دور الخافية (اللاشعور)
وإني لمقتنع بأن الموقف العلمي الصحيح في علم النفس يجب أن يُفضِي أيضًا إلى النتيجة القائلة بأن السياقات الدينامية في النفس لا يمكن أن ترجع إلى هذه الغريزة الحسية أو تلك، وإلا وجدنا أنفسنا قد عُدنا إلى الوراء عند مرحلة نظرية الفلوجستون، واضطُررنا إلى اعتماد الغرائز أجزاءً مكونة للنفس، ثم جردنا مبدأنا التفسيري من العلاقة المتبادلة. ولذلك بينت أننا نحسن صنعًا لو طرحنا مقدارًا افتراضيًّا، «طاقة»، كمبدأ تفسيري سيكولوجي، وأسميناه «ليبيدو»، بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، بدون أن نُضمِر تحيُّزًا بخصوص ماهيتها. ولعلنا نستطيع، مستعينين بمثل هذه القيمة الكمية، أن نُفسِّر السياقات السيكودينامية تفسيرًا لا يمكن الاعتراض عليه بدون أن نَلوي الوقائعَ، ذلك الذي يستتبعه اعتماد أساس حسِّي للتفسير؛ فعندما تذهب مدرسة فرويد إلى القول بأن المشاعر الدينية، أو أي مشاعر تنتسب إلى الدائرة الروحية «ما هي إلا» رغبات جنسية غير مقبولة كُبِتت ثم «تسامت»؛ إن هذا القول أشبه بما لو فسَّر عالم فيزياء الكهرباء بالقول إن الكهرباء «إن هي إلا» شلال اشتراه شخص ثم أوصله إلى عنفات بواسطة أنابيب. بعبارة أخرى، إن الكهرباء ما هي إلا شلال «مشوه ثقافيًّا» — ولعل هذا التعريف أو التفسير حجة قد ترفعها جمعية المحافظة على الطبيعة العذراء، لكنه لن يبلغ مبلغ التفكير العلمي. لا يصلح مثل هذا التفكير في علم النفس إلا إذا استطعنا أن نُثبت أن الأساس الدينامي الذي يقوم عليه وجودنا هو الجنس لا غير، وهو ما يساوي القول في الفيزياء أن الماء الساقط وحده يستطيع إنتاج الكهرباء. في هذه الحالة يمكننا التمسُّك بالقول — ونكون عندئذٍ على حق — إن الكهرباء ما هي إلا شلال ممدد في أسلاك.
لذلك لو رفضنا النظرية القائلة إن الخافية جنسية ليس إلا واستبدلنا بها نظرة تقول بأن الخافية عبارة عن طاقة، لتعيَّن علينا القول إن الخافية تحتوي على كل شيء نفسي لم يبلغ عتبة الواعية، أو أن شحنته من الطاقة لم تسمح له بالبقاء في الواعية، أو أنه لن يبلغ الواعية إلا في المستقبل. وعندئذٍ نستطيع أن نتصور كيف تتكوَّن الخافية. لقد سبق لنا وأخذنا علمًا بالمكبوتات بما هي محتويات الخافية، وإلى هذه المكبوتات يجب أن نضيف «كل شيء نسيناه». عندما نقول إننا نسينا شيئًا، فإن هذا لا يعني أنه قد تلاشى؛ كل ما في الأمر أنه قد أصبح فوق متناول الشعور. لقد غاصت شحنته من الطاقة إلى عمقٍ لم يَعُد يستطيع معها الظهور إلى الواعية. لكنه وإن ضاع عن الواعية يظل غير ضائع عن الخافية. ولعل هناك مَن يعترض علينا بالقول إن هذا ليس أكثر من وجه من وجوه الكلام. بودي توضيح المراد بضرب مثال افتراضي. لنفرض أننا أمام شخصين اثنين، أحدهما لم يقرأ كتابًا قط، والثاني قرأ ألف كتاب. ثم محونا من عقليهما كليهما جميع ذكريات عشر السنوات التي كان الأول في أثنائها مجرد كائن يعيش وكان الثاني يقرأ كتبه الألف، مع ملاحظة فهمه لها. إن خبرة القراءة، وإن كانت منسية، تترك آثارها خلفها، ومِن هذه الآثار يمكننا التعرُّف على الخبرة السابقة. هذا التأثير غير المباشر الذي يدوم طويلًا يرجع إلى انطباعات ثابتة، تظل محفوظة، حتى حين لا تكون قادرة على بلوغ الواعية.
كل هذه المادة تُكوِّن الخافية الشخصية، ونسميها شخصية لأنها كلها تتألف من مكتسبات مُستمَدة من الحياة الشخصية. لذلك عندما يقع شيء في الخافية سرعان ما تتلقفه شبكة التداعيات التي شكلتها هذه المادة غير الشعورية، عندئذٍ قد تنشأ روابط تداعيوية ذات شدة عالية تعبر من فوق الواعية أو ترتفع إلى الواعية على هيئة إيحاءات وحدوس و«أفكار سعيدة»، وهلم جرًّا.
