فالطيور،
فالثدييات، ووضعتْنا نحن البشر في قمة السلم. يعود تاريخ هذه
الفكرة الخاطئة إلى أيام أرسطو منذ أكثر من ٢٥٠٠ عام، لكن
بطلانها قد ثبت في عام ١٨٥٩ عندما أوضح داروين أن الطبيعة
تنتج تاريخًا كثيفًا متفرعًا، أي شجرة عائلة. تشعبت الكائنات
الحية من شجرة الحياة في أزمنة مختلفة في الماضي الجيولوجي،
تمكَّن بعضها، مثل الشعاب المرجانية البسيطة أو الإسفنج، من
البقاء على قيد الحياة، بينما طور البعض الآخر طرقًا أكثر
تعقيدًا للعيش. وصحيح أن الشُّعب المرجانية والإسفنج كائنات
بسيطة مقارنةً بغيرها، لكنها ليست «أدنى»، وهي ليست إخفاقات
تطورية لم تتقدم في السلم. فهي لا تحاول التطور إلى كائن
«أعلى» كالديدان أو الرخويات. وهي بارعة فيما تفعله (وهي
تفعله منذ أكثر من ٥٠٠ مليون سنة)، ثم إنها تنتفع من مواضعها
الخاصة في الطبيعة، وما من سبب يدفعها إلى التغير إلى شيء
مختلف.
كان العلماء قبل زمن داروين يطلقون على سلم الحياة
«سلسلة الوجود العظمى»، واقترحوا الفكرة السخيفة البالية
المتمثلة في وجود «حلقة مفقودة» في هذه السلسلة. إن مفهوم
الحلقة المفقودة بأكمله لا معنى له من الناحية البيولوجية،
وليس هناك أي عالم يستخدم هذا المصطلح. إنما يستخدمه مَن لا
يفهمون كيفية عمل التطور. إن مفهوم الحلقات المفقودة في
التطور البشري قديم وعديم الفائدة. وقد صار لدينا الآن الآلاف
من الحفريات البشرية، التي تقدم لنا سجلًّا شبه مكتمل، وليس به
سوى فجواتٍ صغيرةٍ فحسب، وهو ما يكفي وزيادة لإثبات أن البشر قد
تطوروا.
وعلى الرغم من ذلك، لا تزال هذه النظرة العتيقة للحياة،
والمرفوضة منذ زمن طويل، متمثلةً في وجود سلم للخلق أو سلسلة
الوجود العظمى، مصدرًا للكثير من المفاهيم المغلوطة عن علم
الأحياء والتطور. لا يزال من الشائع مثلًا أن يتردد هذا
السؤال: «إذا كان البشر قد تطوروا من القردة، فلماذا لا تزال
القردة موجودة؟» يحار العلماء عندما يسمعون هذا السؤال للمرة
الأولى؛ لأنه سؤال غير منطقي على الإطلاق، ثم يدركون أن هذا
الشخص يؤمن بمفاهيم قد تخلى عنها العلماء منذ أكثر من ١٦٠
عامًا. فنحن نعلم الآن أن الطبيعة تنتج مجموعة من العلاقات
التي تتفرع فيها السلالات وتتنوَّع، مما يشكِّل نمطًا أشبه
بالشُّجيرة، حيث تحيا سلالات الأجداد أحيانًا بجانب أحفادها
(انظر الشكل
٧-١). وقد كان للإنسان
والقردة سلف مشترك منذ حوالي سبعة ملايين سنة (بناءً على أدلة
من الحفريات وعلم الأحياء الجزيئي)، وكلتا السلالتين مستمرة
منذ ذلك الحين. إن قول «إذا كان البشر قد تطوروا من القردة،
فلماذا لا تزال القردة موجودة؟» مماثل للقول: «إذا كنت من نسل
والدك، فلماذا لم يمت والدك عندما ولدت؟ لماذا لم يمت جدك
عندما وُلد والدك؟» نحن نفهم جميعًا أن الأطفال يتفرعون من
والدَيهم، ويتداخلون معهم في الزمن، لكن والدَينا لا يموتان
تلقائيًّا عندما نولَد. وبالمثل، تشعبت شجرة العائلة البشرية
من سلفنا المشترك مع بقية القردة الحية منذ حوالي سبعة ملايين
سنة، لكن كلا الفرعين لا يزالان موجودين.
وعلى هذا المنوال نفسه، نجد أنَّ النزعة إلى وضع الأشياء في
ترتيب خطي بسيط من المجازات الشائعة للتطور، وهو أحد أكبر
تحريفات النظرية. فالصورة الأيقونية الكلاسيكية للتطور هي
«مسيرة التقدم من سعدان إلى قرد إلى إنسان»، والتي تمثل سلسلة
من الكائنات التي تصعد سلم التطور (انظر الشكل
١٢-٢). إن هذه الصورة الأيقونية للتطور
مألوفة للغاية، وهي محطُّ السخرية دومًا في الرسوم
الكاريكاتورية السياسية وفي الإعلانات. ذلك أنَّ معظم الناس
يعتقدون أنها تعبر عن التمثيل الدقيق للتطور البشري، لكن ذلك
غير صحيح. فالتطور ينتج شجرة حياة كثيفة متفرعة، وليس سلمًا
بسيطًا مستقيمًا!
في الأيام الأولى لعلم الأنثروبولوجيا، كان العلماء مقتنعين
بأن أهم ما يجعلنا بشرًا هو دماغنا الكبير على نحو استثنائي،
والذي يمكِّننا من القيام بمهام معقدة، وتشكيل المجتمعات،
واستخدام اللغة. ولأنهم كانوا يعتقدون أن هذا ما يجعل البشر
مميزين؛ افترض علماء الأنثروبولوجيا أن دماغنا الأكبر ظهر قبل
أيٍّ من صفاتنا الأخرى، بما في ذلك الوضعية الثنائية القدم،
وقدرتنا على المشي والجري، على عكس معظم الثدييات (بما في ذلك
الشمبانزي والغوريلا)، التي كانت تمشي على جميع أطرافها
الأربعة. وقد ترسَّخ هذا المبدأ بعمق، حتى إنَّ علماء
الأنثروبولوجيا كانوا يرفضون الحفريات التي توضح أن البشر
كانوا يسيرون على قدمين منذ وقت مبكر جدًّا، قبل امتلاكهم
لأدمغة كبيرة بزمن طويل.
