أدوات ارتجالية
فقط من خلال هذا العرض للأدوات، يتجلَّى وجود الرب وفعاليته وحكمته بالبرهان لمخلوقاته العقلانية. هذه هي الوسيلة التي نصل من خلالها إلى جميع ما نمتلكه من معارف عن خالقنا — بحسب ما تستند إلى ظواهر الطبيعة — أو ما يتجلى فيها من أعمال … ففي بنية الأدوات واختيار الوسائل وتكييفها يتجلى لنا وجود ذكاء إبداعي. وهذا هو ما يشكِّل نظام الكون وجماله.
لا أعتقد أنَّ عملًا أثار إعجابي أكثر من كتاب «اللاهوت الطبيعي» لبايلي. كان بإمكاني تقريبًا أن أسرده عن ظهر قلب.
منذ كتاب روبرت بويل «بحث في العِلل الغائية للأشياء الطبيعية» عام ۱٦۸۸، وكتاب «تجليات حكمة الرب في خلقه» لجون راي عام ۱٦۹۱، شَهدَت المناطقُ المتدينة من أوروبا تقليدًا امتدَّ على مدار قرن من الزمان، يتمثَّل في الإشارة إلى ما يتسم به «تصميم» الطبيعة من جمالٍ وتناغمٍ وتعقيد، بصفتها أدلة على صنع الرب. لقد كان العديد من المؤرخين الطبيعيين من رجال الدين أيضًا بالفعل، وكانوا يرَون أنَّ دراسة التاريخ الطبيعي وسيلةٌ لفَهْم عقل الخالق بشكل أفضل. ومثلما رأينا في الفصل الثامن، كان أشهر مؤيدي اللاهوت الطبيعي هو القس ويليام بايلي الذي كتب كتاب «اللاهوت الطبيعي» عام ۱۸٠٢، وهو الكتاب الذي يُنظَر إليه على أنه المعالجة الكلاسيكية لهذه المسألة.
وفي أثناء تطور أفكار داروين لدى عودته من رحلته حول العالم على متن سفينة البيجل، تذكر قراءته لبايلي تلقائيًّا. بالرغم من ذلك، كانت دراسته الدقيقة للتاريخ الطبيعي (خاصة البرنقيل، الذي درسه حتى أصبح الخبير العالمي فيه) توضح له الحجة المضادة المثالية لبايلي. صحيح أنَّ كلًّا من جمال الطبيعة وتعقيدها كان جليًّا في مواضع عِدَّة، لكن ما كان جليًّا أيضًا هو أدلة على «أدوات» لم تكن مثاليةً أو على أكمل وجه، بل «ارتجالية» لتُفيد الكائن بما يكفي فقط لأن يعيش ويترك ذريةً في الجيل القادم. فالطبيعة لا تستلزم الكمال، وهو ما أدركه داروين وعلماء الأحياء اللاحقون. إنَّ ما يلزم هو التكيف مع الظروف المحلية، ولا يلزم حتى أن يكون تصميم الكائن الحي مثاليًّا لضمان بقائه على قيد الحياة. علاوةً على ذلك، بمجرد أن يتكاثر الكائن الحي بنجاح، لا يعود هناك أي ضغط انتخابي عليه (ما دام لا يتعين على الوالدين تربية الذرية حتى الجيل التالي). فأنواعٌ عديدةٌ (معظم اللافقاريات والأسماك) تتزاوج وتضع بيضها ثم تموت على الفور، وهذا هو كل ما يتطلبه الانتخاب الطبيعي. فالحلول الارتجالية غير المثالية لمشاكل الحياة تُعتبَر جيدةً بما يكفي ما دام الكائن الحي قادرًا على التكاثر بنجاح.
ركَّز داروين على هذه الأدوات الارتجالية غير المثالية الموجودة في الطبيعة، والتي بدا أنها تشير إلى وجود مصمِّم أخرق أو مهمل، لكنها تتَّسق مع فكرة أن الطبيعة لا تتطلَّب الكمال. الحل الفعال بما يكفي للبقاء والتكاثر كافٍ. كان داروين نفسه يدرك مدى أهمية توضيح حجته؛ ولهذا لم يكن كتابه التالي بعد كتاب «أصل الأنواع» في عام ۱۸٥۹ عن مسألة تطور البشر المثيرة للجدل (الحق أنه لم يتطرق إلى هذا الموضوع حتى عام ۱۸۷۱)، بل كان عن الإخصاب المتبادل بين أزهار الأوركيد.