هذه الخافية، المدفونة في بنية الدماغ والتي لا تكشف لنا عن حضورها الحي إلا بواسطة الطرائق المبدعة، هي خافية تتجاوز الخافية الشخصية؛ فهي تحيا في الإنسان المبدع، وتكشف عن نفسها في رؤى الفنان، وفي وحي المفكر، وفي خبرة الصوفي الجوَّانية. إن هذه الخافية التي تتجاوز الشخصية، من حيث إنها موزعة في جميع أنحاء البنية الدماغية، لهي أشبه بروح مبثوثة في الكل، حاضر في الكل، عالم بالكل؛ فهي تعرف الإنسان مثلما كان دائمًا، لا كما هو في هذه اللحظة، بل بما هو أسطورة، لهذا السبب أيضًا كانت الصلة بالخافية فوق الشخصية، أو الخافية الجامعة، تعني امتدادًا للإنسان إلى ما وراء نفسه؛ فهي تعني موتًا لوجوده الشخصي وانبعاثًا له في بُعد جديد، كما تُعُورِف على ذلك حرفيًّا في أسراريات قديمة معينة، وإنه لأمر حق أن هذا البعد لا يمكن بلوغه إلا بالتضحية بالإنسان كما هو، بالإنسان كما كان، وكما سوف يكون أبدًا. وليس كالفنان مَن يستطيع أن يُنبئنا عن هذه التضحية بالإنسان الشخصي، إن كانت رسالة الأناجيل غير كافية لنا.
هذه القاع الحافلة بالأسرار، التي أسكنت منذ أقدم الأزمنة في الظلال الغابة الأولى نفس الأشخاص ومع ذلك أشخاص متغيرين أبدًا، يبدو مثل انعكاس معوج للحياة في أثناء النهار، لكنها تكرر نفسها في الأحلام وفي مخاوف الليل. في الظل يحتشد بعضهم مع بعض العائدين من الموت على هيئة أشباح، أو أرواح الموتى، أو صور من الذاكرة عائمة تطلع من سجن الماضي من حيث لا يعود شيء حي، أو مشاعر تركتها خلفها خبرة مؤثرة ثم أصبحت الآن متشخصة في هيئة طيفية. لا يبدو كل هذا غيرَ مَذاقٍ مُر خلَّفه دورق النهار المُفرَّغ، الملاذُ الذي لا يلقى الترحيب، راسبُ الخبرة الذي لا نفع فيه. لكن لو نظرنا في الأمر عن كثب، لاتضح لنا أن هذه القاع المعادية ظاهريًّا ترسل مبعوثين أقوياء يؤثرون في مسلك البدائيين تأثيرًا بليغًا. أحيانًا تتخذ هذه الوسائط هيئة السحر، وأحيانًا هيئة الدين، وفي أحيان أخرى تختلط الهيئتان بطريقة لا انفصام لها، كلتاهما أهم العوامل في العقلية البدائية بعد الصراع من أجل البقاء. فيهما يتبدَّى العنصر الروحي تبدِّيًا مستقلًّا على النفس البدائية — ذات الانعكاسات البدائية صرفًا — في هيئة حسية مُسقَطة؛ ونحن — الأوروبيين — يصدمنا الذهول أحيانًا من التأثير الهائل الذي تستطيع خبرة الروح أن تحدثه في الإنسان البدائي. فعنده أن المباشَرة الحسية للشيء تتعلق بظاهرات روحية أيضًا. الفكرة «تظهر له»، لا أنه يفكر فيها؛ تظهر له في هيئة إدراك حسي مُسقَط، أشبه شيء بهلوسة، أو على الأقل في هيئة حلم شديد الحيوية والوضوح. لذلك تستطيع الفكرة عند البدائي أن تفرض نفسها على الواقع الحسِّي إلى حدٍّ لو كان على أوروبي أن يسلك نفس المسلك لحكمنا بجنونه.
هذه الخصائص التي تتصف بها السيكولوجية البدائية، ولا يسعني هنا إلا أن أمسَّ الموضوع مسًّا رفيقًا، ذات أهمية عظمى لفهم الخافية الجامعة. قليل من التفكير يثبت لنا ذلك. إننا — ونحن الكائنات البشرية المتحضرة، في أوروبا الغربية — نملك تاريخًا ربما يرجع إلى ٢٥٠٠ سنة. أما ما قبل ذلك فحقبة ما قبل تاريخية مدتها أطول بكثير، بلغ الإنسان في غضونها مستوًى ثقافيًّا، لنقل أنه مستوى الهنود الحمر من قبائل السيوكس. ثم أعقب ذلك مئات آلاف ثقافة العصر الحجري الحديث، أما ما قبل ذلك فدُهورٌ مُوغِلة في القدم، تطوَّر الإنسان في أثنائها من الحيوان حتى وصل إلى ما عليه اليوم. قبل خمسين جيلًا من الآن لم يكن الكثير منَّا في أوروبا يَفضُل البدائيين كثيرًا، لذلك لا بد إن كانت طبقة الثقافة، هذه القشرة التي تبعث على السرور، رقيقة جدًّا إذا قورنت بالطبقات النامية نموًّا شديدًا من النفس البدائية، فهذه الطبقات هي التي تُشكل الخافية الجامعة إلى جانب آثار الحيوانية التي ضاعت في هاوية الزمان السديمية.