إن أول حفرية بشرية قديمة حقًّا عُثِر عليها، هي جمجمة «طفل
تونج» الشهيرة للقرد الجنوبي الأفريقي، التي اكتشفها رايموند
دارت في جنوب أفريقيا عام ١٩٢٤ (الشكل
٢٤-٢). كان ثقب العمود الفقري (الثقبة العظمى) يقع أسفل مركز
الجمجمة مباشرة، وهو دليل واضح على أنه كان يسير منتصبًا على
قدمين. على الرغم من ذلك، كان لديه دماغ صغير. رفض العلماء
الأوروبيون هذه الحفرية كأحد أقرباء البشر لعقود من الزمن؛
لأنهم شعروا أن حجم الدماغ يجب أن يزداد قبل أن يسير الإنسان
على قدمَين، أو تتطور لديه أي صفات متقدمة أخرى. كان هناك أيضًا
تحيزٌ عنصريٌّ بين العلماء الأوروبيين لفكرة أن البشر الأوائل
نشئوا في أوراسيا، وليس في قارة أفريقيا الداكنة، حيث الناس
لديهم بشرة سوداء. في المقابل، اعتقد داروين أن البشر نشئوا
في أفريقيا لسبب بسيط، وهو أن أقرب أقربائنا، الشمبانزي
والغوريلا، يعيشون هناك.
خُدِع العلماء أيضًا بحفرية «إنسان بلتداون»، وهي حفرية
مزيَّفة أُعلنَ عنها لأول مرة في عام ١٩١٢. جُمِّعت هذه
الحفرية معًا من جمجمة إنسان حديث وفك أورانجوتان كُسِر
بمهارة في الأماكن الصحيحة، وصُبِغ ليبدو قديمًا. كان
المزوِّر (عالم الآثار الهاوي تشارلز داوسون، وربما بعض
المتواطئين معه) يعرف بالضبط ما كان علماء الأنثروبولوجيا
البريطانيون يتوقعونه، فاستخدم جمجمة بشرية من العصور الوسطى
لها دماغ كبير وفك أورانجوتان حديث؛ ليجعل الأمر يبدو مقبولًا
لعلماء الأنثروبولوجيا آنذاك. كانت هذه الحفرية مصدر فخر
للمؤسسة الأنثروبولوجية البريطانية لسنوات، وغالبًا ما كان
يوصَف بفخر بأنه «أول بريطاني». كُشِف زيف حفرية إنسان
بلتداون في عام ١٩٥٣، مع ظهور المزيد والمزيد من الاكتشافات من
أفريقيا، والتي اتضح منها أن البشر قد تطوروا هناك في
البداية؛ ومن ثَم لم تعُد «حفرية» بلتداون منطقية. وعندما
حلَّل العلماء الحفرية بعناية، وجدوا أدلةً على
التزوير.
منذ خمسينيات القرن الماضي، اكتُشِف معظم الحفريات الأقدم
لأقرباء البشر في أفريقيا، وكانوا جميعًا يسيرون على قدمَين،
ويرجع تاريخ أقدم هذه الحفريات من ستة إلى سبعة ملايين سنة.
لقد كان المشي على قدمَين من أول السمات البشرية التي تطورت
لدى أسلافنا. أما سعة دماغنا الكبير، فلم تظهر إلا منذ فترة
تتراوح بين ١٠٠ ألف و٣٠٠ ألف سنة على أقرب تقدير؛ لذا كانت
الأدمغة الكبيرة سمةً متأخرةً جدًّا في تطوُّر الإنسان.
ربما يعود السبب جزئيًّا في أنَّ علماء الأنثروبولوجيا ظلوا
مقتنعين لعقودٍ بأن نوعًا واحدًا فقط من البشر كان يعيش على
الكوكب؛ إلى الفكرة الخاطئة السابقة عن «مسيرة التقدم» الخطية
عبر الزمن. لقد نظروا إلى انتشار الإنسان العاقل في وقتنا
الحالي في جميع أنحاء العالم كنوع واحد، ولم يتخيلوا أن
أسلافنا استطاعوا تحمل نوع آخر من البشر في نفس المكان
والزمان. إذن فخرافة «مسيرة التقدم» الخطية تدعم فكرة أن
نوعًا واحدًا فقط من البشر كان موجودًا في أي لحظة زمنية. وقد
بذل علماء الحفريات البشرية جهدًا استثنائيًّا لجمع كل
الحفريات التي كانوا يجدونها في نوع واحد، ولكن بحلول
الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، بدا من الواضح أن
العديد من الحفريات المحفوظة جيدًا من الصخور في جنوب وشرق
أفريقيا ينتمي إلى أنواعٍ مختلفة، فلم تعُد هذه الفكرة
متماسكة.
ومن أمثلة جهودهم غير الموفَّقة أن هؤلاء العلماء قد أشاروا
إلى الاختلافات المذهلة بين جماجم الغوريلا من ذكورٍ وإناث،
وذهبوا إلى أن حفريات القرد الجنوبي النحيل والقرد الجنوبي
المتين، هي حفريات لذكور وإناث من نفس النوع. في نهاية
المطاف، وبعد العثور على أنواع مختلفة من الجماجم والفكوك
(وليس اثنَين فحسب، كما هو متوقع في حالة الذكور والإناث) في
الطبقات نفسها، وجميعها من نفس العمر ومن نفس المكان، صار
التمسك بهذه الفكرة أكثر من ذلك مستحيلًا. إضافة إلى ذلك، بدأ
علماء الحفريات البشرية يدركون أن التطور عملية متفرعة،
كثيفة، وأن التسلسل الخطي المُبسَّط للحفريات لا يُمثِّل
تعقيد القصة الحقيقية. لقد عثر العلماء في السجل الأحفوري على
عشرات الأنواع من أقرباء البشر (البشرانيات، أحد أفراد
فصيلتنا الفرعية البشرانوية)، وأحيانًا كانوا يكتشفون ما يصل
إلى أربعة من هذه الأنواع أو خمسة تعيش في نفس المكان. لقد
أصبحت البيانات الأحفورية الآن ثريةً للغاية بما لا يدع مجالًا
لإنكارها.