صحيحٌ أن عضوًا ما من الممكن ألَّا يكون قد تشكَّل بالأساس لغرضٍ محدد، لكنه إذا كان يخدم هذا الغرض الآن، فلدينا ما يبرِّر القول بأنه مصمَّم خصوصًا لهذه الغاية. ووفقًا للمبدأ نفسه، إذا صنع شخصٌ ما آلةً لغرض معين، لكنه استخدم عجلاتٍ ونوابض وروافع قديمة، مع تعديلٍ طفيف فقط، يمكن القول إن الآلة بأكملها، بجميع أجزائها، قد ابتُكِرت خصوصًا من أجل ذلك الهدف. وفي جميع أنحاء الطبيعة أيضًا، الأرجح أنَّ الغالبية العظمى من أجزاء جميع الكائنات قد أدَّت أغراضًا متنوعة، في حالة معدَّلة قليلًا، وكان لها دورٌ في تسيير حياة العديد من الأنواع القديمة والمحددة.
وقد كتب ستيفن جاي جولد في نوفمبر ۱۹۷۸ في مقال بمجلة «نيو ساينتست» تحت عنوان «إبهام الباندا ومصيدة الأوركيد» يقول:
شكلت زهور الأوركيد تحالفًا مع الحشرات. لقد طوَّرت مجموعةً مذهلة من «الأدوات» لجذب الحشرات، ولضمان أن حبوب اللقاح اللزجة تلتصق بالزائر، وأنَّ حبوب اللقاح المرفقة ستلامس الأجزاء الأنثوية من زهرة الأوركيد التالية التي تزورها الحشرة.
إن كتاب داروين هو خلاصة وافية لهذه الأدوات، وهو المكافئ النباتي للكتب الرمزية التي استخدمت الحيوانات موضوعًا لها. وعلى غرار هذه الكتب الرمزية التي راجت في العصور الوسطى، وُضِع كتاب داروين ليكون مرشدًا. وصحيحٌ أنَّ الرسالة التي يقدِّمها متناقضة، لكنها عميقة. إن زهرة الأوركيد تصنع أدواتها المعقَّدة من المكونات المعتادة للزهور، وعادة ما تكون أجزاء ملائمة لوظائف متباينة للغاية. إذا كان الرب قد صمَّم آلةً جميلةً لتعكس حكمته وقوته، فمن المؤكد أنه لم يكن ليستخدم مجموعة من أجزاء مصممة بشكل عام لأغراض أخرى. ليست أزهار الأوركيد من صنع مهندسٍ مثالي، بل ارتُجِلت من مجموعةٍ محدودةٍ من المكونات المتاحة. وبناءً على هذا، فلا بد أنها تطورت من زهور عادية.
المفارقة إذن هي أنَّ مراجعنا العلمية تفضِّل عَرْض التطور من خلال أمثلةٍ على التصميم الأمثل؛ تنكُّر فراشة في هيئة ورقة شجر ميتة، أو تنكُّر نوعٍ سام على هيئة نوعٍ قريب مستساغ. لكن التصميم المثالي حجةٌ رديئةٌ للتطور؛ إذ إنها تحاكي الفعل المفترض لخالق كليِّ القدرة. إن الترتيبات العجيبة والحلول الغريبة هي الدليل على التطور، تلك الطرق لا يمكن لإله عاقل أن يسلكها أبدًا، لكن عملية طبيعية مقيدة بالتاريخ تتبعها بحكم الضرورة. وما من أحدٍ قد فهم ذلك أفضل من داروين. (۷٠٠)
لقد شكَّل كتاب كامل عن أزهار الأوركيد أفضل مثال قدَّمه داروين عن الكائنات الارتجالية، التي عدَّلت البنية التشريحية التي كانت متاحةً لديها لاستخدامها في أغراضٍ جديدةٍ تمامًا. وعلى الرغم من ذلك، يمكن مضاعفة مثل هذه الأمثلة إلى ما لا نهاية. ثمة ثلاثة أمثلة معروفة جيدًا لأنها نُوقِشت كثيرًا، وقد ناقشها ستيفن جاي جولد تحديدًا عدة مرات.
