الإنسان السابق والمستقبلي
إنني أعلمكم الإنسان الأعلى. لا بد من تجاوز الإنسان. فما الذي فعلتم كي تتجاوزوه؟ … لقد خَلقت جميع الكائنات حتى الآن شيئًا أسمى منها، فهل تريدون أن تكونوا انحسار هذه الموجة العظيمة، وتعودوا إلى حالة الوحش بدلًا من تجاوز الإنسان؟ ما القرد للإنسان؟ أضحوكة ومصدر للخزي. وهكذا أيضًا سيكون الإنسان في نظر الإنسان الأعلى؛ مصدرًا للسخرية أو الخزي المؤلم. لقد سلكتم الطريق الطويل من الدودة إلى الإنسان، لكنكم ما زلتم تحملون الكثير من الدودة بداخلكم. كنتم قردة ذات يوم، وما يزال الإنسان حتى الآن أشبه بالقردة من القرود نفسها … الإنسان الأعلى هو معنى الأرض. فلتعلن إرادتكم، ليكن الإنسان الأعلى هو معنى الأرض. الإنسان حبل مربوط بين الحيوان والإنسان الأعلى، حبل فوق هاوية … ما هو عظيم في الإنسان أنه جسر لا نهائي.
لقد ملأ الخيال العلمي مخيلتنا بصور وأفكار عديدة بشأن كيفية تطور البشر في المستقبل، وما قد نبدو عليه بعد مائة سنة من الآن أو ألف. يتصور العديدُ من هذه الأفكار أن البشر سيطورون أدمغة أكبر وأكبر إلى أن نمتلك رءوسًا صلعاء ضخمة منتفخة، أو أننا سنطوِّر عيونًا ضخمة. خلال ذلك، سيتدهور حال أجسادنا وأطرافنا مع اعتمادنا المتزايد على التكنولوجيا. ففي فيلم «وال-إي»، يصبح البشر كُرَيات سمينة تعتمد على الجاذبية المنخفضة، وجميع أنواع التكنولوجيا للعمل في مركباتهم الفضائية بعد أن هجروا الأرض الخَرِبة. وتصور فيلم «حماقة» («إديوكراسي») الذي أخرجه مايك جادج عام ٢٠٠٦ عالمًا أصبح فيه البشر أكثر وأكثر غباءً بشكل تدريجي على مدى ٥٠٠ عام؛ بسبب وسائل الإعلام والشركات الكبرى. لقد وصل بهم الحال إلى أنَّ مَن يتولى منصب رئيس الولايات المتحدة مصارع سابق متبجِّح، يمارس الجنس مع نجمات الأفلام الإباحية، ويبالغ في مزاعمه وقدراته أمام ناخبيه، بينما هو لا يمتلك أدنى فكرة عما يفعله. ونتيجة لهذا، فإنَّ اثنين من المسافرين عبر الزمن (يقوم بدورهما لوك ويلسون ومايا رودولف) كانا يمتلكان ذكاءً متوسطًا عندما وُضِعا في الكبسولة الزمنية قبل ٥٠٠ عام، أصبحا الأذكى على هذا الكوكب.
كان العديدُ من هذه الأفكار شائعًا في الخيال العلمي ووسائل الإعلام الرائجة لما يقرب من قرنٍ من الزمان، لكن القليل جدًّا منها كان مبنيًّا على فهم لكيفية عمل التطور، أو ما يُظهِره السجل الأحفوري بشأن كيفية تطور البشر في الماضي. غير أنَّ مراجعةً سريعة للسجل الأحفوري للبشر تقدِّم منظورًا مختلفًا تمامًا (انظر الفصل الرابع والعشرين). ذلك أن البشر المعاصرين من الناحية الهيكلية (وفقًا للخصائص العظمية المتحجرة) موجودون منذ ١٠٠ ألف عام على الأقل، وربما ٣٠٠ ألف عام. وكانت سعة الجمجمة لدى الغالبية العظمى من حفريات الإنسان العاقل، أو أسلافنا المباشرين، مثل إنسان هايدلبيرج، مساويةً (في المتوسط) لما يمتلكه البشر المعاصرون. الواقع أنَّ السعة الدماغية لأقربائنا المقربين، إنسان نياندرتال، أكبر منا قليلًا في المتوسط، لكنهم لم يطوروا مجموعة الأدوات المعقدة أو التقدمات الثقافية الأخرى التي طورها الإنسان العاقل المعاصر.
