شجرة الحياة المتفرعة
الرب خلق، لكن لينيوس صنَّف.
عرف الإغريق القدماء مثل أرسطو ما يقرب من ٥٥٠ نوعًا مختلفًا من الحيوانات. وقد حاولوا فَهْم طبيعة هذه الحيوانات، وصمَّموا مخططاتٍ لتجميع الكائنات المتشابهة معًا وتصنيفها. قام بعضهم بتجميع الكائنات الحية بناءً على خصائص يُفضِّلها البشر (جيدة للأكل، أو تؤكل فقط للضرورة القصوى، أو غير صالحة للأكل، أو سامة)، وقام بعضهم بتجميعها بناءً على خصائص بيئتها (فمعظم حيوانات المحيط، على سبيل المثال، كانَت تندرج تحت فئة «الأسماك»، بما في ذلك «نجم البحر» و«المحار» والحيتان). وبحلول أوائل القرن الثامن عشر الميلادي، وُضِعت الأنواع المعروفة من النباتات، والتي يزيد عددها عن ٦٠٠٠، وتلك المعروفة من الحيوانات، والتي كان يبلغ عددها ٤٢٠٠ نوع، في مخطَّطات تصنيفية مشوَّشة ومتضاربة كان قد اقترحها مؤرخو الطبيعة. معظم هذه التصنيفات كانت عشوائيةً وأبعد ما تكون عن واقع الطبيعة (على سبيل المثال، وُضِعت الأسماك الطائرة والطيور معًا لأن كليهما يطير، ووُضِعت السلاحف وحيوانات الأرماديللو معًا لأنَّ كِلا النوعين يمتلك دروعًا واقية)، وكان لكل شخص مخططه المفضل.
وفي نهاية المطاف، سادت طريقة التصنيف التي اقترحها عالم النبات السويدي كارل فون ليني، المعروف لنا باسمه اللاتيني كارولوس لينيوس (كان جميع العلماء في عصره يكتبون باللاتينية). بصفته عالم نبات، أدرك لينيوس أن معظم الخصائص الجوهرية والتشخيصية للنباتات توجد في تراكيبها التناسلية، ولا سيما في أزهارها. نُشر «نظامه الجنسي» لتصنيف النباتات عام ۱۷٥٢ في كتاب عنوانه «أنواع النباتات»، وقد تسبَّب في فضيحةٍ آنذاك بسبب ما به من إشارات جنسية. غير أنَّ هذا النظام تفوق أخيرًا على جميع الأنظمة المنافسة؛ لأن الزهور مفيدة في تحديد العلاقات الحقيقية للنباتات المزهرة أكثر من الأوراق أو السيقان بالطبع. اتخذ لينيوس نهجًا مماثلًا مع الحيوانات باستخدامه البنى الأساسية (مثل الشعر والغدد الثديية في الثدييات) بدلًا من البنى السطحية (مثل الطيران أو الدروع). نُشرت الطبعة الأولى من كتابه «نظام الطبيعة: مملكة الحيوان» في عام ۱۷۳٥، والآن تُعتبر طبعته العاشرة (۱۷٥۸) نقطة الانطلاق للتصنيف الحديث.