يعيش حيوان الباندا معظم الوقت في جبال الصين العالية. إنه أكبر من أن يهدده معظم الحيوانات المفترسة، وهو يأكل مئات الأرطال من سيقان الخيزران كل يوم، من ۱٢ إلى ۱٤ ساعة في اليوم. يمسك سيقان الخيزران في كفوفه وينزع الأوراق عن طريق تحريك الساق بين كفوفه وبين ما يبدو أنه إبهام. إن إبهامه الحقيقية صغيرة ومدمَجة في الكف؛ ولهذا طُوِّرت عظمة في الرُّسْغ تُعرَف باسم العظمة السمسمية الشعاعية، لتكون بمثابة «إصبع سادسة» له. إنها «إبهام» ارتجالية تفيد بالدرجة الكافية في تجريد الأوراق من سيقان الخيزران. لا شك أنها لا تضاهي الإبهام المقابلة التي توجد لدى الرئيسيات في المرونة والقوة والفائدة، لكن ذلك ليس ضروريًّا؛ فكل ما تحتاج إليه الباندا هو أداةٌ لتجريد الأوراق. توضح هذه الأمثلة أن مفتاح فَهْم الطبيعة ليس في كمالها، بل في الحلول المؤقتة والأدوات الارتجالية التي تبين لنا أن الكائنات الحية لا تحتاج إلى أن تكون مثالية التصميم، بل تحتاج فقط إلى أن تكون جيدةً بما يكفي للبقاء على قيد الحياة، ولتَرْك ذُرية.
في مقال صدر عام ۱۹۷۸ بعنوان «إبهام الباندا ومصيدة الأوركيد»، كتب جولد عما وجده عالم التشريح دي دوايت ديفيس عندما درس حيوان الباندا العملاق، يقول:
كما هو الحال مع العظمة السمسمية الشعاعية، فإن هذه العضلات لم تنشأ من لا شيء، بل هي — على غرار أوركيد داروين — أجزاء مألوفة تشريحيًّا أعيدَ تشكيلها لوظيفة جديدة. تحمل العضلةُ المُبعِدة للعظمة السمسمية الشعاعية (العضلة التي تسحبها بعيدًا عن الأصابع الحقيقية) الاسمَ الهائل إم أبداكتور بوليسيس لونجس (العضلة الطويلة المُبعِدة للإبهام). وهو اسم يدل على وظيفتها. في آكلات اللحوم الأخرى، تكون العضلة متصلة بالإصبع الأولى، أو الإبهام الحقيقية …
هل يعطينا تشريح آكلات اللحوم الأخرى أي دليل على أصل هذا الترتيب الغريب في الباندا؟ يشير ديفيس إلى أن حيوانات الدببة العادية والراكون — وهي أقرب أقرباء الباندا العملاقة — تتفوق على جميع آكلات اللحوم الأخرى في استخدام أرجلها الأمامية للتحكم في الأشياء وهي تتغذى عليها. اعذروني على تقديم التشبيه عكسيًّا، لكن الباندا قد حصَلت — بفضل أسلافها — على بعض الدعم بالفعل لتطوير درجة أكبر من البراعة في تناول الغذاء. علاوةً على ذلك، فللدببة العادية بالفعل عظمة سمسمية شعاعية متضخمة قليلًا. وفي معظم آكلات اللحوم، نجد أنَّ العضلات نفسها التي تحرك العظمة السمسمية الشعاعية في الباندا تتصل بقاعدة الإبهام الحقيقية حصريًّا. ولكن في الدببة العادية، تنتهي العضلة المُبعِدة الطويلة إلى وترَين؛ أحدهما يدخل في قاعدة الإبهام، كما هو الحال في معظم آكلات اللحوم، بينما يتصل الآخر بالعظمة السمسمية الشعاعية. وتوجد عضلتان أقصر … ترتبطان هما أيضًا جزئيًّا بالعظمة السمسمية الشعاعية في الدببة. «وبناءً على هذا»، يستنتج ديفيس أنَّ «الجهاز العضلي الذي يشغل هذه الآلية الجديدة الرائعة — التي هي وظيفيًّا إصبع جديدة — لم يتطلب تغييرًا جوهريًّا عن الظروف الموجودة بالفعل في أقرب أقرباء الباندا؛ الدببة. ويبدو أن التسلسل الكامل للأحداث في الجهاز العضلي يَنتُج تلقائيًّا من تضخم بسيط في العظمة السمسمية الشعاعية». (۷٠٠-۷٠۱)
لسنوات عديدة، كان يُعتقد أن الباندا الحمراء قريبة جدًّا من الباندا العملاقة؛ لأنها هي أيضًا تمتلك نفس «الإبهام» المرتجلة من العظمة السمسمية الشعاعية الموجودة في رُسغها، وهي تستخدمه في تجريد أوراق الخيزران التي هي مصدرها الرئيسي للغذاء. غير أنه في عام ٢٠٠٠، أُجرِيت دراسة جزيئية للحمض النووي الخاص بالباندا الحمراء، واتضح أنه لا علاقة لها بالباندا العملاقة على الإطلاق، وإنما تنتمي إلى مجموعة العرسيات آكلات اللحوم جنبًا إلى جنب مع الظَّرِبان وبنات العرس والراكون. ويأتي هذا الاكتشاف متسقًا مع الكثير من الأبحاث السابقة عنها، فيما يتعلَّق بعلم النواة الخلوية وعلم الأمصال والسلوك والتشريح والتكاثر، ومع سجلها الأحفوري، الذي يضعها بجانب حيوانات الراكون والعرس بشكل وثيق، وليس الدببة والباندا.