عندما تلقيت بعض أسئلة من متصلين بعدما أجريت مقابلة عن التطور في برنامج إذاعي، اطلعت على قدر جيد من المفاهيم الخاطئة بشأن التطور البشري التي لا تزال شائعة اليوم. مرارًا وتكرارًا، تكهَّن السائلون عن كيفية تطور البشر في المستقبل. لقد كرروا الافتراض الخاطئ بأن الأدمغة ستزداد حجمًا، وأن هذا يعني ذكاءً أكثر، كما أنهم طرحوا مفهومًا خاطئًا آخر عن التطور، وهو أن التطور يجعلنا أفضل، وأننا في النهاية سنصل إلى الحالة المثلى لجسد الإنسان. لكننا تعلمنا في هذا الكتاب أن الانتخاب الطبيعي غير معني بصنع كائنات حية مثالية، أو تهذيب كائن ما حتى يصل إلى الكمال (هذا مفهوم خاطئ شائع في أدب القرن العشرين). فكما ناقشنا في الفصلين التاسع والواحد والعشرين، فإن التطور يتعلق بالتكيف مع الظروف المحلية في وقت ما، وخلال هذه العملية يبقى الكثير من الأعضاء الأثرية والصفات غير المفيدة والحمض النووي الذي يُعد من المخلفات. نادرًا ما تُفقَد هذه البنى؛ حيث إنها لا تنتقص من ملاءمة الكائن الحي لمجموعة الظروف المحلية في وقت محدد عندما يتكاثر، وتنتقل الجينات إلى جيل جديد، بينما تكلفة التخلص من هذه الصفات، أو إعادة تحديث الجينوم للتخلص منها، مرتفعة للغاية. غير أنَّ العلوم الشعبية والخيال العلمي مليئة بالافتراضات الزائفة والمفاهيم القديمة التي تتجاهل هذه الحقائق.
صار إدراك أن الجمجمة والهيكل العظمي البشريين لم يتغيرا إلا بدرجة طفيفة جدًّا على مدار ١٠٠ ألف عام تقريبًا أو أكثر؛ أمرًا مقبولًا على نطاق واسع منذ أواخر الستينيات وحتى الثمانينيات من القرن الماضي. ولهذا، زعم العديد من علماء الأحياء التطوريين البارزين، ومنهم ستيفن جاي جولد وإرنست ماير وريتشارد دوكينز وديفيد أتينبورو، أن البشر قد توقفوا تمامًا عن التطور فيما يتعلق بهيكلهم العظمي، ومعظم أجزاء بنيتهم التشريحية. فلأن إحداث تغيير في النمط الظاهري يستغرق مئات من الأجيال؛ كانت الفكرة المهيمنة هي أن التغييرات السريعة في الثقافة جعلت التطور الظاهري والوراثي أقل ضرورة. نحن الآن نتكيف عن طريق الاستعانة بالأدوات والأسلحة، وتدجين الحيوانات، وباستخدام العلم والتكنولوجيا في النهاية، ولا شيء من هذا يتطلب أكثر من تغيير بسيط في تركيبتنا الجسدية. إن الثقافة قادرةٌ بالفعل على إحداث تغييراتٍ سريعةٍ للغاية خلال سنواتٍ أو أسابيع أو أيام، وفي عصر الإنترنت تنتشر الأفكار والاكتشافات حول العالم في ثوانٍ، بينما تستغرق التغيرات الجسدية والتغيرات في جينومنا عشرات الأجيال، ومن المئات إلى الآلاف من السنوات. الواقع أنَّ ريتشارد دوكينز صاغ كلمة «ميم» في الأصل لوصف سمة ثقافية تنتشر بسرعة من خلال التواصل والمحاكاة، على عكس «جين»، الذي ينتشر ويتغير ببطء، استجابة للتكاثر على مدار أجيال. الآن تُستخدَم كلمة «ميم» لأي فكرة تقريبًا، وخاصة للأفكار والرسومات المثيرة أو البارزة التي تنتشر عبر الإنترنت.