لقد شطرت المسيحية البربري الجرماني إلى نصف علوي ونصف سُفلِي، ومكَّنته، عن طريق كبت الجانب المظلم، من ترويض الجانب المشرق وأهَّلته للحضارة. لكن النصف السفلي المظلم ينتظر الفداء ونوبة ثانية من الحضارة. وإلى أن يحين ذلك، لسوف يظل مرتبطًا بآثار عصر ما قبل التاريخ، بالخافية الجامعة التي تخضع إلى تنشيط غريب يتزايد باطراد. وكلما فقدت النظرة المسيحية إلى العالم سلطانها، زاد «الوحش الأشقر»، وهو يطوف مهدِّدًا في أنحاء سراديب السجن، استعدادًا لكي ينفجر بالآثار المدمرة في كل لحظة. عندما يحدث هذا في الفرد فإنما يحدث فيه ثورة سيكولوجية، لكن يمكنها أيضًا أن تتخذ شكلًا اجتماعيًّا.
في رأيي، هذه المشكلة لا توجد عند اليهود؛ فاليهوديُّ سبق له وحصَّل ثقافة العالم القديم وتوَّجَها باستيلائه على ثقافة الأمم التي عاش بين ظهرانيها. لليهودي ثقافتان، متناقضتان كما قد تبدوان. فهو قد تروَّض إلى درجة أعلى مما وصلنا إليه، لكنه تنقصه تلك الصفة في الإنسان التي تضرب جذوره في الأرض، وتجعله يستمد قوة جديدة منها، هذه الصفة الأرضية نجدها في تركيز خطر عند الشعوب الجرمانية. طبعًا إن الأوروبي الآري لم يلاحظ علامات على هذه الصفة منذ زمن بعيد جدًّا، لكنه ربما بدأ يلاحظها في الحرب الراهنة، كذلك ربما لا يلحظ اليهودي أنَّ عنده من هذه الصفة أقل من اللازم؛ إذ لا أرض له يقف عليها. إن سر الأرض ليس نكتة ولا إيهامًا. ما علينا إلا أن نرى مقاييس الجمجمة وعظم الحوض عند جميع الأمريكيين الذين ينحدرون من أصل أوروبي وكيف تتخذ هيئة الجمجمة وعظم الحوض اللذين نعرفهما عند الهنود الحمر في الجيل الثاني من المهاجرين. ذلكم هو سر الأرض الأمريكية.
تحتفظ تربة كل بلد بشيء من هذا السر. ولدينا عن هذا السر انعكاس غير شعوري في النفس. فكما أن هناك علاقة بين العقل والجسد، كذلك هناك علاقة بين الجسد والأرض. أرجو أن يغفر لي القارئ هذا الأسلوب المجازي في الكلام، وأن يحاول فهم ما أريد؛ إذ ليس من السهل وصفه على الرغم من كونه محدَّدًا. هناك عدد كبير من الناس يعيشون خارج أجسادهم، يَطفُون كالأشباح التي لا جسم لها فوق الأرض، عنصرهم الأرض الذي هو جسمهم. وآخرون يعيشون كليًّا في أجسامهم. الأصل أن يعيش اليهودي في علاقة حبِّية مع الأرض، لكن بدون شعور بقوة الأرضي، ويبدو أن استقباله لذلك قد ضعف بمرور الأيام. ولعل هذا يفسر حاجة اليهودي النوعية إلى ردِّ كل شيء إلى بداياته المادية؛ يحتاج إلى هذه البدايات لكي يوازن الاستعلاء الخطر في ثقافتيه الاثنتين؛ لأن قليلًا من البدائية لا يضيره، ولعلني أستطيع أن أفهم أسباب ردِّ فرويد وأدلر كل شيء إلى الرغبات الجنسية البدائية وإلى إرادة القوة، لأن في هذا ما يفيد اليهوديَّ ويريحه؛ فهو شكل من التبسيط. لهذا السبب ربما كان فرويد على حق في إغلاق عينَيه على اعتراضاتي. لكن هذه التعاليم اليهودية نوعيًّا لا تبعث أبدًا على ارتياح العقلية الجرمانية؛ إذ ما زال يقبع في داخلنا بربري حقيقي يجب ألا نستَهوِن به، ولا يمكن أن يعد ظهوره مبعثًا على راحة ولا طريقة سارَّة لتزجية الوقت! تُرى، هل يستطيع هؤلاء الناس أن يتعلموا درس هذه الحرب؟! الحقيقة هي أن خافِيَتَنا لا يمكن بلوغها بواسطة تفسيرات مفرطة الحذق أو مغرقة في الغرابة. والطبيب النفسي ذو القاع اليهودية لا يوقِظ في النفس الجرمانية تلك الحثالات الحزينة الغريبة الأطوار الموروثة منذ أيام داود، بل يوقظ فيها بربري الأمس، وهو كائن سرعان ما تصبح المسائل عنده «خطيرة» على أقبح ما يكون. هذه الخاصية التي تبعث على الإزعاج في البربري كانت بادية أيضًا لنيتشه — لا شك من خبرة شخصية — مما حداه أن يعجب بالعقلية اليهودية، وراح يدعو إلى الرقص والطيران وعدم أخذها على محمل الجد. لكنه لم يتنبَّه إلى أن البربري الذي فينا ليس هو الذي يأخذ الأشياء على محمل الجد، وإنما أصبحت الأشياء جدية بالنسبة إليه. لقد كان يركبه شيطان. ومن ذا الذي أخذ الأشياء على محمل الجد أكثر من نيتشه.
