المخطط المشترك لأجسادنا
رأينا كيف أنَّ الكائنات التي تنتمي إلى الطائفة نفسها يتشابه بعضها مع بعض في الأساس العام لتكوينها العضوي، بصرف النظر عن عاداتها الحياتية. وغالبًا ما يُعبَّر عن هذا التشابه بمصطلح «وحدة النمط»، أو بالقول إنَّ الأجزاء والأعضاء المختلفة في الأنواع المختلفة التي تتبع الطائفة نفسها؛ متناظرة. يندرج الموضوع بأكمله تحت مصطلح عام، وهو علم الشكل؛ المورفولوجيا. وهذا العلم هو واحد من أكثر تخصصات التاريخ الطبيعي إثارة للاهتمام، بل يجوز لنا القول إنه روحه نفسها. فأي شيء أعجب من أن تكون يد الإنسان المهيَّأة للقبض، ويد الخُلْد المهيأة للحفر، وساق الحصان، ومجداف خنزير البحر، وجناح الخفاش، قد تأسست جميعها على النمط نفسه، وهي تضم عظامًا متشابهة في المواضع النسبية نفسها؟
كتب الفيلسوف وعالم الرياضيات البريطاني الشهير ألفريد نورث وايتهيد يقول إن «أسلم وصف عام للفلسفة الأوروبية هو أنها تتألف من سلسلة من الهوامش على أفلاطون». هذا تبسيط مخلٌّ بالطبع، لكنه يعكس حقيقة أن أفلاطون هو مَن حدد معظم الموضوعات الرئيسية في الفلسفة، ووضع الأساس لها، وتلك هي الموضوعات نفسها التي طُوِّرت بعد ذلك على مدى الألفَي عام التي تلَتْه. ومن بعض النواحي، نشأ الكثير من العلوم الحديثة (لا سيما علم الأحياء) مع طالب أفلاطون الشهير؛ أرسطو، الذي لم يركز كثيرًا على الفلسفة بقدر ما ركَّز على وصف الطبيعة، كما عرفها الإغريق عام ۳٥٠ قبل الميلاد تقريبًا وتفسيرها. ورغم ذلك، فعلى عكس المشاكل الفلسفية التي وضعها أفلاطون والتي لن تُحَل أبدًا، تلاشت معظم أفكار أرسطو؛ إذ أثبت العلم الحديث أنه أخطأ أكثر مما أصاب.
وقد اعتُبِر هذا النمط من التشابه جزءًا من «سلسلة الوجود العظمى» لعدة قرون، مفسرًا الزيادة التدريجية في التعقيد من الإسفنج والشعاب المرجانية إلى الرخويات إلى الأسماك إلى الزواحف إلى البشر، وغالبًا ما كانت هذه السلسلة تمتد إلى الكائنات الإلهية، من الشيروبيم والسيرافيم إلى الملائكة لرؤساء الملائكة إلى الرب. وبحلول القرن الثامن عشر الميلادي، كانت المدرسة الألمانية للفلسفة («الفلسفة الطبيعية» أو «التاريخ الطبيعي» في الإنجليزية) تمجِّد التناظر بصفته جزءًا من الخطة العظيمة المتمثلة في وحدة الطبيعة (مع صبغة دينية في المعتاد توحي بأنَّ تلك هي مشيئة الرب). لاحظ الشاعر والفيلسوف والباحث الألماني العظيم يوهان فولفجانج فون جوته في عام ۱۷۹٠؛ أنه حتى النباتات تتسم بحالات التناظر؛ إذ ليست بَتَلات الزهور سوى أوراقٍ معدَّلة. وفي عام ۱۸۱۸، نشر عالم الحيوان الفرنسي الرائد إيتيان جوفروا سانت هيلار نظريته عن التماثل، التي افترض فيها أن الهياكل المشتركة بين الفقاريات كلها واحدة. وقد حاول توسيع افتراضه ليشمل اللافقاريات، مما أثار الجدالات الشهيرة مع البارون جورج كوفييه، أعظم علماء التشريح والحفريات في ذلك الوقت، الذي كان يعتقد أنه لا توجد روابط بين الفروع الخمسة العظيمة للطبيعة.