إذا كان هذا صحيحًا (والأدلة على ذلك هائلة الآن)، فمعنى هذا أن إبهامَ الباندا الغريبةَ المرتجلةَ قد تطوَّرت مرتين بشكل مستقل في مجموعتين غير مرتبطتين من آكلات اللحوم. ربما لم يكن من الممكن للعلماء في وقت سابق أن يتخيلوا أنَّ بنية الكف المتخصصة هذه لها ميزة فريدة حقًّا، ولم يكن بإمكانهم تصور أنها يمكن أن تتطور بشكل متوازٍ. لكننا لا نستطيع إنكار البيانات الأحفورية والجزيئية والسلوكية؛ لذلك نحن مجبرون على الاعتراف بأن ذلك هو ما حدث. بالرغم من ذلك، يجب أن نراعي أن كِلا الكائنين قد انحدرا من أسلاف مشتركة (مثل الدببة والراكون) كانت تمتلك بالفعل كفوفًا أمامية مرنة للغاية تُستخدَم للإمساك، ولديها عظمة سمسمية صغيرة قد تطورت جزئيًّا. كلاهما كان يحتاج إلى حل لتجريد الأوراق من سيقان الخيزران، وكلاهما يمتلكان نفس مجموعة الأدوات الأساسية، المتمثِّلة في كفٍّ بها إبهام «زمعة» صغيرة لا يمكن أن تصبح إبهامًا مقابلة. لقد بدأ كلاهما بنفس البنية التشريحية الأساسية، وقاما بتعديلها لوظيفة مماثلة، مما أدى إلى حل مُشابِه.
توجد أمثلة على الصفات الارتجالية وغير المثالية التصميم في جميع أنحاء الطبيعة، ولا سيما لدى البشر (انظر الفصل ٢۱)، ولكن هذه الأمثلة القليلة التي أوردناها توضح النقطة الرئيسية. إذا كانت الطبيعة من صنع مصمم إلهي مثالي استخدم أفضل الحلول وأكثرها أناقة، وقام بهندسة كل شيء للعمل على نحو مثالي وفعال، فما كنا لنرى الكثير من الأمثلة على الكائنات الحية التي تستخدم بنية تشريحية خرقاء، ودون المستوى الأمثل، وعشوائية، للبقاء على قيد الحياة لفترة طويلة بما يكفي للتناسل.
قراءات إضافية
-
Davis, D. Dwight, The Giant Panda: A Morphological Study of an Evolutionary Mechanism, Chicago: Chicago Natural History Museum, 1964.
-
Flynn, John J., Michael A. Nedbal, Jerry W. Dragoo, and Rodney L. Honeycutt, “Whence the Red Panda?” Molecular Phylogenetics and Evolution 17, no. 2 (2000): 190–199.
-
Gould, Stephen Jay, The Panda’s Thumb, New York: Norton, 1980.
-
Glatston, Angela R., Red Panda: Biology and Conservation of the First Panda, Amsterdam: Elsevier, 2011.
-
Pietsch, Theodore W. and David B. Groebecker, “The Compleat Angler: Aggressive Mimicry in the Antenariid Anglerfish,” Science 201, no. 4353 (1978): 369–370.
-
Slattery, J. Pecon and S. J. O’Brien, “Molecular Phylogeny of the Red Panda (Ailurus fulgens),” Journal of Heredity 86, no. 6 (1995): 413–422.