كما بيَّنتُ من قَبل، إن هذه الوظيفة تعمل بصورة تلقائية، لكنها غالبًا ما تكون أضعف من أن تنقل الاتجاه الأحادي الذي تتخذه الواعية إلى وجهة جديدة معاكسة لضغوط المجتمع، وذلك بسبب ضمور الغريزة السيئة السمعة عند الإنسان المتحضر. لذلك تنشأ دائمًا حاجة إلى استدعاء القوى الشافية التي تنطوي عليها الخافية لكي تؤدي وظيفتها. من قَبل كانت الأديان هي التي تؤدي هذه الوظيفة بصفة رئيسية؛ فالأديان، إذ اعتبرت تجليات الخافية علامات إلهية أو شيطانية، إلهامات أو تحذيرات، إنما زودت الخافية بفكرة أو نظرة كانت بمثابة درجة ميل ملائمة. بهذه الطريقة وجَّهت الأديان انتباهًا خاصًا إلى جميع الظاهرات ذات المنشأ الباطني، سواء أكانت أحلامًا أم رؤًى، مشاعر أم تخيلات طليقة، أم إسقاطات لهذه الأشياء كلها على شخصيات غريبة أو غير عادية، أو على سياقات بارزة عضوية أو غير عضوية. وقد أتاح تركيز الانتباه هذا لمحتويات الخافية وقُواها أن تفيض على الحياة الواعية، فتؤثر فيها وتغيرها. من هذا المنطلق، تكون الأفكار الدينية عونًا صُنعيًّا يفيد الخافية؛ إذ يمنحها وظيفة تعويضية — وهي وظيفة تبقى غير فاعلة إذا لم يُؤْبَه لها — ذات قيمة عالية للواعية؛ فالإيمان — أو الطِّيَرة، أو كل فكرة محمَّلة بمشاعر قوية — يعطي المحتوى الباطن قيمة لا يملكها عادةً، لكنه يستطيع أن يملكها مع الوقت ولو في شكل لا يبعث على الغبطة أبدًا. لذلك عندما تتراكم المحتويات الباطنة نتيجة لتجاهلها باستمرار، تغدو قمينة بأن تحدث تأثيرًا مرضيًّا. في البدائيين معصوبون مثلما في الأوروبيين المتمدنين تمامًا؛ فالأفريقيون المصابون بالهستيريا ليسوا نادرين في أفريقيا. والتجليات المستكرهة التي تبديها الخافية يرجع إليها إلى حد كبير سبب خوف البدائيين من الشياطين وما ينجم عنه من أداء طقوس الاستعطاف.
ما هو اﻟ «شوفار»؟ «أيضًا» … قرن كبش ليس إلا. أحيانًا، لا يكون الرمز أكثر من ذلك، لكن فقط عندما يكون ميتًا. يُقتل الرمز عندما نفلح في إعادة اﻟ «شوفار» إلى مجرد قرن كبش. لكن أيضًا بواسطة الترميز، يصبح قرن الكبش «شوفارًا».
الوظيفة التعبيرية تعبر عن نفسها بواسطة ترتيبات محددة تتخذها المادة النفسية، في الأحلام مثلًا، لا نجد فيها شيئًا «رمزيًّا» بأكثر مما نجده في قرن الكبش. ولكي نكشف النقاب عن صفتها الرمزية، نحتاج إلى موقف واعٍ محدد، أي إرادة فهم محتوى الحلم رمزيًّا، قبل كل شيء كمجرد فرضية، ثم ترك الخبرة تقرر إن كان ضروريًّا أو مرغوبًا فيه فهم الحلم بهذه الطريقة. سأضرب مثلًا موجزًا قد يُعِين على تذليل هذه المسألة الصعبة: امرأة مريضة، كهلة، شأنها شأن كثيرات غيرها، أقلقتها مشكلة الحرب. نقلَت إليَّ مرة هذا الحلم الذي كانت رأته قبل مدة وجيزة من زيارتها لي.
«كانت تنشد تراتيل تُلقِي ثقلًا خاصًّا على إيمانها بالمسيح. من هذه التراتيل واحدة تقول:
عندما كانت تنشد هذه الترنيمة، شاهدت ثورًا يندفع مجنونًا أمام النافذة، وسرعان ما وثب وكسر إحدى قوائمه. رأت أن الثور في كربٍ عظيم، واعتقدت، مشيحة بعينيها بعيدًا عنه أن أحدًا ينبغي أن يذبحه.» ثم استيقظت.