في البداية، لاحظ عالم الأجنَّة الإستوني الشهير كارل إرنست فون باير (انظر الفصل الخامس) أن البنى المتناظرة، كالطرف الأمامي لدى الفقاريات، بدأت من بنًى جنينية مشتركة بين جميع الفقاريات، وبهذا تتبَّع باير جذور التناظر إلى النمو الجنيني. وأخيرًا، في عام ۱۸٤۳، صاغ عالم التشريح والحفريات البريطاني الأسطوري ريتشارد أوين مصطلح «التناظر»، وقد استُخدِم بهذا المعنى منذ ذلك الحين. اعتمدت اختباراته لمعرفة ما إذا كانت أي بنية متناظرة أم لا على ثلاثة أشياء؛ الموضع والنمو والتكوين. ورغم ذلك، فقد ابتكر أوين تفسيراته الخاصة المتفردة للسبب في وجود التناظر، لقد كان التناظر جزءًا من «النموذج الأصلي» الأساسي، أو مخطط الرب لتصميم الكائنات الحية.
واجهت جميع هذه التفسيرات القديمة المزعومة للتناظر المشكلة ذاتها، وهي أنها وصفت التناظر، لكنها لم تفسره في واقع الأمر. ففي معظم الحالات، لا تقدم الأفكار المتمثلة في النماذج الأصلية أو وحدة النمط سوى أنها تُعيد طَرْح ما هو واضح؛ جميع الكائنات لها نمط مشترك للجسد، لكن «سبب» وجود هذا النمط غير معلوم. وفي كثير من الحالات، كان فلاسفة الطبيعة يزعمون أن السبب في وجود هذا النمط المشترك أو النموذج الأصلي؛ أنَّ ذلك هو المخطط الذي وضعه الرب للحياة. لكن هذا الزعم أيضًا ليس بفرضية قابلة للاختبار؛ فالاكتفاء بقول إنَّ «الرب مَن فعل ذلك» لا يسمح بأي نوع من التحليل العلمي، أو أي اختبار لهذه الفكرة. وقد اتضح صحة ذلك تحديدًا عندما أشار فون باير إلى أن التناظر يمتدُّ إلى السلائف الجنينية للأطراف الأمامية.
وإلى هذه الفجوة تقدَّم تشارلز داروين. فمنذ أيام دراسته في جامعتَي إدنبرة وكامبريدج، وهو على دراية بالنقاش الدائر بشأن وحدة النمط، التي أيَّدها فلاسفة الطبيعة في عصره. وكانت هذه المسائل تجول بخاطره، عندما عاد في عام ۱۸۳٦ من رحلة البيجل التي استمرَّت خمس سنوات. ومثلما يتضح من دفاتر ملاحظاته المبكرة، فإن كلًّا من هذه الرحلة وأبحاثه التي لحقتها جعله يشكُّ في أن الأنواع «ثابتة» و«غير قابلة للتغيير» على مدار الزمن. وحالما فتح الباب لفكرة تحول نوعٍ ما إلى نوعٍ آخر، وأن هذا التغيير مدفوعٌ بالانتخاب الطبيعي، أصبح من الممكن تفسيرُ وحدة النمط. فالسبب الكامن وراء التناظر بين أفراد أنواع كثيرة من النباتات والحيوانات هو أن سلَفها المشترك قد تكوَّن على نفس مخطط الجسد، ثم عدَّل الأسلاف ما ورثوه ليلائم وظيفة أخرى.