وعلى الرغم من ذلك، كانت الفكرةُ القائلة بأن البشر توقفوا عن التطور الجسدي مفرطةً في التبسيط، وقد ثبت خطؤها منذ ذلك الحين. تُظهِر الأدلة أن التطور البشري الحالي والمستقبلي، ليس هو نوع التطور الذي تصوَّره كُتاب الخيال العلمي. فهو لا ينطوي على تطوير البشر لرءوس منتفخة بها أدمغة أكبر، أو عيون أكبر، أو أجسام وأطراف متداعية. بل على العكس من ذلك، نجد أنَّ معظم التغيير خفي، والكثير منه داخلي (فسيولوجي أو وراثي)، وليس واضحًا لمعظم الناس، وهي تغييرات لا تُحفَظ في العظام التي قد تتحجر.
يبدو أن عنق الزجاجة قد حدث في كثير من الأنواع، ولا سيما في البشر. فمن الصادم أنَّ الأرض اليوم مأهولة بما يقرب من ثمانية مليارات إنسان، وأن هذا العدد يتزايد بسرعة، لكن عدد السكان كان أقل بكثير في عصور ما قبل التاريخ. في عام ٢٠٠٥، وجدت مجموعة من العلماء أدلة وراثية تشير إلى أن حوالي ٧٠ فردًا فقط هم الذين تسببوا في ظهور جميع مجموعات السكان الأمريكيين الأصليين، الذين انتشروا من آسيا إلى الأمريكتين منذ فترة تتراوح من ١٨ ألف عام إلى ١١ ألف عام. هذا يعني أن جميع الشعوب الأصلية، من شعب الإنويت في ألاسكا، إلى شعب لاكوتا في السهول، إلى شعوب الإنكا والأزتيك وتولمكس والمايا، وحتى الفوجيون في باتاجونيا؛ ترتبط ارتباطًا وثيقًا للغاية، ولديها تنوع جيني منخفض.
الواقع أنَّ الدراسات التي أُجريتْ على التنوع الكامل لنوع الإنسان العاقل الحي الآن، توضِّح أننا مررنا بعنق زجاجة صغير للغاية منذ وقتٍ ليس ببعيد. تتفاوت التقديرات، لكن أحدث دليل جيني يُقدِّر إجمالي عدد مجموعة نوع الإنسان العاقل في عنق الزجاجة ﺑ ٣٠ ألف شخص، وربما قلَّ عددهم حتى ٤٥٠٠ شخص فحسب، بل إنَّ بعض التقديرات أكثر من ذلك انخفاضًا، وتقدِّر العدد بأربعين زوجًا متكاثرًا. تشير معظم التقديرات إلى أن حوالي ٥٠٠٠ شخص فقط كانوا على الأرض في ذلك الوقت. هذا أقل من عدد سكان بلدة صغيرة في أمريكا اليوم!