إنَّ السجل الأحفوري للبشر لم يعُد بالفقر الذي كان عليه قبل
٤٠ عامًا، وإن كان معظم الناس لا يدركون ذلك. لقد أدى العمل
الشاق الذي قام به مئات العلماء في هذا المجال إلى اكتشاف
الآلاف من حفريات البشرانيات (انظر الشكل
٢٤-١)، بما في ذلك عدد قليل من الهياكل
العظمية الكاملة إلى حدٍّ كبير، والعديد من الجماجم المحفوظة
جيدًا، والتي تُظهِر لنا بوضوحٍ كيفية تطور البشر على مدى سبعة
ملايين سنة. لقد حدث هذا الفيض من الاكتشافات الجديدة عامًا
بعد عام، على الرغم من أن حفريات البشرانيات رقيقة ونادرة،
وتوجد واحدة أو اثنتان منها فقط مقابل مائة أو أكثر من حفريات
الخنازير أو الخيول الموجودة في نفس الآدام في شرق أفريقيا.
إنَّ العديد من المتاحف في أفريقيا وأوروبا وآسيا يضمُّ الآن
مجموعاتٍ كبيرةً من حفريات أسلافنا الأوائل متوفرة للعلماء
ليدرسوها.
إن القصة الكاملة للتطور البشري طويلة للغاية، وتتكون من
العديد من التفاصيل بحيث لا يمكن مناقشتها في فصل واحد؛ ولهذا
سأكتفي بتوضيح النقاط البارزة. تتمثل النسخة المقتضبة فيما
يلي: نعرف الآن بوجود العشرات من الأنواع والأجناس البشرية،
وهي تُشكِّل شجرة عائلة كثيفة للغاية تمتد لما يقرب من سبعة
ملايين سنة من التطور البشري، حدث معظمه في أفريقيا (الشكل
٢٤-٣). ولا تزال التفاصيل الدقيقة
لكيفية تسمية كل هذه الحفريات، وصِلتها بعضها ببعض دائمًا
عرضة للتنقيح والمناقشة؛ لأن العديد من العينات غير مكتمل،
وبسبب العثور على اكتشافات جديدة بوتيرة مذهلة.
أقدم حفرية يمكن أن توصف حقًّا على أنها عضو في فصيلتنا
الفرعية، اكتُشِفت ووُصِفت منذ حوالَي ١٥ عامًا. أطلق عليها
مكتشفوها اسم «توماي»، واسمها العلمي الرسمي هو إنسان الساحل
التشادي. أفضل عينة منها هي جمجمة شبه مكتملة (الشكل
٢٤-٤(أ)) من صخور يعود عمرها لفترة تتراوح
بين ستة وسبعة ملايين سنة، وتقع بمنطقة ساحل جنوب الصحراء
في تشاد (ومن هنا جاء الاسم العلمي
Sahelanthropus
tchadensis، الذي يُترجَم إلى «إنسان
الساحل التشادي»). تتشابه هذه الجمجمة للغاية مع جمجمة
الشمبانزي، بحجمها الصغير ودماغها الصغير والأقواس الحاجبية
الكبيرة، لكنها تتميز بملامح إنسانية واضحة؛ وجه مسطح، وأنياب
مُصغَّرة، وأسنان خدية متضخمة، مع تآكل شديد في التاج، ووضعية
منتصبة، وكل هذا في بداية التطور البشري. الأحدث منها بقليل
هي حفرية أورورين توجنسيس، المكتشَفة بتكوين لوكينو من
الميوسين العلوي في تلال توجن في كينيا، ويرجع تاريخها إلى ما
بين ٥٫٧٢ و٥٫٨٨ ملايين سنة. يُعرَف أورورين بشكل أساسي من
بقايا متشظية، لكن الأسنان تتسم بالمينا السميك المميز
للبشرانيات الأولى، وتُظهِر عظام الفخذ بوضوح أنه كان يسير في
وضع مستقيم. والأحدث منها بقليل هي بقايا قرد الأرض كادابا،
التي عُثِر عليها في الصخور الإثيوبية، ويعود تاريخها إلى ما
بين ٥٫٢ و٥٫٨ ملايين سنة، وتتألف من عدد من الحفريات
المتشظية. تُظهِر عظام القدم أن البشرانيات اعتمدت على «إصبع
القدم» في المشي المنتصب منذ ٥٫٢ ملايين سنة. وبناءً على هذا،
فإن سلالتنا البشرية كانت قد ترسَّخت جيدًا في العصر
الميوسيني الأحدث، وانتصبت وضعية جسدها، على الرغم من أن
أدمغتنا كانت لا تزال صغيرة، وحجم أجسادنا كان لا يختلف
كثيرًا عن حجم أجساد القردة المعاصرة.
شهد العصر البليوسيني تنوعًا أكبر في البشرانيات (انظر
الشكل
٢٤-٣)؛ إذ تداخَل عدد من الأنواع
القديمة، وتشعبت البشرانيات الأكثر تقدمًا. ومن الآثار
القديمة للعصر الميوسيني قرد الأرض راميدوس، الذي اكتُشِف في
إثيوبيا في عام ١٩٩٢ في صخور يبلغ عمرها ٤٫٤ ملايين سنة،
والذي كانت لديه أنياب مُصغَّرة شبيهة بأنياب الإنسان، وفك
سفلي على شكل حرف
U (بدلًا من
الفك السفلي للقردة الذي يتخذ شكل الحرف
V). يُعرَف قرد الأرض
راميدوس الآن من هيكل شبه كامل (الشكل
٢٤-٤(ب))، مما يجعله أقدم هيكل عظمي معروف للبشرانيات. وتقدِّم
صخور كينيا التي يُقدَّر عمرها بحوالي ٣٫٥ ملايين سنة أشكالًا
أخرى أكثر بدائية، ومنها إنسان كينيا.