لقد ذكَّرها الكرب العظيم الذي كان يعاني منه الثور بتعذيب الحيوانات الذي كانت شاهدة عليه رغمًا عنها. لقد أوجَسَت شرًّا من هذه الأشياء، وكانت قَلِقة منها بسبب مواحدتها لنفسها مع الحيوانات المعذبة. كان فيها شيء يمكن أن يُعبَّر عنه في صورة حيوان يتعذَّب. ولقد كان من الواضح أن ما قد استثار هذه الصورة توكيدٌ خاصٌّ على الإيمان بالمسيح الذي تبدَّى في الترانيم التي كانت تنشدها، ذلك أنَّ الذي حدث هو أنها بينما كانت تُنشِد ترانيمها ثارت ثائرة الثور وكسَر قائمته. هذا الجمع الغريب للأفكار أدَّى على الفور إلى تداعٍ ذي صلة بالقلق الديني العميق الذي كنتُ شعرتُ به أيام الحرب، تلك الحرب التي زعزعت إيمانها في خير الألوهية وفي كفاءة النظرة المسيحية إلى العالم. لقد كان من المفروض أن يخفِّف من شدة هذه الصدمة التوكيدُ على الإيمان المسيحي الوارد في الترتيلة، لكنه، بدلًا من ذلك، أهاج ذلك العنصر الحيواني القابع في الخافية، وهو العنصر الذي شخَّصَه الثور. إن هذا بالضبط هو العنصر الذي يُمثِّله الرمز المسيحي باعتباره قد قُهِر وذُبِح قربانًا. في السرِّية المسيحية هو الحَمَل الذبيح، بل «الكبش الصغير». في الميثراوية، الديانة الشقيقة للمسيحية، وكانت أنجح منافسيها أيضًا، كان الرمز المركزي للعبادة لا قربان كبش بل ثور، وكان التمثال المُقام خلف المذبح يُظهِر غلبة المخلص الإلهي ميثراس على الثور. لذلك كان لدينا صلة تاريخية وثيقة جدًّا بين المسيحية وقربان الثور. لقد كبحت المسيحية جماح هذا العنصر الحيواني، لكنه ما يلبث أن يشق طريقه إلى المقدمة ثانية ما إن يتزعزع الإيمان المطلق بصحة المسيحية. الغريزة الحيوانية تسعى إلى الإفلات من عقالها، لكن إذ تفعل ذلك فإنما تكسر للثور إحدى قوائمه — بعبارة أخرى، الغريزة تُشوِّه نفسها. من السوائق الحيوانية صرفًا تأتي أيضًا جميع العوامل التي تحد من سطوة الغريزة. من نفس الجذر الذي يُنبِت الغريزة العمياء المتوحِّشة غير المروَّضة تنبت القوانين الطبيعية والأشكال الثقافية التي تروِّض وتكسر حدَّة قدرتها الأولى. لكن عندما يَنشطِر الحيوان الذي في داخلنا عن الواعية بعامل الكبت، يُسْرانَ ما ينفجر بملء قوته، من دون ما ناظم ولا ضابط، وإذا حصل انفجار من النوع فلا بد مُفضٍ إلى الكارثة — الحيوان يدمر نفسه. ما كان في الأصل شيئًا خطرًا يصبح الآن شيئًا يبعث على الرثاء، شيئًا يحتاج فعلًا إلى أن نبذل له العطف. القوى الهائلة التي أطلقتها الحرب تدمر نفسها لأنه ما من يدٍ بشرية تحفظها وتقودها. لقد ثبت أن نظرتنا إلى العالم أضيق من أن تروِّض هذه القوى وتصبها في مجرًى ثقافي.
لو أنني حاولت أن أشرح لمريضتي الكهلة أنَّ الثور كان رمزًا جنسيًّا، لما خرجَت منه بشيء، بل لكانت فقدت وجهة نظرها الدينية ولم يطرأ عليها تحسُّن قط. في مثل هذه الأحوال لا تكون المسألة مسألة هذا التفسير أو ذاك. فلو أردنا أن نتخذ منطلقًا رمزيًّا، حتى ولو كان مجرد فرضية، لرأينا الحلم محاولة من جانب الخافية لكي يجعل المبدأ المسيحي منسجمًا مع ضده الذي لا يقبل المصالحة ظاهريًّا — الغريزة الحيوانية — بواسطة الفهم والتراحُم. ليس من قبيل المصادفة ألا تكون للمسيحية الرسمية صِلة بالحيوان. وأكثر ما يشعر بهذا الإغفال، الذي يبرز خصوصًا عند المقارنة بالبوذية، ذو الحساسية من الناس حتى لقد حَمَل شاعرًا حديثًا على التغني بمسيح يُضَحِّي بحياته من أجل حيوانات عجماوات. إن حب الجار الذي تدعو إليه المسيحية يمكنه أن يمتد إلى الحيوان أيضًا، الحيوان الذي يقبع في داخلنا، كما يمكنه أن يمتد إلى كل ما قد كبتته نظرة إلى العالم أنثروبومورفية صارمة كبتًا في منتهى القسوة. عندما نكبت الحيوان الذي يقبع في خافيتنا، وهي المصدر الذي جاء منه هذا الحيوان، فكل ما يحصل هو أن يصبح أكثر شراسة ووحشية، ولا شك أن هذا يفسر لنا لماذا لم تتلطخ بدماء الأبرياء يدَا ديانة كما تلطخت يدَا الديانة المسيحية، ولماذا لم يشهد العالم قط حربًا أدمى من حرب الأمم المسيحية. عندما يفلت الحيوان المكبوت من عقاله يكون في منتهى الشراسة عندما يطلع إلى السطح، وهو في سياق تدمير نفسه يؤدي إلى انتحار فيما بين الأمم، ولو كان كل إنسان على علاقة طيبة مع الحيوان الذي يقبع في داخله، إذن لأضفى على الحياة قيمة عالية أيضًا، ولأصبحت الحياة عنده المبدأ الأخلاقي الأعلى والمطلق، وكان رده غريزيًّا على كل مؤسسة أو منظَّمة يبدها القدرة على تدمير الحياة على نطاق واسع.