متى مر البشر بعنق الزجاجة هذا؟ تشير أحدث الأدلة الأثرية إلى ما قبل ٤٨ ألف عام على الأقل كحد أدنى. لا يوجد العديد من المواقع الأثرية من هذه الفترة الزمنية؛ لذلك يمكن أن يكون التاريخ قبل ذلك بكثير. يمكننا استخدام الساعة الجزيئية لتقدير المدة التي تشعَّب فيها جميع البشر الحديثين على هذا الكوكب من مجموعةٍ ناجيةٍ صغيرة. تقدِّر بعض الدراسات الجينية الحديثة وقوع ذلك قبل حوالي ٧٤ ألف عام.
يُعَد تقدير ٧٤ ألف عام صدفة مثيرة للاهتمام؛ لأن هذا هو تاريخ أحد أكبر الانفجارات البركانية في تاريخ الأرض، وهو انفجار بركان توبا في الطرف الشمالي من جزيرة سومطرة في إندونيسيا. كان ثوران توبا أكبر ثوران بركاني على هذا الكوكب في الثمانية والعشرين مليون سنة الماضية، أضخم بأكثر من ألف مرة من الانفجارات الكارثية لجبل تامبورا في إندونيسيا عام ١٨١٥، أو بركان كراكاتوا بين جاوة وسومطرة في إندونيسيا في عام ١٨٨٣، وقد تسبَّب كلاهما في تغير مناخي لعدة سنوات بعد ثورانهما. في عام ١٨١٦، تسبب ثوران تامبورا في «عام بلا صيف»، وعلى النقيض من ذلك، تسبب ثوران توبا في انخفاض درجة الحرارة العالمية بمقدار ٣–٥ درجات مئوية (٥–٩ درجات فهرنهايت)، مما زاد من برودة العصور الجليدية التي كانت ما تزال مستمرة. انخفض خط الشجر وخط الثلج بمقدار ٣٠٠٠ متر (٩٠٠٠ قدم)، مما جعل معظم الارتفاعات العالية غير صالحة للسكن. انخفض متوسط درجات الحرارة العالمية إلى ١٥ درجة مئوية فقط بعد ٣ سنوات، واستغرق الأمر عقدًا كاملًا للعودة إلى درجات حرارة ما قبل الثوران. تُظهِر عينات اللب الجليدي من جرينلاند الدليل على هذا التبريد الهائل في الرماد المحتبَس وفقاعات الهواء القديمة.
ماذا حدث للناس والحيوانات في هذا الوقت العصيب؟ وجد علماء الوراثة وعلماء الآثار أدلة على أن كارثة توبا كادت أن تقضي على الجنس البشري. نجا بضعة آلاف فقط من البشر في جميع أنحاء العالم على ما يبدو، ومرُّوا عبر عنق الزجاجة الجيني. وجدت دراسة أخرى عنق زجاجة جينيًّا مماثلًا في جينات قمل الإنسان، وفي بكتيريا الأمعاء الملوية البوابية، التي تسبِّب قرحة المعدة، ويعود تاريخ كلتا الحالتين إلى زمن ثوران توبا، وذلك وفقًا لتحليل الساعة الجزيئية لكلٍّ منهما، والذي يُظهِر المدة الزمنية التي مرَّت منذ حدوث التغيير الجيني. ينطبق الشيء نفسه على جينات عددٍ من الحيوانات الأخرى، بما في ذلك النمور والأورانجوتان والعديد من السعادين والغوريلا والشمبانزي والباندا، أي الغالبية العظمى من الثدييات الكبيرة في جنوب آسيا أو أفريقيا، والتي اكتشف العلماء تسلسل الحمض النووي الخاص بها حتى الآن. لقد كان توبا أضخم ثوران يحدث منذ أن ظهر البشر على الأرض، وقد أوشك أن يقضي عليهم تمامًا، هم والعديد من الحيوانات الأخرى. لا يزال نموذج كارثة توبا محل خلاف شديد بين علماء الأنثروبولوجيا، على الرغم من أن عنق الزجاجة الجيني مؤكَّد، وحدوثه في وقت قريب من ثوران توبا العملاق مدعوم بالبيانات بقوة.