لقد عُرِف عن الكائنات العضوية — منذ أقدم عصور التاريخ — أنَّها تتشابه بعضها مع بعض بدرجات تنازلية، بحيث يمكن تصنيفها في مجموعات داخل مجموعات. وهذا التصنيف ليس اعتباطيًّا مثل مجموعات النجوم في الكوكبات. وربما كان لوجود هذه المجموعات دلالةٌ بسيطة لو أنَّ إحداها مثلًا كانت مهيَّأةً للعيش على اليابسة حصريًّا، وأخرى في المياه؛ وكانت إحداها مهيَّأةً لتتغذَّى على اللحوم، وأخرى على النباتات، وما إلى ذلك، لكن الواقع شديد الاختلاف؛ إذ نعلم جيدًا كيف أنَّ الكائنات المنتمية للمجموعة الفرعية نفسها تتبع عادات مختلفة في كثيرٍ من الأحيان. يسعى علماء الطبيعة إلى ترتيب الأنواع والأجناس والفصائل في كل طائفةٍ بناءً على ما يُسمى بالنظام الطبيعي. لكن ما المقصود بهذا النظام؟ يرى بعض الكُتاب أنه ليس سوى مخطط لترتيب تلك الكائنات الحية الأكثر تشابهًا معًا، وفصل تلك الأقل تشابهًا. يعتقد العديد من علماء الطبيعة أن المقصود بالنظام الطبيعي شيءٌ أبعد من ذلك، ألا وهو أنه يكشف عن مخطَّط الخالق. وأنا أعتقد أن الرابط الذي يتضح جزئيًّا من خلال تصنيفنا هو تشارُك جميع الكائنات العضوية في النَّسب، وهو أيضًا السبب الوحيد المعروف للتشابه الوثيق بينها.
على الرغم من أن لينيوس لم يكن ينوي تقديم أدلة على التطور، فقد صار مخططه التصنيفي بعد قرن من الزمان أحد أفضل حُجج داروين. فكما كتب ستيفن جاي جولد في عام ٢٠٠٠:
يحدد مخطط لينيوس التصنيفي تسلسلًا هرميًّا للمجموعات متداخلًا بدقة، بدءًا من النوع باعتباره أصغر وحدة تندرج تحت مجموعات أكبر على نحو مُتتالٍ (الأنواع داخل الأجناس، داخل الفصائل، داخل الرُّتَب، وما إلى ذلك). إن مثل هذا التسلسل الهرمي المتداخل يشير إلى وجود شجرة متفرعة واحدة لها جذع مشترك، يتفرع إلى تقسيماتٍ أدقَّ وأدق من أغصان وأطراف وفروع وغُصينات. ويتصادف أنَّ هذا الشكل الشبيه بالشجرة يُعبِّر عن فرضية مفادها أن العلاقات المتبادلة بين الكائنات الحية توثِّق تسلسلًا هرميًّا للأنساب قد تشكَّل عبر التفرع التطوري. وبهذا، فإنَّ نظام لينيوس يجسد السببية في عالم داروين. لقد تصادف فحسب — لحسن الحظ — أن تفسير لينيوس الخلقي كان يشير إلى بنية أمكن ترجمتها بسهولة إلى المصطلحات التطورية لبيولوجيا داروين الجديدة. (۱۸)
وبهذا، غيَّر داروين من أهداف التصنيف. لم يعُد محض نظام اعتباطي لترتيب الكائنات وتنظيمها، حتى وإن كان جيدًا. أصبح للتصنيف آنذاك معنًى تطوريٌّ أيضًا، وكان علماء التصنيف يحاولون تشكيل مجموعات طبيعية تعكس التاريخ التطوري. وصحيح أن هذه الأهداف ليست متناقضة، لكنها لا تتفق على الدوام أيضًا. فبعض علماء التصنيف يرَون أنَّ الكائنات الحية التي تتشابه في أصلها وفي بيئاتها، مثل الأسماك، تشكِّل مجموعة رسمية؛ «السمكيات». لكن الأسماك لا تتساوى كلها من الناحية التطورية. فالأسماك الرئوية على سبيل المثال، تتشارك مع الفقاريات الأرضية ذات الأرجل الأربع (رباعيات الأرجل) في سلفٍ أكثر حداثةً مقارنة بسلفها المشترك مع سمك القرش أو التونة. وهو ما يعني بعبارةٍ أخرى أن السمكة الرئوية والبقرة أكثر قربًا من السمكة الرئوية والتونة. نرى في هذا المثال تضاربًا واضحًا بين التجميعات القائمة على البيئة، مثل «الأسماك»، والمجموعات التطورية، مثل مجموعة الأسماك الرئوية-رباعيات الأرجل (المعروفة باسم لحميات الزعانف). أيهما أفضل؟ لقد أدَّت الأولويات المختلفة والأهداف بخبراء التصنيف إلى الكثير من الجدل بشأن الطرق المناسبة للتصنيف. والحق أنَّ هذا الجدال لا يزال محتدمًا إلى اليوم. يزعم بعض علماء التصنيف بأن الأهم في التصنيف هو السهولة والملاءمة، وهم يفضلون استخدام مجموعة «السمكيات» لتشمل جميع الأسماك، على الرغم من أن الأسماك الرئوية لا ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالأسماك العظمية الأخرى. ويصرُّ آخرون على أن التصنيف يجب أن يعكس تطور السلالات أو التاريخ التطوري. وبناءً على هذا النهج، توضع السمكة الرئوية في مجموعةٍ تشتمل أيضًا على البرمائيات، وليس مع الأسماك العظمية أو أسماك القرش الأخرى؛ لأن هذا التصنيف هو ما يعكس علاقة هذه الكائنات بعضها ببعض.