يريد هذا الحلم أن يُطلِع صاحبته بكل بساطة على قيمة المسيحية ويضعها في تعارض مع قوة طبيعية غير مروَّضة، إذا تُركت وغضبَها آذت نفسَها وكانت مدعاة للآسف. فلو رجعنا بالتحليل إلى تقصِّي أثر العاطفة وخلصنا إلى القول إنها نتجت عن كبت غريزة حيوانية، فقد يتَأتَّى عن ذلك عقمٌ وتخريب لا طائل وراءه. أما إذا أكدنا، ناحية ثانية، على وجوب فهم الحلم رمزيًّا وأنه يحاول أن يتيح لصاحبة الحلم فرصة التصالح مع نفسها، فنكون قد خطونا الخطوة الأولى على طريق تفسير يضع القيم المتناقِضة في وضعية انسجام، ويفتح لنا طريقًا جديدًا للنمو الداخلي. عندئذٍ تمدنا الأحلام التي تعقب الحلم الأول، مع احتفاظنا بهذه الفرضية، بالوسائل اللازمة لفهم أوسع لمضامين اتحاد العنصر الحيواني مع أعلى الإنجازات الأخلاقية والعقلية التي حققها الروح البشري. لقد أكدت لي الخبرة أن هذا ما يحدث فعلًا، ذلك أن الخافية تقوم دائمًا بوظيفة تعويضية عن الموقف الواعي في لحظة ما. لذلك إن مسألة أن نعرف ما هو موقفنا الواعي من الخافية ليست مسألة يجب ألا نكترث بها لأنه كلما كنا سلبيين أو نقادين أو عدوانيين أو ذمَّامين، اتخذت الخافية هذه المظاهر وفاتتنا قيمتها.
وعلى هذا لا يكون للواعية وظيفة خالقة للرمز إلا عندما نريد أن نعترف بعنصر رمزي. إن منتجات الخافية طبيعية محصنة، ولقد قال القدماء: «من جعل الطبيعة دليله لم يضل.» لكن الطبيعة بحد ذاتها ليست دليلًا؛ لأنها لم توجد على حسب مزاج الإنسان. السفن لا تقودها ظاهرة المغناطيس. علينا أن نجعل البوصلة دليلنا ثم نقوم بتصحيح نوعي؛ لأن الإبرة لا تشير إلى الشمال تمامًا. هذا هو حال وظيفة الدلالة في الخافية. يمكن الاستفادة منها بما هي مصدر للرموز، لكن مع التصحيح الواعي اللازم الذي ينبغي تطبيقه على كل ظاهرة طبيعية حتى نجعلها تخدم أغراضنا.
كثير من الناس يجد هذه النظرة بعيدة عن العلم إلى أبعد الحدود، لأنهم لا يرون فيها إرجاعًا إلى أسباب أساسية، حتى يمكنهم من الإعلان يقينًا أنَّ كيت وكيت من الأشياء «ما هو إلا» هذا وذاك، ذلك أنَّ جميع الذين يعملون على تفسير الأشياء بهذه الطريقة، يرون في الجنس بما هو عامل سببي أمرًا ملائمًا جدًّا. والحق يمكننا أن نعرض تفسيرًا جنسيًّا للحالة التي وصفتها بدون مشقة. لكن، ما الفائدة التي قد تجنيها المريضة من هذا التفسير؟ ما الفائدة لامرأة على عتبة الشيخوخة إذا جاء الجواب عن مشكلتها على هذا النحو؟ أم تُرى ينبغي لنا أن نحتفظ بالشفاء النفسي للمرضى الذين هم دون الأربعين؟
طبعًا، يمكننا أن نسأل بدورنا: ماذا تستفيد المريضة من جواب يأخذ المسائل الدينية مأخذًا جديًّا؟ لكن، هل هناك مشكلة دينية، وما هي؟ وما علاقة منهج علمي بالدين؟
يبدو لي أن المريض هو المرجع المناسب للتعامل مع مسائل من هذا النوع هل يستفيد منها مهما كانت الأجوبة عنها؟ لماذا يُوجع رأسه بمسائل العلم؟ فإن كان متديِّنًا، فإن صلته بالله تعني له أكثر بما لا نهاية له من أي تفسير مقنع علميًّا، تمامًا مثلما لا يهتم المريض بالطريقة التي يُشفَى بها إن كان لم يزل يعاني من مرضه. إن مريضنا، بل كل مريض، لا يعالج بالطريقة الصحيحة إلا عندما يعالج بوصفه إنسانًا فردًا. وهذا يعني الدخول بمشكلته الخاصة وعدم إعطائه تفسيرًا قائمًا على مبادئ «علمية» تمرق من فوق رأسه رغم أنها قد تكون صحيحة بيولوجيًّا.