وقبل ٤٫٢ ملايين سنة، يمكننا أيضًا العثور على أول أفراد
جنس القردة الجنوبية المتقدم، وهو الجنس الأكثر تنوعًا في
فصيلتنا خلال العصر البليوسيني. أقدم هذه الحفريات هو القرد
الجنوبي الأنامي المكتشَف في الصخور الموجودة بالقرب من بحيرة
توركانا في كينيا، ويتراوح عمره بين ٣٫٩ إلى ٤٫٢ ملايين سنة.
كان القرد الجنوبي يسير على قدمين بالكامل، ولا يتضح هذا من
خلال عظامه فحسب، بل من خلال مسارات البشرانيات أيضًا بالقرب
من ليتولي، تنزانيا. في عام ٢٠١٩، أعلن العلماء عن اكتشاف
جمجمة كاملة لهذا النوع لأول مرة، فأصبحنا نفهم تشريحه
وعلاقاته بشكل أفضل. أشهر هذه القردة الجنوبية المبكرة هو
القرد الجنوبي العفاري (من صخور عمرها ٢٫٩٥ إلى ٣٫٨٥ ملايين
سنة بالقرب من هادار في إثيوبيا)، والمعروف باسم «لوسي» كما
أسماه مكتشفه دون جوهانسون. ففي أثناء احتفال فريق جوهانسون
على نيران المخيم في الليلة التي أعقبت الاكتشاف، غنَّوا مع
شريط تسجيلي لأغنية البيتلز «لوسي في السماء مع الماس». ثم
اقترحت عضو الفريق، بام ألدرمان، تسمية الحفرية لوسي (الشكل
٢٤-٤(ﺟ)؛ الشكل
٢٤-٤(د)). كان اكتشاف القرد الجنوبي في عام
١٩٧٤، أول اكتشاف من حفريات البشرانيات تتضح فيه الوضعية
الثنائية القدمين (بناءً على مفصل الركبة وعظام الحوض)، لكنه
لم يكن منتصبًا كالبشرانيات اللاحقة. كانت لا تزال كائنات
صغيرة (يبلغ طولها حوالي متر واحد [ثلاث أقدام]) ولها أدمغة
صغيرة، وتشبه القردة بأنيابها الكبيرة وفكها البارز
الضخم.
بحلول أواخر العصر البليوسيني، زاد تنوع البشرانيات في
أفريقيا بدرجة كبيرة (انظر الشكل
٢٤-٣).
لم يقتصر ذلك على الأشكال البدائية مثل القرد الجنوبي جارهي
(الذي كان يوجد قبل ٢٫٥ مليون سنة)، والقرد الجنوبي بحر
الغزالي (كان يوجد قبل ٣٫٥ ملايين سنة) وحسب، بل تضمن أيضًا
أحد أشهر القردة الجنوبية؛ القرد الجنوبي الأفريقي (انظر
الشكل
٢٤-٢). وُصِف القرد الجنوبي
الأفريقي في الأصل على يد رايموند دارت في عام ١٩٢٤، لكن
المجتمع الأنثروبولوجي الذي يتسم بالمركزية الأوروبية ظل على
مدار عقود من الزمن يرفض أنه سلف للبشر. بالرغم من ذلك، فمع
اكتشاف عالم الحفريات روبرت بروم وغيره من العلماء لعينات
أفضل في المزيد من الكهوف في جنوب أفريقيا (بالأخص الجمجمة
البالغة الملقبة «السيدة بليس»)، أصبح من الواضح أن القرد
الجنوبي الأفريقي كان من البشرانيات الأفريقية السائرة على
قدمين التي لها أدمغة صغيرة، ولم يكن قردًا. كان القرد
الجنوبي الأفريقي نحيلًا وصغيرًا إلى حد ما، وله فك رقيق،
وأسنان خدية صغيرة، ولا يمتلك عرفًا سهميًّا، ويبلغ حجم دماغه
٤٥٠سم مكعبًا فقط. بناءً على سماته النحيلة والشبيهة بالإنسان،
غالبًا ما يُعتبر القرد الجنوبي الأفريقي أفضل مُرشَّح لأن
يكون هو سلف جنسنا البشراني، أو جنس هومو.
إضافة إلى القرد الجنوبي الأفريقي، قدَّم لنا العصر
البليوسيني المتأخر في أفريقيا عددًا من البشرانيات الشديدة
القوة. وعلى مدار فترة طويلة، جُمِعتْ كلها معًا ضمن مفهوم
شامل جدًّا لجنس القردة الجنوبية، إما كأنواع متمايزة أو حتى
بصفتها الذكور القوية من القردة الجنوبية الأفريقية. لكن في
السنوات الأخيرة، اعتبر علماء الأنثروبولوجيا أنَّ القردة
الجنوبية الأفريقية سلالةٌ منفصلة، وُضعت الآن في جنس
الأناسي النظير. أقدمها حفرية «الجمجمة السوداء» (ترجع
التسمية إلى اللون الأسود للعظام)، التي اكتُشفت عام ١٩٧٥ على
شواطئ بحيرة ويست ليك توركانا في كينيا من صخور يبلغ عمرها
حوالي ٢٫٥ مليون سنة (الشكل
٢٤-٤(ﻫ))،
ووصفها صديقي الراحل آلان ووكر. على الرغم من صغر حجم الدماغ،
فإن الجمجمة قوية، وبها حافة عظمية كبيرة توجد في الجزء
العلوي بمنتصف الجمجمة (تُسمَّى العرف السهمي)، وأضراس ضخمة،
ووجه مقعَّر على شكل طبق. حاليًّا، يعتبر العلماء الجمجمة
السوداء أول عضو في جنس الأناسي النظير، نوع إنسان إثيوبيا.