وفي وقتٍ ما، كانت فصيلة البونجيدات تمثِّل المجموعة الرسمية للقردة العليا (الشمبانزي، والغوريلا، وإنسان الغاب، والجيبون)، وكانت هناك مجموعةٌ أخرى ذات رتبةٍ مساوية للإنسان (فصيلة البشرانيات). فبسبب غطرستنا واعتقادنا بمركزية الإنسان، أصررنا — نحن البشر — على أننا ننتمي إلى فصيلة خاصة بنا منفصلة عن أقاربنا من القردة. لكن البشر تطوروا من القردة، ولم يكن للبونجيدات أيُّ معنًى سوى أنها مجموعةٌ اعتباطيةٌ تضم القردة دون البشر. واليوم، اختفَت البونجيدات من التصنيفات، واتسعت فصيلة البشرانيات لتشمل جميع أقربائنا من القردة.
لكنَّ أيًّا من هذه الحُجج لا يغيِّر حقيقةَ أن جميع التصنيفات تجسِّد نمطًا متفرعًا ومتداخلًا وهرميًّا. كل ما هنالك أن الاختلاف يكمن فيما إذا كان من المفترض أن تجسِّد مخططات التصنيف هذا النمط بدقة، أم تكون مزيجًا من العوامل البيئية (مثل تسمية جميع الفقاريات التي تسبح «الأسماك»، أو تخصيص طائفة محددة («الطيور») للفقاريات من ذوات الريش) وتطوُّر السلالات. على مدار الأعوام الخمسين الماضية، كان التوجُّه العامُّ هو أن تكون التصنيفات انعكاسًا صارمًا للتاريخ التطوري؛ ومن ثم تلاشى العديد من المجموعات التقليدية (مثل السمكيات) تدريجيًّا.
إن مخططات التصنيف التي وضعها لينيوس وعلماء التصنيف اللاحقون، والتي استخدمها داروين وآخرون، كانت تستند إلى السمات التشريحية المرئية فحسب للحيوانات والنباتات. ولاحقًا، أُضيفَ التحليل المجهري للأنسجة والأعضاء إلى أدلة التصنيف؛ مما أدى إلى تنقيتها بدرجة أكبر. وقد ساعد اكتشاف الحفريات في تسليط الضوء على الماضي التطوري للحيوانات والنباتات المختلفة، وأَظهر كيفية تغيُّرها عبر الزمن. غير أنَّ لينيوس لم يدرك، ولا داروين ولا أي عالم تصنيف قبل ستينيات القرن العشرين، أن هناك مستوًى إضافيًّا من المعلومات في الكائنات الحية يمكن أن يختبر فرضياتهم عن العلاقات، ألا وهو علم الأحياء الجزيئي.