ومثلما فسَّر الانتخابُ الطبيعي التناظر، فسر التماثل أيضًا. فإذا كان الانتخاب قد دفع الكائنات الحية للتكيف مع بيئتها المحلية، فلا بد أنَّ المجموعات المختلفة ذات الأصول المختلفة، مثل الأسماك والحيتان وطيور البطريق والإكثيوصورات، كانت ستتخذ شكلًا أكثر انسيابية للجسد للتنقُّل عبر الماء بكفاءةٍ أعلى. وستبني الكائناتُ التي أصبحت طيورًا فيما بعدُ أجنحتها مما ورثته عن أسلافها، وهذا هو سبب اختلاف أجنحة الحشرات عن أجنحة الخفافيش والطيور والتيروصورات. لقد رأى داروين نفسه كيف أنَّ مناقير شرشوريات جالاباجوس تحوَّلت لتُشبه مناقير طيور البر الرئيسي التي تنتمي إلى نوعٍ مختلف، وليس ذلك لشيءٍ إلا لأنَّ للمنقارَين وظيفةً مشتركة. فعلى أية حال، إذا أراد مصمِّم إلهي كليُّ القدرةِ خَلْق أجنحة، فلماذا لا يستخدم خطة البناء الأكثر كفاءة نفسها، بدلًا من ارتجال أجنحة من بنًى مختلفة تمامًا؟ واليوم، نسمِّي هذا التطور للبنى المتشابهة في المجموعات التي لا تجمعها صلة قرابةٍ وثيقة باسم «التطور المتقارب».
جسيدة (مقطع من الجسم) | ثلاثيات الفصوص (الترايلوبيتومورفا) | عنكبوت (كُلَّابيات القرون) | مئويات الأرجل (دخداخيات) | حشرة (سداسيات الأرجل) | قريدس (قشريات) |
---|---|---|---|---|---|
۱ | قرون استشعار | الكُلاب القرني (الفكان والأنياب) | قرون استشعار | قرون استشعار | قرون الاستشعار الأولى |
٢ | الأرجل الأولى | اللوامس القدمية | - | - | قرون الاستشعار الثانية |
۳ | الأرجل الثانية | الأرجل الأولى | الفك العلوي | الفك العلوي | الفك العلوي |
٤ | الأرجل الثالثة | الأرجل الثانية | الفك السفلي الأول | الفك السفلي الأول | الفك السفلي الأول |
٥ | الأرجل الرابعة | الأرجل الثالثة | الفك السفلي الثاني | الفك السفلي الثاني | الفك السفلي الثاني |
٦ | الأرجل الخامسة | الأرجل الرابعة | طوق (بدون أرجل) | الأرجل الأولى | الأرجل الأولى |
۷ | الأرجل السادسة | - | الأرجل الأولى | الأرجل الثانية | الأرجل الثانية |
۸ | الأرجل السابعة | - | الأرجل الثانية | الأرجل الثالثة | الأرجل الثالثة |
۹ | الأرجل الثامنة | - | الأرجل الثالثة | - | الأرجل الرابعة |
۱٠ | الأرجل التاسعة | - | الأرجل الرابعة | - | الأرجل الخامسة |
وماذا عن إبرة اللدغ لدى الدبابير والنحل؟ كانت إبرة اللدغ في الأصل جهاز حَقن أنبوبيًّا طويلًا (شبيهة بإبرة تحت الجلد) تُعرَف باسم المسرأ، وتستخدمه أنواع كثيرة من إناث الحشرات لوضع البيض (غالبًا داخل مادة حية أخرى كحشرة أخرى، راجع الفصل الثامن). لكن العديد من الحشرات الاجتماعية للغاية، مثل الدبابير والنحل، لم تعد تستخدمها في وضع البيض. فالنحل العامل، على سبيل المثال، جميعه من الإناث، لكنها إناث لا تستطيع التكاثر؛ لذلك عُدِّل المسرأ الخاص بها إلى إبرة اللدغ. إذا لدغت نحلة عاملة شيئًا ما، فعادة ما تكون تلك مهمة انتحارية لها؛ إذ تتمزق إبرة اللدغ خارجة من بطنها، مما يُنهي حياة النحلة. أما ذكور النحل فلا تنمو لديها إبرة اللدغ على الإطلاق لأنها لا تمتلك الجينات الخاصة بالمسرأ، وهو عضو تناسلي أنثوي.