يتْبعه أقوى أنواع البشرانيات، إنسان بويزي النظير، من صخور
شرق أفريقيا التي تتراوح أعمارها بين ٢٫٣ و١٫٢ مليون سنة
(الشكل
٢٤-٤(ﻫ)). أُطلقَ على العينة
الأولى التي عُثِر عليها من هذا النوع «إنسان كسَّارة
البندق»؛ بسبب أضراسه الضخمة ذات المينا السميك، والفكين
المتينين، وعظام الوجنتين العريضة، والعرف السهمي القوي على
قمة رأسه، مما دلَّ على أنه كان يعتمد في غذائه على الجوز أو
البذور أو حتى تكسير العظام. كانت ماري ليكي هي التي اكتشفته
في أولدوفاي جورج في عام ١٩٥٩، وقد أطلق عليه لويس ليكي اسم
«زينجانثروبوس بويزي»، وهو الذي أكسب ليكي سمعته. أسفرت صخور
جنوب أفريقيا، التي يتراوح عمرها بين ١٫٦ و١٫٩ مليون سنة، عن
النوع النموذجي لجنس الأناسي النظير، إنسان روبوستوس النظير
(شكل
٢٤-٤(ﻫ)). كان هذا النوع أيضًا
يمتلك فكين ضخمين وأضراسًا كبيرة وعرفًا سهميًّا كبيرًا، لكنه
لم يكن في مثل قوة إنسان بويزي النظير. عاش إنسان روبوستوس
النظير بجانب القرد الجنوبي الأفريقي في الكهوف نفسها بجنوب
أفريقيا. وهو لم يكن أقوى من القرد الجنوبي الأفريقي فحسب، بل
أكبر منه أيضًا؛ إذ وصل وزن بعض أفراده إلى ١٢٠ رطلًا.
وأخيرًا، يقدم لنا العصر البليستوسيني المبكر الحفريات
الأولى لجنسنا البشري، والتي يمكن تمييزها بسهولة عن القردة
الجنوبية والأناسي النظير المعاصرة من خلال دماغها الأكبر،
والوجه المسطح، وعدم وجود عرف سهمي، وصغر حجم الأقواس
الحاجبية والأسنان الخدية، والأنياب. أول ما وُصِف من هذه
الحفريات هو الإنسان الماهر (باللاتينية هومو هابيليس، الذي
يعني حرفيًّا «إنسان بارع في الحِرَف»)، وقد اكتشفه لويس
وماري ليكي في الستينيات من القرن الماضي في أولدوفاي جورج في
تنزانيا، من طبقات يبلغ عمرها حوالي ١٫٧٥ مليون سنة (الشكل
٢٤-٥(أ)).
كانت جميع العينات المبكرة لحفريات جنس «الإنسان» تُصنَّف
ضمن نوع «الإنسان الماهر» في البداية، لكن علماء الحفريات
البشرية أصبحوا يدركون الآن أن هذه العينات غايةٌ في التنوع؛
فلا يمكن أن تنتمي إلى نوعٍ واحد، وقد صار العديد منها
مميَّزًا في نوعٍ مستقل. من هذه العينات، الجمجمة ذات المظهر
الأكثر تقدمًا (شكل
٢٤-٥(أ)) المعروفة
الآن باسم إنسان بحيرة رودولف (يُقدَّر عمره بحوالَي ١٫٩ مليون
سنة)، والتي تسببت في شهرة ريتشارد ليكي، والإنسان العامل
المتقدم جدًّا، وإن كان قصير العمر (الشكل
٢٤-٥(ب))، وهو من طبقات عمرها من ١٫٦ إلى
١٫٨ مليون سنة. إنَّ هذه الأنواع لم تُعرَف من العظام فحسب،
بل من أدواتها الحجرية البدائية أيضًا، لا سيما القواطع
والفئوس اليدوية التي تميز التكنولوجيا الأولدوانية.
استمر العديد من أصنوفات العصر البليوسيني القديم حتى
العصر الجليدي المبكر (منذ ١٫٦ مليون سنة)، بما في ذلك إنسان
روبوستوس النظير، وإنسان بويزي النظير، والإنسان العامل،
والإنسان الماهر. أشهر حفرية للإنسان العامل هي هيكل عظمي شبه
مكتمل لطفل تُوفي عندما كان عمره ثماني أو تسع سنوات، عثر
عليه آلان ووكر وطاقمه على شواطئ بحيرة ويست ليك توركانا في
عام ١٩٨٤. لُقِّبت الحفرية ﺑ «صبي ناريوكوتوم» (الشكل
٢٤-٥(ب))، ويُقدَّر أنَّ طوله كان يمكن أن
يصل إلى مترين (ست أقدام وخمس بوصات) إذا كان قد أكمل
نموه.
قبل ١٫٩ مليون سنة، ظهر نوع جديد؛ «الإنسان المنتصب» (شكل
٢٤-٦). لم يكن هذا الإنسان يسير على
قدمين ويقف منتصبًا وحسب (كما يدل اسم نوعه)، بل كان جسده
كبيرًا أيضًا، في حجم جسدنا تقريبًا. وبلغت سعة دماغه لترًا
واحدًا تقريبًا (ألف سم مكعب)، أي أقل بقليل من دماغنا. صنع
الإنسان المنتصب قواطع بسيطة وفئوسًا يدوية (أدوات «الثقافة
الأشولية»)، وكان هو أول مَن صنع النار واستخدمها. كان وجود
الإنسان المنتصب مقتصرًا في البداية على أفريقيا، حيث عاش
جميع أسلافنا الآخرين لفترة طويلة. ولكننا نمتلك أدلة على أن
الإنسان المنتصب هاجر خارج وطننا الأفريقي منذ حوالي ١٫٨
مليون سنة؛ إذ وجد العلماء عينات في إندونيسيا (وُصِفت في
الأصل باسم «الإنسان القرد المستقيم» أو «رَجل جاوة»)،
وأرجعوا تاريخها إلى ذلك العصر. إضافةً إلى ذلك، توجد عينات
من العصر نفسه تقريبًا، قد اكتُشفتْ في أماكن أخرى في
أوراسيا، مثل رومانيا وجمهورية جورجيا. ولدينا حفريات وفيرة
تعود للإنسان المنتصب، يعود تاريخها إلى ما قبل ٥٠٠ ألف عام
تقريبًا، وُجدتْ في أجزاء كثيرة من أوراسيا، بما في ذلك
العينات الشهيرة من الكهوف الصينية في تشوكوديان، والتي كانت
تُسمَّى في الأصل «رجل بكين»، ويرجع تاريخها إلى ٤٦٠ ألف عام.