فكِّر في الأمر للحظة. يتنبَّأ التطور بأن السمات التشريحية (المرئية والمجهرية والجزيئية) تعكس نمطًا متداخلًا من التشابه، وتُنتِج نمطًا من العلاقات يشير إلى شجرة الحياة الكثيفة والمتفرعة. وثَّق لينيوس ذلك على المستوى العياني، واستخدم داروين أدلةً طبيعيةً قوية لإثبات أن الحياة قد تطورت. إذا كانت الحياة قد خُلِقت بشكلٍ مميزٍ ولم تتطور، فلن يكون هناك سببٌ لأن تعكس الأنظمة الجزيئية هذا النمط من التشابه المنظور في السمات العيانية. على سبيل المثال، يمكن أن تكون الأنظمة الجزيئية قد خُلِقت بحيث يكون لجميع الحيوانات التي تعيش في موئل معين (على سبيل المثال) نفس الأنماط الجزيئية، لإنماء الأعضاء اللازمة في هذا الموطن. يمكن مثلًا أن تكون لجميع الفقاريات المائية من الأسماك إلى طيور البطريق إلى الحيتان والدلافين أنظمةٌ جزيئية متطابقة؛ لأنها تعيش في الماء وتحتاج إلى القيام بأشياء معينة، تمامًا كما أن شكل جسمها الخارجي انسيابيٌّ بغرض السباحة، ولديها جميعًا زعانف للسباحة كذلك.
لكن داروين نفسه لم يكن ليحلم بأن الشفرة الجينية لكل خلية في جسمك سوف تُظهِر الدليل على التطور. إن نمط التشابهات الجزيئية يضع الحيتان بالفعل مع الثدييات الأخرى (وتحديدًا فرس النهر)، والبطريق مع الطيور، والأسماك بعيدة كل البعد عن أيٍّ منهما، تمامًا مثلما كان تحليل أعضائها الداخلية، فيما لا يتعلق بالسباحة وتشريحها، يضعها على الدوام. اتضح هذا لأول مرة عندما طُوِّرت القدرة على الكشف عن جزيئاتٍ بعينها، مع اختراع تقنية الرحلان الكهربائي الهلامي في خمسينيات القرن الماضي. تُعَد هذه التقنية إحدى أبسط تقنيات علم الأحياء الجزيئي وأولها وأقلها تكلفة، وهي تُستخدم منذ فترة طويلة للكشف عن وجود بروتينات معينة. في هذه التقنية، يوضع تركيز من البروتينات في عددٍ من الآبار في نهاية رقاقةٍ مصنوعةٍ من الهلام، ثم يُمرَّر مجال كهربائي على الهلام. تتحرك الأحماض الأمينية المختلفة بمعدلات مختلفة في المجال الكهربائي (تتحرك الجزيئات الصغيرة أسرع من الجزيئات الأكبر)؛ لذلك فهي «تتسابق» بسرعات مختلفة عبر الهلام خلال سريان المجال الكهربائي. وفور إيقاف تشغيل المجال، يُصبَغ الهلام، ويظهر الموضع النهائي لكل حمض أميني في المسار الخاص به على شكل شريط معتم.
تعطي تقنية الرحلان الكهربائي للهلام فكرة تقريبية عن الأحماض الأمينية والبروتينات الموجودة في العينة، رغم أنها ليست دقيقة بما يكفي لتحديد التسلسل مثل بعض الطرق الأخرى التي سنذكرها لاحقًا. لكن الميزة الرئيسية للرحلان الكهربائي أنه رخيص نسبيًّا، وقد استُخدم على نطاق واسع في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، حين كانت تلك هي التقنية الوحيدة المتاحة. واستُخدم على نطاقٍ واسعٍ أيضًا لتحديد كفاءة الإنزيمات، والتنوع الجيني للمجموعات الطبيعية، وتدفق الجينات وتهجينها، وللتعرف على حدود الأنواع، ولتحديد العلاقات بين السلالات.