قد ينزعج بعض الناس لمعرفة أن جميع «الأعراق» البشرية ليست سوى تنويعات حديثة طفيفة في التطور البشري، وأن ما تمثله من اختلاف في الجينوم أقل من الاختلافات التي نجدها بين مجموعات الشمبانزي في غرب أفريقيا وتلك الموجودة في وسط أفريقيا. ولعل ما يصدمنا أكثر من ذلك فكرة أن ثوران توبا كاد أن يمحو البشر من على وجه الأرض قبل ٧٤ ألف عام. إن إدراك أن الاختلافات بين كل ما يُسمَّى بالأعراق هي مجرد تغييرات ضئيلة وحديثة جدًّا في الجينوم البشري؛ يمكن أن تغيِّر منظورك بالتأكيد. في وقتنا الحاضر الذي يتسم بالاضطهاد العنصري في الأوساط السياسية، وإثارة الكراهية الشديدة ضد المهاجرين والأجانب، من المهم أن نتذكر أن جميع البشر، أيًّا كان لون بشرتهم، متشابهون وراثيًّا بنسبة ٩٩٫٩٩٩ في المائة، وأن التغيرات الصغيرة في لون البشرة وبعض السمات السطحية الأخرى حديثة للغاية، ولا معنى لها من الناحية العلمية والتطورية.
منذ حوالَي ٣٠ ألف عام، كان جميع البشر على الأرض يعيشون في المناطق الاستوائية أو شبه الاستوائية، وكانت بشرتهم جميعًا داكنة للغاية. إن معظم الاختلافات في لون البشرة هي تكيفات مع مستويات الضوء واختلافات الإشعاع الشمسي. يساعد التصبغ الداكن على منع الأشعة فوق البنفسجية من التسبب في حروق الشمس وسرطان الجلد (وهذا مفيد لشعوب المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية)، ولكن في المناطق ذات الإضاءة الأقل بكثير (مثل خطوط العرض العالية في نصف الكرة الشمالي)، تنخفض مستويات الضوء بحيث يتمتَّع الجلد بدرجةٍ منخفضةٍ من التصبغ، كي يكون بإمكان الطاقة الشمسية أن تخترق الجلد وإنتاج فيتامين د. لقد تطورت هذه الاختلافات الطفيفة في لون الجلد حسب خط العرض، والكمية الإجمالية للإشعاع الشمسي في بعض المجموعات السكانية شمال أوراسيا بشكل مستقل خلال العشرين ألف سنة الماضية أو أقل (بعد الذروة الجليدية الأخيرة، حينما عاد البشر لأول مرة إلى المناطق شبه القطبية، عندما تراجعت الأغطية الجليدية القطبية). ووفقًا للأدلة الجينية، يُعتقد أن انتشار المجموعات ذات البشرة الفاتحة في جميع أنحاء أوروبا قد حدث منذ حوالي ٥ آلاف عام، خلال العصر الحجري المتوسط. أصبح البشر الآن كثيري التنقل وينتشرون بسرعة كبيرة حول الأرض، بحيث إن لون البشرة لم يعُد تتحكم فيه الظروف المحلية. علاوة على ذلك، يتزاوج البشر بسرعةٍ وبحريةٍ كبيرة، لدرجة أنه مهما كانت الاختلافات الإقليمية التي كانت موجودةً في يومٍ من الأيام، فهي تنصهر إلى حدٍّ كبير؛ حيث يولَد المزيد والمزيد من الأطفال لأزواجٍ من أعراق مختلفة. علاوةً على ذلك، تتوفر وسائل صناعية لتعويض اختلافات لون البشرة، مثل واقي الشمس لمنع الأشخاص ذوي البشرة الفاتحة من حروق الشمس، وأقراص فيتامين د لمَن لا يحصل على الكفاية منها؛ فلا يحتاج أحد إلى أن يعاني في كلتا الحالتين.