يُرجِّح التأريخ الأخير إلى أن الإنسان المنتصب ربما ظل
موجودًا إلى ما قبل ٧٤ ألف عام تقريبًا، وأن وجوده قد تداخل
مع وجود «الإنسان العاقل» الحديث. لم يكن الإنسان المنتصب أول
أنواع البشرانيات التي انتشرت على نطاق واسع وحسب، بل كان
أيضًا أحد أكثر الأنواع نجاحًا وأطولها عمرًا، حيث استمر
لأكثر من ١٫٨ مليون سنة، امتدَّت في الفترة ما بين ١٫٩ مليون
سنة مضت و٠.٠٧٣ مليون سنة مضت. خلال معظم تلك الفترة الطويلة،
كان هو النوع الوحيد من جنس الإنسان على هذا الكوكب، ولم
يتغيَّر كثيرًا فيما يتعلق بحجم الدماغ أو نِسَب الجسد. إذا كان
طول العمر مقياسًا للنجاح، يمكن القول إن الإنسان المنتصب
كان أكثر نجاحًا منا.
قبل حوالي ٤٠٠ ألف عام، تأكَّد العلماء من وجود نوع آخر في
أوروبا الغربية والشرق الأدنى؛ إنسان نياندرتال (انظر الشكل
٢٤-٣؛ الشكل
٢٤-٦). كانت هذه أول حفريات بشرية تُكتشَف على الإطلاق في عام
١٨٥٧، على الرغم من أن حفريات إنسان نياندرتال المتشظية
أُغفِلت في البداية باعتبارها لمرضى من شعب القوزاق ماتوا في
الكهوف. استندت الأوصاف الكاملة الأولى للهياكل العظمية إلى
عينة مبكرة من كهف في بلدية «لا شابيل أو سان» في فرنسا،
لأفراد كانوا يعانون من الشيخوخة والكساح؛ لذا ظل الاعتقاد
السائد لعقود من الزمن أن إنسان نياندرتال بدائي مُنحني
الأكتاف، مُقوَّس الأرجل، وكل الصور النمطية وصفتهم بأنهم
ليسوا سوى بشر عاشوا في الكهوف، ولم يكونوا يمتلكون أي قدراتٍ
عقلية عليا.
لكن الأبحاث الحديثة أظهرت أن إنسان نياندرتال كان مختلفًا
كل الاختلاف عن هذه الصورة النمطية العتيقة. على الرغم من أن
جماجمهم تختلف عن جماجمنا؛ من حيث بروز الوجه، وكبر حجم
الأقواس الحاجبية، وغياب الذقن، وجمجمتهم المسطحة بعض الشيء
والناتئة من الخلف (انظر الشكل
٢٤-٦؛
الشكل
٢٤-٧)، فقد كانت سعة دماغهم في
المتوسط أكبر منا بقليل، وكانت لديهم ثقافةٌ معقدة كانت تتضمن
وجود شعائر للدفن، مما يشير إلى وجود معتقدات دينية. كانت
عظامهم (وأجسادهم أيضًا على الأرجح) قوية وعضلية وأقصر قليلًا
من الإنسان الحديث في المتوسط. لقد عاش إنسان النياندرتال
حصريًّا في المناخات الباردة في الحواف الجليدية لأوروبا
والشرق الأوسط، حيث ربما كانت لبنيتهم المكتنزة (مثل شعب
الإنويت الحديث أو اللابلاندر) أفضلية. كانت أدواتهم وثقافتهم
أيضًا أكثر تعقيدًا؛ إذ صنعوا فئوس اليد الموستيرية، ورءوس
الرماح وغيرها من الأجهزة المعقدة، فضلًا عن الأدوات العظمية
والخشبية. تُظهِر بعض هذه الأدوات عملًا معقدًا وبعض النحت
البسيط، مما يدل على تمتع هذا النوع بمهارات فنية لم يمتلكها
قبله أحد من البشرانيات. أظهرت الاكتشافات الشهيرة في كهف
شانيدار في العراق أن إنسان النياندرتال دفن أنواعًا متعددة
من الزهور الملونة مع موتاه، مما يشير إلى أنه ربما كان لديهم
على الأقل معتقدات دينية من نوعٍ ما، وربما إيمان بالحياة
الآخرة.
لعقود من الزمان، عامل علماء الأنثروبولوجيا إنسان
نياندرتال باعتباره نوعًا فرعيًّا من الإنسان العاقل، لكن آخر
الأبحاث قد أشارت إلى أنه كان نوعًا متمايزًا. يأتي أفضل دليل
أحفوري على ذلك من كهفَي سخول وقفزة على جبل الكرمل في
إسرائيل، حيث تتداخل الطبقات التي تحمل بقايا إنسان نياندرتال،
وتتبادل مع طبقات تحتوي على الأفراد الأوائل من الإنسان
الحديث. في عام ١٩٩٧، اكتشف العلماء تسلسل الحمض النووي
لإنسان نياندرتال، وأصبح من الواضح أنه يختلف عن الإنسان
العاقل، وهو متمايزٌ عنه وراثيًّا أيضًا. ومع ذلك، فإن جميع
البشر المعاصرين من أصلٍ غير أفريقي لديهم القليل من الحمض
النووي لإنسان نياندرتال؛ ومن ثَم لا بد أن النوعَين تزاوجا
فيما بينهما في أوراسيا حيث تداخلا.
كان إنسان نياندرتال هو النوع المنقرض الوحيد من البشر
المعروف بواسطة تسلسل الحمض النووي حتى عام ٢٠١٠، عندما صَدم
علمُ الأحياء الجزيئي العالم بإعلان وجود نوع آخر من البشر
خلال الأربعين ألف سنة الماضية. ففي أثناء الحفر في كهف
دينيسوفا في جبال ألتاي في سيبيريا بالقرب من الحدود
المنغولية الصينية، اكتشف علماء الآثار الروس عظم إصبع يد وعظم
إصبع قدم لطفل، وبعض الأسنان المعزولة من بشرانيات مختلطة، مع
قطع أثرية منها سوار. أُرِّخت القطع الأثرية بالكربون المشع
إلى ٤١ ألف عام؛ لذلك كان العمر مؤكَّدًا. ولكن عندما حلل
مختبر سفانتي بابو ويوهانس كراوس لعلم الأحياء الجزيئي في
معهد ماكس بلانك في لايبزيج بألمانيا (أول مختبر توصل إلى
تسلسل الحمض النووي لإنسان نياندرتال) الحمض النووي
للميتوكوندريا لعظم الإصبع، وجدوا أنه يحتوي على تسلسل جيني
متمايز عن التسلسل الجيني لكلٍّ من إنسان نياندرتال والإنسان
الحديث. كان الحمض النووي في النواة متمايزًا أيضًا، لكنه
أشار إلى أن هؤلاء الأشخاص كانوا على صلة وثيقة بالنياندرتال.