ومن الطرق الأخرى التي شاعت في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين؛ قياسُ المسافة المناعية. فمعظم الحيوانات تُنتِج أجسامًا مضادة تتفاعل مع المواد الغريبة (المستضدات)، وهي جزء من الحماية التي يوفرها جهاز المناعة ضد الأمراض والعدوى. عندما تُخلَط الأجسام المضادة من كائنَين، فإنَّ قوة التفاعل المناعي الملاحَظ تزداد كلما زاد الشبه بين اثنين من البروتينات في تسلسلهما الجيني. من خلال تقنية تُسمى تثبيت المتممة الدقيقة، توضع كميات صغيرة من الأجسام المضادة للعديد من الحيوانات المختلفة في آبار في هلام. يمكن ملاحظة التفاعل بين الأجسام المضادة في رقاقتَين مختلفتَين من الهلام، وهذا التفاعل يعطي مقياسًا شبه كَمي لدرجة التشابه. توفر هذه الطريقة قيمة تقريبية للتشابه الجيني بين كائنَين أو أكثر، ولكنها كانت تُستخدم على نطاق واسع في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، عندما لم تكن هناك طرقٌ أخرى متاحة. أما الآن، فقد استُبدِل بهذه التقنية أيضًا التحليل المباشر للحمض النووي.
أما الطريقة التي أمكننا لأول مرة من خلالها قياس الاختلافات والتشابهات بين الحمض النووي، من صنفَين مختلفَين من الكائنات الحية بشكلٍ مباشر، فهي تهجين الحمض النووي. إذا قمتَ بغلي محلول من الحمض النووي في ماء أكثر سخونة من ۱٠٠ درجة مئوية (٢۱٢ درجة فهرنهايت)، فسوف ينفصل شريطا الجزيء. وعندما يبرد المحلول، تسعى الأشرطة الفردية إلى الاندماج مجددًا مع أشرطتها المتطابقة معها تمامًا. لكنك إذا صنعت مزيجًا من الحمض النووي من كائنَين مختلفَين، فستتَّحد بعض أشرطة الحمض النووي لأحد الكائنَين مع الأشرطة المكملة لها من الحمض النووي للكائن الآخر، لتشكيل الحمض النووي الهجين. يُعاد تسخين الخليط بعد ذلك، مما يؤدي إلى تفكك الحمض النووي مرة أخرى. وكلما زادت درجة التشابه بين الشريطين، كانا أكثر ارتباطًا أحدهما بالآخر، مما يستلزم درجة حرارة أعلى لتفكيكهما. أما أشرطة الحمض النووي التي تعود لكائنَين أبعد في الصلة، فهي أقل تشابهًا وأقل تماسكًا، وستتفكَّك عند درجات حرارة أكثر انخفاضًا.
استُخدِمت تقنية تهجين الحمض النووي على نطاقٍ واسعٍ للغاية، في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، لمعرفة نسبة تشابه الحمض النووي لدى كائنَين مختلفَين. وقد كشفت هذه التقنية عن بعض الأشياء المذهلة، مثل أن البشر والشمبانزي يتشاركون في نسبةٍ تتراوح بين ۹۸ إلى ۹۹ بالمائة من حمضهم النووي (سنناقش ذلك في الفصل الثاني والعشرين). وفي عام ۱۹۸۳، استُخدِمت تقنية تهجين الحمض النووي؛ لإعادة ترتيب سلالاتٍ للطيور وتصنيفها بالكامل. ومع ذلك، فإن هذه التقنية لا توفر من المعلومات بقدر ما توفر تقنية سلسلة الحمض النووي المباشر؛ لأنها لا تعطينا سوى تقديرٍ شبه كَمي للتشابه، لا التسلسل الفعلي للحمض النووي قاعدةً بقاعدة.