في رأيي أن أول واجب يقع على عاتق عالم النفس أن يظل قريبًا من الوقائع الحية في النفس، وأن يراقب هذه الوقائع في حذر، فيفتح نفسه بذلك على الخبرات العميقة التي لا يعرف عنها شيئًا في الوقت الراهن. لذلك، عندما يكون في هذه النفس الفردية أو تلك نزاع جنسي، ويكون عند نفس أخرى مشكلة دينية، يعترف العالم الحق بالفرق الواضح بينهما قبل كل شيء. لسوف يصرف همه للمشكلة الدينية بمقدار ما يصرف همه للمشكلة الجنسية بصرف النظر عن عقيدة البيولوجي إن كان فيها متسع للآلهة أم لا. الباحث غير المتحيِّز بحقٍّ لا يدع عقيدته الشخصية تؤثِّر أو تشوِّه على أي نحو من الأنحاء المادة المطروحة أمامه، ولا يشذ عن هذا المادةُ الباثولوجية. لقد أصبح في هذه الأيام من السذاجة التي لا تُغتَفر اعتبار نزاع عصابي جنسيًّا حصرًا أو ردُّه إلى إرادة السيطرة ليس إلا. هذا الإجراء استبدادي تمامًا في مثل استبدادية التوكيد بأنه لا وجود لشيء كالخافية ولا للمنازعات العصابية عندما نرى في كل ما حولنا مقدار ما قد تبلغه الأفكار من قوة، يتعيَّن علينا أن نسلم بأنها لا بد أن تكون كذلك في نفس الفرد، سواء أكان على علم بها أم لا. ما من أحد يشك في أن الجنس عمل سيكولوجي فعَّال، ولا يمكن الشك أيضًا في أن الأفكار عوامل فعالة سيكولوجيًّا. من ناحية ثانية، هناك فرق بين عالم الأفكار وعالم الغريزة حتى أن القاعدة أن يكون أحدهما شعوريًّا والآخر غير شعوري هو الذي يسود الخافية. لذلك عندما يقع المرء في حياته الواعية كليًّا تحت سيطرة الغريزة، تعمد خافيته إلى إلقاء توكيد أحادي الجانب على قيمة الأفكار يساوي توكيد قيمة الغريزة. وبما أن تأثير الخافية يبلغ الواعية مداورة في نهاية المطاف ويُعَين لها موقفها في الخفاء، تنشئ الخافية سببًا للمصالحة: تصبح الغريزة فكرة ثابتة في السر، تفقد حقيقتها وتُحيلها الخافية إلى مبدأ عالمي أحادي. والعكس كثيرًا ما يحدث أيضًا، عندما يتخذ امرؤٌ عن وعيٍ موقفَه في عالم الأفكار ويُضطَر تدريجيًّا إلى اختبار غريزته وكيف تجعل في الخفاء أفكاره أدوات للرغبات الباطنة.
وبما أن العالم المعاصر وصحافته يعرضان مشهد عيادة نفسية هائلة، تُتاح الفرصة الواسعة لكل مراقب يَقِظ لرؤية هذه المعادلات تجري صياغتها أمام عينَيه. والمبدأ الأساسي الأهمية في دراسة هذه الظاهرات هو المبدأ الذي سبق لعلم النفس التحليلي أن قرَّره: إن خافية المرء يُسقِطها صاحبُها على شخص آخر، حتى ليتهم الأول الثاني بكل ما تفوتُه رؤيتُه في نفسه. هذا المبدأ بلغ من عموميته وصلاحيته مبلغًا يجعل كل امرئ يُحسِن صُنعًا لو يجلس وينظر نظرة فاحصة جدًّا ويقرر فيها إن كان يجب عليه أن يلقي الحجر على رأس نفسه قبل أن يكيل التهم إلى غيره.
وهذا الاستطراد الذي يبدو لا علاقة له بموضوعنا يأتي بنا إلى أبرز ملامح الخافية: إنه، كما كان في حقيقة الأمر، ماثل أمام أعيننا في جميع أجزائه، ويمكن أن تدركه الملاحظة في كل وقت.
لكنَّ مدى هذه الإسقاطات الآتية من الخافية أصبح معروفًا من خلال تحليل المشاعر والعواطف الغامضة التي لا تفسير لها والتي تُضفي نوعًا من صفة سحرية غير محسوسة على أمكنة معينة، وأحوال معينة من الطبيعة، وأعمال معينة من الفن، كذلك على أفكار معينة وأناس مُعيَّنين. إن هذا السحر آتٍ أيضًا من الإسقاط، لكنه إسقاط من الخافية الجامعة. فإذا كانت الجمادات هي التي تتمتع بهذه الصفة «السحرية»، فإن مجرد طروئِها الإحصائي كافٍ لإثبات أن أهميتها ترتد إلى إسقاط محتوًى ميثولوجي من الخافية الجامعة. في معظم الأحوال، تكون هذه المحتويات موضوعات سبق وأن عرفناها من الأساطير وقصص الحور. بودي أن أذكر مثالًا على ذلك: البيت الغامض يسكنه ساحر أو ساحرة، ترتكب فيه جريمة فظيعة، ويوجد فيه شبح، مدفون فيه كنز، وهلم جرًّا. يمكن أن نتعرف على إسقاط هذه الصورة البدْئية، عندما أحدنا ذات يوم على هذا البيت الغامض، بكلمات أخرى، عندما يُحدِث بيتٌ حقيقي، بل بيت عادي تمامًا، تأثيرًا سحريًّا عليه. عمومًا، يبدو جو المكان كله رمزيًّا، وهو لذلك إسقاط جملة باطنة متماسكة.