وربما تفاعلوا أيضًا مع البشر المعاصرين؛ لأنهم يتشاركون في
نسبة تتراوح من ثلاثة إلى خمسة في المائة من حمضهم النووي مع
الميلانيزيين وسكان أستراليا الأصليين. تشير بيانات الحمض
النووي للميتوكوندريا إلى أنهم تفرعوا عن سلالة البشر منذ
حوالي ٦٠٠ ألف عام، وهم يُمثِّلون هجرة «خارج أفريقيا» منفصلة
تختلف عن هجرة الإنسان المنتصب السابقة (منذ ١٫٨ مليون سنة)،
أو الهجرة الأحدث بكثير لإنسان هايدلبيرج وإنسان روديسيا من
أفريقيا إلى أوراسيا (قبل ٣٠٠ ألف سنة).
هؤلاء الأشخاص الغامضون الذين كان حمضهم النووي مميزًا
للغاية، يُسمَّون مؤقتًا ﺑ «إنسان دينيسوفا». وليس لدينا سوى
عدد قليل جدًّا من الحفريات التي لا تمكِّننا من قول الكثير
عن مظهرها الجسدي أو أي شيء آخر، سوى أنها تمتلك حمضًا
نوويًّا مميزًا لا يوجد في أي نوع بشري آخر. الحق أنَّ
العلماء ما يزالون مترددين في إعطاء إنسان دينيسوفا اسمًا
علميًّا رسميًّا؛ لعدم وجود مادة أحفورية كافية لوصف بنيته
التشريحية بأي وسيلة اعتيادية. إن إنسان دينيسوفا غامض،
ويظهر لنا أن العظام لا تروي القصة كاملة. من الممكن إذن أن
يكون العديد من الأنواع البشرية الأخرى قد عاشوا على هذا
الكوكب، لكنهم لم يتركوا سجلًّا أحفوريًّا.
وما لا يقل إدهاشًا عن اكتشاف دينيسوفا في عام ٢٠١٠،
الإعلانُ في عام ٢٠٠٣ عن اكتشاف نوع مُتقزِّم من البشر لا
يوجد إلا في جزيرة فلوريس في إندونيسيا (الشكل
٢٤-٨). وُجدتْ حفريات هذا النوع والقطع
الأثرية الخاصة به في موقع يُسمَّى كهف ليانج بوا، ويشير
التأريخ إلى أنها تعود إلى ما بين مليون سنة و٧٤ ألف سنة.
كانت الميزة الأكثر لفتًا للنظر لهؤلاء الأشخاص هي حجمهم
الصغير، حيث يبلغ طول شخص بالغ حوالَي ١٫١ متر (ثلاث أقدام
وسبع بوصات). ولهذا أُطلقَ عليهم لقب «الهوبيت»، لكنهم ليسوا
بأقزام أفارقة معاصرين (وهم بشر حديثون تمامًا لكنهم صغار
الحجم فقط). وإنما هي مجموعة كاملة من الأشخاص المُتقزِّمين
الذين يبدو أنهم ينحدرون من سلالة الإنسان المنتصب (أو ربما
حتى من سلالة الإنسان الماهر) منذ حوالَي مليون سنة، ثم أصبحوا
مُتقزِّمين. يُعَد تضاؤل الحجم من التأثيرات الشائعة على
الجزر المحيطية، وثمة أنواعٌ كثيرة من الحيوانات (خاصة الأفيال
والماموث وأفراس النهر) تتعرض للتقزُّم على الجزر، ما بين
مالطا إلى كريت إلى قبرص إلى مدغشقر. وليس سبب هذا التقزُّم
بخفي؛ إنها تعيش في الجزيرة على قاعدة أصغر من الموارد
الغذائية، ولا تحصل على تغذية كافية لتنمو إلى أحجام طبيعية.
إضافة إلى ذلك، لا تتعرض هذه الكائنات في المعتاد لضغوط من
الحيوانات المفترسة الكبيرة على الجزر، كما أنها لا تتنافس مع
آكلات الأعشاب الكبيرة. على الرغم من أن تفسير هذه الحفريات
مثير للجدل، فإنَّ معظم علماء الأنثروبولوجيا يتفقون على أنهم
نوعٌ متمايز سُمي رسميًّا ﺑ «إنسان فلورينس».
وأخيرًا، وجدنا أول جماجم وهياكل عظمية أحفورية لا يمكن
تمييزها تقريبًا عن جنسنا البشري. نعرف بعضها — يُطلَق عليها
اسم «الإنسان العاقل القديم»، والاسم الرسمي: «إنسان
هايدلبيرج» — من رواسب قليلة في أفريقيا يعود تاريخها إلى ٣٠٠
ألف عام. منذ حوالي ٩٠ ألف عام، نجد أنَّ الجماجم المكتشَفة
في مواقع في أفريقيا (مثل كهف فم كلاسياس في جنوب أفريقيا)
تكاد تبدو حديثة تمامًا في مظهرها، وثمة اتفاق على أنها تنتمي
لنوع الإنسان العاقل (نوعنا). وعلى غرار الإنسان المنتصب، قضى
الإنسان العاقل معظم تاريخه في أفريقيا، وهاجر إلى آسيا منذ
حوالي ٢٠٠ ألف عام، ثم إلى أوروبا منذ حوالي ٧٠ ألف عام.