وفي نهاية المطاف، ستكون الطريقة الأفضل لتحديد التشابه الجزيئي هي تحديد التسلسل المباشر للحمض النووي نفسه. ولا تزال هذه الطريقة هي المفضَّلة منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، وهي في طليعة تقنيات علم الأحياء الجزيئي؛ لأنها تُتيح للباحثين تحديد كل زوجٍ قاعديٍّ على طول شريط الحمض النووي (من التسلسل الجيني الكامل للنواة إلى الجينومات المستقلة للعُضَيات، مثل الميتوكوندريا والبلاستيدات الخضراء)، مما يتيح لهم مقارنة تسلسل الجينات بشكل مباشر. حتى تسعينيات القرن الماضي، كان الحصول على كمية كافية من الحمض النووي للقيام بهذا الإجراء صعبًا وبطيئًا وبالغ التكلفة. غير أنَّ اكتشاف طريقة الإكثار من الحمض النووي بواسطة تفاعل البوليميراز المتسلسل (بي سي آر) قد أحدث ثورة في علم الوراثة الجزيئية، مما أتاح توليد مئات النسخ من شريطٍ واحدٍ من الحمض النووي بتكلفةٍ رخيصةٍ وبسرعة. إن العديدَ من التطورات الجديدة التي تحدث في علم الوراثة ناتجٌ عن سلسلة الحمض النووي، وقد قام مشروع الجينوم البشري، الذي تُقدَّر تكلفته بملايين الدولارات، بتجميع الشفرة الكاملة لكل جين في جسم الإنسان في عام ٢٠٠٠ (بالتزامن مع مختبر كرايج فينتر ذي التمويل الخاص، شركة «سيليرا جينومكس»). خلال العقود الماضية، توصَّل العلماء إلى تسلسل الحمض النووي لمئات الكائنات الحية بالكامل، بدايةً من البكتيريا والديدان الخيطية (الربداء الرشيقة)، وحتى العديد من الثدييات المختلفة والعديد من الرئيسيات، بما في ذلك جميع القردة العليا، والعديد من البشر أيضًا.
سواء نظرتَ إلى التسلسل الجيني للحمض النووي للميتوكوندريا، أو الحمض النووي للنواة، أو السيتوكروم سي، أو بروتين الألفا كريستالين الموجود في عدسة العين، أو أي جزيء حيوي آخر؛ فستجد أن الدليل واضح، تتَّسم الجزيئات بنمط التشابه الهرمي المتداخل نفسه الذي يكشف عنه التشريح الخارجي. فجزيئاتنا شديدة الشبه مع تلك الموجودة لدى أقرب أقربائنا؛ القردة العليا، ويقل هذا التشابه تدريجيًّا مع تلك الكائنات الأقل قربًا لنا. لقد وجدنا الدليل على التطور في كل خلية في أجسادنا.
قراءات إضافية
-
Conniff, Richard, The Species Seekers: Heroes, Fools, and the Mad Pursuit of Life on Earth, New York: Norton, 2010.
-
Cracraft, Joel and Michael J. Donoghue, eds., Assembling the Tree of Life, New York: Oxford University Press, 2004.
-
Eldredge, Niles and Joel Cracraft, Phylogenetic Patterns and the Evolutionary Process, New York: Columbia University Press, 1980.
-
Felsenstein, Joseph, Inferring Phylogenies, Sunderland, Mass.: Sinauer, 2004.
-
Gould, Stephen Jay, “Linnaeus’s Luck,” Natural History 109, no. 7 (2000): 18–21.
-
Hillis, David M. and Craig Moritz, eds., Molecular Systematics, Sunderland, Mass.: Sinauer, 1990.
-
Lecointre, Guillaume and Hervé Le Guyader, The Tree of Life: A Phylogenetic Classification, Trans. Karen McCoy, Cambridge, Mass.: Belknap Press of Harvard University Press, 2006.
-
Mayr, Ernst, Principles of Systematic Zoology, New York: McGraw-Hill, 1966.
-
Nei, Masatoshi and Sudhir Kumar, Molecular Evolution and Phylogenetics, New York: Oxford University Press, 2000.
-
Page, Roderick D. M. and Edward C. Holmes, Molecular Evolution: A Phylogenetic Approach, Oxford: Blackwell Science, 1998.
-
Patterson, Colin, ed., Molecules and Morphology in Evolution: Conflict or Compromise? Cambridge: Cambridge University Press, 1987.
-
Simpson, George Gaylord, Principles of Animal Taxonomy, New York: Columbia University Press, 1961.
-
Yoon, Carol Kaesuk, Naming Nature: The Clash Between Instinct and Science, New York: Norton, 2010.