توجد أمثلة مفاجئة على حالات التناظر في مختلف الكائنات الحية. فأنت الآن مثلًا، تسمع من خلال العظام الثلاثة الموجودة في أذنك الوسطى؛ المطرقة والسِّندان والرِّكاب. تعمل هذه العظام على توصيل الأصوات من اهتزازات طبلة الأذن، إلى لوح الضغط الموجود في نهاية الأنبوب الملفوف الطويل في أذنك الداخلية (القوقعة)، والتي تحوِّل هذه الاهتزازات من الشعيرات الصغيرة في السائل إلى صوت في دماغك. لكن كيف تطور هذا التنظيم الأخرق وغير الفعَّال؟ عندما كنت جنينًا، كان كلٌّ من المطرقة والسندان جزءًا من المفصل الواقع بين الجمجمة والفكَّين، وقد انتقلا إلى أذنك الوسطى خلال نُموِّك الجنيني. كان السندان في الأصل هو العظمة المربعة في مؤخرة الجمجمة، والتي كانت متصلةً بالعظمة الزاوية (= المطرقة) الموجودة في مؤخرة الفك.
يمكننا ذكر العديد من الأمثلة الأخرى للأعضاء المتناظرة المدهشة، لكن ما يهمنا أن نتذكر الصورة الكبرى، وهي أنَّ حالات التناظر علامة واضحة على التطور من سلَف مشترك، عبر مسار جنيني مشترك. وليس من الممكن تفسير الأعضاء المتناظرة بفكرة وحدة النمط، أو النماذج الأصلية السابقة على الداروينية. ذلك أنَّ هذه الأعضاء دليل واضح على تعديل التطور لما يمتلكه الجنين بالفعل لإنتاج بنية مختلفة. صحيحٌ أنها لم تُصمَّم بكفاءة أو بشكل جيد، لكن هذا يتفق مع فكرة أن الطبيعة تستخدم ما لديها بالفعل من أشكال مستمَدة من الأسلاف لإنتاج بنًى جديدة. ومنذ صدور كتاب داروين قبل ١٦١ عامًا، اكتشفنا المزيد من الأمثلة على هذه العملية الخرقاء وغير الفعالة، وعرفنا التفسير الجيني والجنيني لكيفية حدوثها وسببه. لقد قطعنا شوطًا طويلًا منذ زمن داروين، وصار دليل التطور المستنِد إلى التناظر أقوى مما كان عليه في زمن داروين.
قراءات إضافية
-
Carroll, Sean, Endless Forms Most Beautiful: The New Science of Evo Devo, New York: Norton, 2005.
-
______, The Making of the Fittest: DNA and the Ultimate Forensic Record of Evolution, New York: Norton, 2006.
-
Fitch, Walter M., “Homology: A Personal View on Some of the Problems,” Trends in Genetics 16, no. 5 (2000): 227–231.
-
Hall, Brian, Homology, Novartis Foundation Symposium, 2008.
-
Mindell, David P. and Axel Meyer, “Homology Evolving,” Trends in Ecology and Evolution 16, no. 8 (2001): 434–440.
-
Panchen, Alec L., “Homology: History of a Concept,” In Homology, ed. Gregory R. Bock and Gail Cardew, 5–18, Chichester, UK: Wiley, 1999.
-
Scotland, Robert W., “Deep Homology: A View from Systematics,” BioEssays 32, no. 5 (2010): 438–449.
-
Wagner, Günter, Homology, Genes and Evolutionary Innovation, Princeton, N.J.: Princeton University Press, 2014.
-
Zakany, Jozsef and Denis Duboule, “The Role of Hox Genes During Vertebrate Limb Development,” Current Opinion in Genetics & Development 17, no. 4 (2007): 359–366.