لقد حدث العديد من التغييرات الجينية الصغيرة الدقيقة الأخرى في آخر بضعة آلاف من السنين. قبل ٣٠ ألف عام، كان لدى جميع البشر شمع أذن لزج، وكانوا يفرزون الكثير من العرق. منذ حوالَي ٢٠ ألف عام، ظهرت في معظم سكان شرق آسيا طفرة تُسمَّى «إيه بي سي سي ١١»، وصار لدى جميع أحفادهم الآن شمع أذن جاف قشري، ويميلون إلى التعرق بدرجة أقل.
ما هي الاختلافات الجسدية التي يمكن أن تحفظها هياكلنا العظمية إذن، والتي يمكن لعلماء الأنثروبولوجيا رصدها في المستقبل؟ أول ما ستلاحظه هو أنه منذ حوالي ١١ ألف عام، عندما ظهرت الحضارات الزراعية الأولى، وبدأ الناس في طهو طعامهم؛ تقلَّصت أسنانهم وفكوكهم بنسبة ١٠ بالمائة تقريبًا مقارنة بشعوب العصر الجليدي الذين أمضَوا وقتهم في الصيد وجمع الثمار. كما أشرنا في الفصل الحادي والعشرين، أصبحت وجوهنا وأفواهنا أقصر؛ ومن ثم تقلَّصت المساحة المخصَّصة لأسناننا. غالبًا ما تكون الأضراس الأخيرة في فكوكنا («أضراس العقل») مكتظة ويمكن أن تنطمر، وفي بعض المجموعات البشرية لا تنمو أضراس العقل على الإطلاق. ولأننا لم نعُد بحاجةٍ إلى مجموعةٍ من الأضراس الشديدة التحمل لطحن البذور الصلبة والمكسرات، فسوف تنتشر الجينات للأشخاص الذين ليس لديهم أضراس العقل، ولن تنمو لدى البشر في المستقبل.
حديثًا، زاد متوسط طول الأشخاص في الدول الصناعية الغربية في المتوسط بنحو ١٠ سنتيمترات (أربع بوصات) في آخر ١٥٠ عامًا. ففي عام ١٨٨٠، كان متوسط طول الرجل الأمريكي ٥ أقدام و٧ بوصات، والآن يبلغ متوسط طوله ٥ أقدام و١٠ بوصات. إن هذه الزيادة في طول الإنسان ترجع بالتأكيد إلى تحسينات في الأنظمة الغذائية. وقد ظهر هذا بشكل بارز في اليابان خلال أربعينيات القرن الماضي. قبل الحرب العالمية الثانية، كان معظم اليابانيين يعيشون في فقر، وكانت أنظمتهم الغذائية فقيرة تتكون في معظمها من الأرز مع كمية محدودة من الخَضراوات والبروتينات. بعد انتهاء الحرب، وتحديث اليابان خلال الاحتلال الأمريكي؛ تحسَّن اقتصادها ونظامها الغذائي، حيث تضمَّن الكثير من البروتين والفواكه والخضراوات. نتيجة لذلك، فإن متوسط طول أجيال ما بعد الحرب أطول بشكل ملحوظ من جيل أجدادهم. كان هذا التغيير سريعًا للغاية (بضعة عقود فقط) فهو لم يُشفَّر في الجينوم بعد، لكنه مثال على التنوع في النمط الظاهري نتيجة للبيئة؛ استجابات قصيرة المدى غير جينية لظروف مباشرة تؤثر على النمو.