هناك، تواصل هؤلاء الأشخاص مع إنسان نياندرتال، وتعايشوا معًا
لمدة ٣٠ ألف عام. وفي ظروف غامضة، اختفى إنسان نياندرتال منذ
٤٠ ألف عام. وليس من الواضح ما إذا كان الإنسان العاقل هو من
قضى عليه أم أنه اختفى لسبب آخر. إنَّ هذه المسألة محل جدل
وتكهنات لا نهاية لها. يذهب بات شيبمان إلى أن البشر
المعاصرين كانت لديهم أفضلية تتمثل في الكلاب المستأنَسة، مما
ساعدهم على التغلب على إنسان نياندرتال في الصيد وفي الحروب.
وأيًّا كان ما حدث، فسرعان ما سيطر الإنسان العاقل الحديث على
العالم القديم بأكمله، وطور ثقافات معقدة («شعب كرومجنون»)،
ومن ذلك أيضًا رسوم الكهوف الشهيرة في أوروبا، والعديد من
أنواع الأسلحة والأدوات.
إن هذه المراجعة الموجزة للسجل الأحفوري للبشرانيات لا تنصف
ثراء العينات وجودتها، أو الكمية الهائلة من التفاصيل
التشريحية التي كشف العلماء عن أسرارها. وإذا بدا لك أنَّ هذا
أكثر من أن تستوعبه، فما عليك سوى التأمل في وجوه الجماجم في
الشكل
٢٤-١. إنها شبيهة بجماجم الإنسان
الحديث إلى حد ما، لكنها تُظهِر بالتأكيد التغيير من
البشرانيات الأكثر بدائية التي يعتبرها بعض الناس «مجرد قرود»
(على الرغم من أنهم كانوا جميعًا يسيرون على قدمين تمامًا،
ولديهم العديد من الخصائص البشرية الأخرى)، مرورًا بأشكال
يتفق الجميع على أنها شبيهة ﺑ «البشر المعاصرين» إلى حد كبير
(على الرغم من أن لديهم العديد من السمات التشريحية المميزة،
مثل تلك الموجودة في إنسان نياندرتال، والتي تجعلهم نوعًا
متمايزًا). وحتى هؤلاء الذين ليسوا بعلماء يمكنهم إلقاء نظرة
على هذه الحفريات ورؤية السمات المميزة لأسلافهم.
قراءات إضافية
-
Beard, Chris, The Hunt for the Dawn
Monkey: Unearthing the Origin of
Monkeys, Apes, andHumans, Berkeley:
University of California Press,
2004.
-
Conroy, Glenn C., Primate
Evolution, New York:
Norton, 1990.
-
Delson, Eric, ed.,
Ancestors: The
Hard Evidence, New York:
Liss, 1985.
-
Harari, Yuval Noah, 2015,
Sapiens: A
Brief History of Humankind,
New York: Harper,
2015.
-
Johanson, Donald, and
Maitland Edey, Lucy: The Beginnings of
Humankind, New York: Simon
& Schuster,
1981.
-
Johanson, Donald, and
Blake Edgar, From Lucy to Language, New
York: Simon & Schuster,
1996.
-
Johanson, Donald, and Kate
Wong, Lucy’s
Legacy: The Quest for Human
Origins, New York: Crown,
2009.
-
Johanson, Donald, Lenora
Johanson, and Blake Edgar, Ancestors: In Search of
Human Origins, New York:
Villard, 1994.
-
Jurmain, Robert, Lynn
Kilgore, Wenda Trevathan, Russell L.
Ciochon, and Eric Bartelink, Introduction to Physical
Anthropology, 15th ed., New
York: Cengage Learning,
2017.
-
Larsen, Clark Spencer,
Our Origins:
Discovering Physical
Anthropology, New York:
Norton, 2014.
-
Lewin, Roger, Bones of Contention:
Controversies in the Search for Human
Origins, Chicago:
University of Chicago Press,
1987.
-
______, In the Age of Mankind: A
Smithsonian Book on Human
Evolution, Washington,
D.C.: Smithsonian Institution Press,
1988.
-
Lewin, Roger, and Robert
A. Foley, Principles of Human
Evolution, 2nd ed., Malden,
Mass.: Wiley-Blackwell,
2003.
-
Pääbo, Svante, Neanderthal Man: In
Search of Lost Genomes, New
York: Basic Books,
2014.
-
Roberts, Alice, Evolution: The Human
Story, London: DK Books,
2018.
-
Sawyer, G. J., Viktor
Deak, Esteban Sarmiento, and Richard
Milner, The
Last Human: A Guide to the Twenty-Two
Species of Extinct Humans,
New Haven, Conn.: Yale University
Press, 2007.
-
Shipman, Pat, The Invaders: How Humans
and their Dogs Drove Neanderthals to
Extinction, Cambridge,
Mass.: Belknap Press of Harvard
University Press,
2015.
-
______, The Man Who Found the
Missing Link: Eugene Dubois and His
Lifelong Quest to Prove Darwin
Right, New York: Simon
& Schuster,
2001.
-
Stringer, Chris, Lone Survivors: How We
Came to Be the Only Humans on
Earth, London: Times Books,
2012.
-
Stringer, Chris, and Peter
Andrews, The
Complete World of Human
Evolution, London: Thames
& Hudson,
2005.
-
Stringer, Chris, and Clive
Gamble, In
Search of Neanderthals: Solving the
Puzzle of Human Origins,
London: Thames & Hudson,
1993.
-
Swisher, Carl, III,
Garniss Curtis, and Roger Lewin,
Java
Man, New York: Scribner,
2000.
-
Tattersall, Ian, The Human Odyssey: Four
Million Years of Human
Evolution, Upper Saddle
River, N.J.: Prentice Hall,
1993.
-
______, Masters of the Planet:
The Search for Our Human
Origins, London: St.
Martin’s Griffin,
2012.
-
______, The Strange Case of the
Rickety Cossack and Other Cautionary
Tales from Human Evolution,
New York: St. Martin’s Press,
2015.
-
Tattersall, Ian, and
Jeffrey Schwartz, Extinct
Humans, New York: Westview,
2000.
-
Walker, Alan, and Pat
Shipman, The
Wisdom of the Bones: In Search of
Human Origins, New York:
Knopf, 1996.