من الأمثلة الأخرى على التكيف الجسدي المحلي هي البنية القصيرة الأطراف، الممتلئة، التي تحتفظ بالدهون، لشعبَي الإنويت (الإسكيمو) واللابلاندر، اللذين يعيشان في مناخات شديدة البرودة. فالأطراف الطويلة عبء في المناخات الباردة؛ حيث إن مساحة سطحها المتزايدة تفقد الحرارة، وهي ظاهرة تُعرَف في علم الأحياء باسم قاعدة ألين. لا بد أن هذا التعديل الوراثي أيضًا قد بدأ منذ أقل من ٢٠ ألف عام، عندما بدأت الأنهار الجليدية في التراجع لأول مرة من المناطق القطبية، وجعلتها صالحة للسكن.
إن الميزة الانتخابية للجينات التي تمنحها بعض الجينات الأخرى أقل وضوحًا. فالسبب في ظهور العيون الزرقاء على سبيل المثال، هو جين يشير التحليل الجيني إلى ظهوره في إيطاليا ومنطقة البحر الأسود منذ حوالي ١٤ ألف عام. لسبب ما، اعتُبِرت العيون الزرقاء جذابة وانتُخِبت، مما كان يمنح فرصة أكبر بنسبة ٥ في المائة للتكاثر الناجح، والآن تنتشر العيون الزرقاء بين حوالَي نصف مليار شخص، معظمهم من أصول شمال أوراسيا.
بعض التغيرات الأخرى توجد في وظائفنا الفسيولوجية وخصائصنا الجينية بدلًا من بنيتنا التشريحية. أحد الأمثلة على التكيفات الحديثة هي قدرة البشر الذين يعيشون في الجبال العالية (على سبيل المثال، شعب الشيربا في جبال الهيمالايا) على تحمل مستويات الأكسجين المنخفضة. وقد نشأ هذا التكيف في البشر بشكلٍ مستقلٍّ ثلاث مرات على الأقل.
قبل ٨ آلاف عام (وحتى اليوم في الثقافات التي لا تستهلك منتجات الألبان تقريبًا) فقدَ معظم البشر قدرتهم على هضم اللاكتوز بعد فطامهم من حليب أمهاتهم، وأصبح لديهم حساسية من اللاكتوز. واليوم، يحتفظ العديدُ من المجموعات البشرية بالجينات التي تنتج إنزيم اللاكتاز لبقية حياتهم، حتى يتمكَّنوا من هضم الحليب ومنتجات الألبان، واستخدام هذا المصدر من البروتين بعد فترة طويلة من توقفهم عن الرضاعة من أثداء أمهاتهم. يبدو أن هذا التطور قد حدث على الأقل ٥ مرات في آخر ثمانية آلالف عام، والتي شهدت الاحتفاظ بالحيوانات المستأنَسة لإنتاج الحليب. واليوم، يمتلك حوالَي ٩٥٪ من شعوب شمال أوروبا الجين الذي يصنع إنزيم اللاكتاز، لكنه أقل شيوعًا في الثقافات التي لا تربِّي الحيوانات من أجل الحليب. إضافةً إلى ذلك، فإن الجماعات السكانية المنحدرة من الثقافات الزراعية تنتج نسخًا أكثر بكثيرٍ من الجينات التي تصنع إنزيم الأميليز اللعابي، وهو ضروريٌّ لهضم النشا، بينما تمتلك ثقافات الصيد والالتقاط الصغيرة في أفريقيا عددًا أقلَّ بكثيرٍ من هذه الجينات.
يطور البشر أيضًا بسرعةٍ جينات لمقاومة مختلف الأمراض. ينتشر فقر الدم المِنجَلي في أفريقيا وفي المجتمعات الآتية من أفريقيا. عندما يحصل شخصٌ ما على نسخةٍ من الجين المتنحي (متماثل اللواقح) من كلا الوالدين، فإنه عادة ما يكون مميتًا. لكن الأشخاص الذين يكون لديهم نسخة من كلا أليلَيِ الجين (متغاير اللواقح) يتمكَّنون من مقاومة الملاريا. يساعد هذا في استمرار جين فقر الدم المِنجَلي المميت؛ لأن الأفراد المتغايري اللواقح لديهم أفضلية للنجاة من الملاريا، في حين أن الأشخاص ذوي الجين السائد المتماثل اللواقح أكثرُ عرضةً للإصابة بالملاريا. وما دام الأشخاص المتغايرو اللواقح يتمتعون بأفضلية، فإن الجين المتنحي المميت يبقى في المجموعة بسببهم. لكن جينًا آخر، يُدعى «دي إيه آر سي»، الذي يمنح مقاومة لأحد الناقلَين اللذين يحملان الملاريا؛ بدأ في الظهور في هذه المجموعات منذ حوالي ٤٥ ألف عام. لذا فإن جين فقر الدم المنجلي بدأ يفقد أفضليته في مكافحة الملاريا، وسيختفي في النهاية. تنتشر بين المجموعات البشرية جينات جديدة لمكافحة الجذام والسُّل أيضًا.
لقد قطعنا شوطًا طويلًا من تطور الكون والنظام الشمسي إلى تطور الحياة على الأرض. ومن خلال تتبُّع جميع الأدلة، الخفية والواضحة، أصبح لدينا الآن نموذج لكيفية تطور الحياة واستمرارها في التطور. لقد رأينا مدى ارتباطنا ارتباطًا وثيقًا ببقية أشكال الحياة، بدءًا من التشابه بنسبة ٩٩ في المائة في الحمض النووي مع الشمبانزي والغوريلا، إلى المقدار المذهل من السلوك المشترك والسيكولوجيا التي نتشارك فيها مع هذه الكائنات، إلى الأدلة الأحفورية المتعلقة بكيفية تطورنا، والبيانات التي تُظهِر أننا ما زلنا نتطوَّر. ومثلما كتب تشارلز داروين لأول مرة عام ١٨٥٩:
إنَّ هذه النظرة للحياة لا تخلو من الجلال؛ فقد نُفخت الحياة بقواها المتعددة في أنواع قليلة أو نوع واحد، بينما استمر هذا الكوكب في دورانه وفقًا لقانون الجاذبية الثابت، ومن مثل هذه البداية البسيطة جدًّا، تطورت أنواع لا حصر لها في غاية الجمال والروعة، ولا تزال تتطور.
أو كما كتب عالم الوراثة العظيم ثيودوسيوس دوبجانسكي في عام ١٩٧٣: «لا معنى لعلم الأحياء إلا في ضوء التطور.»
قراءات إضافية
-
Barnett, Adrian, “Future Humans: Just How Far Can Our Evolution Go?” New Scientist, no. 3098 (November 2, 2016).
-
Cochran, Gregory, The 10,000 Year Explosion: How Civilization Accelerated Human Evolution, New York: Basic Books, 2009.
-
Hawks, John, “Still Evolving after All These Years,” Scientific American 311, no. 3 (2014): 86–91.
-
Manco, Jean, Ancestral Journeys: The Peopling of Europe from the First Ventures to the Vikings, London: Thames & Hudson, 2016.
-
Prothero, Donald R., When Humans Nearly Vanished: The Eruption of Toba Volcano, Washington, D.C.: Smithsonian Books, 2018.
-
Reich, David, Who We Are and How We Got Here: DNA and the New Science of the Human Past, New York: Pantheon, 2018.
-
Rutherford, Adam, A Brief History of Everyone Who Ever Lived: The Human Story Retold Through Our Genes, New York: The Experiment, 2016.
-
Solomon, Scott, Future Humans: Inside the Science of Our Continuing Evolution, New Haven, Conn.: Yale University Press, 2016.
-
Wade, Nicholas, Before the Dawn: Rediscovering the Lost History of Our Ancestors, New York: Penguin, 2006.
-
______, A Troublesome Inheritance: Genes, Race, and Human History, New York: Penguin, 2014.
-
Wells, Spencer, Deep Ancestry: Inside the Genographic Project, Washington, D.C.: National Geographic, 2006.