نجد هذه الظاهرة متطورة تطوُّرًا جميلًا لدى الإنسان البدائي؛ فالبلاد التي يقطنها هي في نفس الوقت طبوغرافية خافيته. في تلك الشجرة المهيبة يقيم إله الرعد؛ هذا الينبوع مسكون بالمرأة العجوز؛ الملك الأسطوري مدفون في تلك الغابة؛ لا أحد يستطيع أن يوقد قرب الصخرة نارًا لأنه مقام شيطان؛ في كومة الحجارة هناك تسكن أرواح السلف؛ وعندما تمر به امرأة يجب عليها أن تفوه بعبارات تعويذية لئلا تحبل؛ لأن أحد الأرواح يُسرانَ ما يدخل جسدها. جميع أنواع الأشياء والعلامات تَسِم هذه الأمكنة، وتحيط البقعة الموسومة بالخشوع. في كل مكان تقفز خافيته أمامه، نابضة بالحياة وحقيقية. ما أشد اختلاف صلتنا بالأرض التي نحيا عليها! مشاعر غريبة عنَّا كليًّا تصاحب البدائي في كل خطوة. مَن يعرف ماذا تعني له صيحة الطير أو رؤية تلك الشجرة العتيقة! عالَم كامِل من المشاعر مغلق علينا وقد استعضنا عنه بجمالية شاحبة. ومع ذلك فإن عالم المشاعر البدائية ليس غائبًا عنا كليًّا؛ لأنه ما زال حيًّا في الخافية. كلما ابتعدنا عنه بفضل تنوُّرنا وتفوُّقنا العقلاني، ضعفت رؤيتنا له. لكنه يزداد قدرة بكل شيء يقع فيه؛ إذ تقحمه إلى الخارج عقلانيتنا الأحادية. هذه الرقعة الضائعة من الطبيعة تسعى إلى الثأر لنفسها وتعود في شكل مزيَّف ومشوَّه، كوباء التانغو، مثلًا، والمستقبلية والدادائية وجميع أنواع الصرعات الأخرى التي يحفل بها عصرنا.
حتى ارتياب البدائي في القبيلة المجاورة قد عاد إلينا ثانية في هذه الحرب وَرِمًا إلى نسبة هائلة، وكنا اعتقدنا أننا كبرنا عنه منذ زمن بعيد بفضل منظماتنا العالمية. لم تعُد المسألةُ مسألةَ تحريق القرية المجاورة، أو دحرجة بضعة رءوس: مدن بكاملها تُباد عن بَكرةِ أبيها، وملايين من الناس تُقتَّل وتُذبَّح. الأم العدوَّة تُسلب كل حق من احترام، وأخطاؤنا الخاصة بنا تظهر في الآخرين مجسَّمة بصورة هائلة. أين هي العقول الفائقة القادرة على التفكير اليوم؟ إن كانت موجودة أصلًا، فلا أحدَ يُعِيرها التفاتًا. بدلًا من ذلك استقتالٌ عام، وهلاك عالمي يقف الفرد اتجاه هيمنته الطاغية عاجزًا عن الدفاع نفسه. ومع ذلك فإن هذه الظاهرة الجماعية هي غلطة الفرد أيضًا؛ لأن الأمم مكوَّنة من الأفراد، لذلك كان على الفرد أن يبحث عن الوسيلة التي يُمكِنه بها الرد على الشر؟ موقفنا العقلاني يؤدي بنا إلى الإيمان بأننا نستطيع أن نفعل العجائب عن طريق المنظمات والتشريعات العالمية وغير ذلك من الوسائل. لكن في الحقيقة ما من شيء يمكنه أن يُحدِث تجديدًا في روح الأمم مثلما يُحدثه تغيير في روح الفرد. كل شيء يبدأ بالفرد.
هناك لاهوتِيُّون وإنسانِيُّون طيِّبُو النية يريدون أن يكسروا مبدأ القوة في الآخرين. أولى بهم أن يبدءوا بكسره في أنفسهم، عندئذٍ يصبح الشيء مُصدَّقًا. يجب أن نُصغي إلى صوت الطبيعة التي تخاطبنا من الخافية. وعندئذٍ ينصرف كل منَّا إلى الاهتمام بنفسه حتى لينفض يديه من وضع العالم على الطريق الصحيح.
قد يشعر غير المختص بشيء من الدهشة أن أُدرِج هذه المشكلات العامة في مناقشتي لمفهوم سيكولوجي. إن هذه المشكلات ليست استطرادًا عن موضوعي الرئيسي، كما قد يبدو، بل هي جزء أساسي منه. إن مسألة العلاقات بين الواعية والخافية ليست من المسائل الخاصة، بل هي مرتبطة بأوثق الروابط بتاريخنا والزمن الحاضر ونظرتنا إلى العالم. أشياء كثيرة جدًّا هي في الخافية، لا لشيء إلا لأن نظرتنا إلى العالم لم تدَع لها مجالًا في حياتنا الواعية، ولم نستطع أن نغزوها بواسطة التعليم والتدريب. وكلما جاءت الواعية على هيئة تخيُّلات طليقة طارئة سارعنا إلى كبحها. إن الحد الفاصل بين الخافية والواعية ترسمه إلى حدٍّ كبير نظرتنا إلى العالم. إنَّ هذا يفسر لنا أسباب وجوب الكلام عن مشكلات عامة إن كنَّا نريد أن نتعامل بكفاءة مع مفهوم الخافية. ونحن لو أردنا فهم طبيعتها، علينا ألا نُعنَى بالمشكلات المعاصرة وحسب، وإنما بتاريخ العقل البشري أيضًا.
هذا الانصراف إلى الاهتمام بالخافية مشكلة ذات أهمية تطبيقية بمقدار ما ذات أهمية نظرية. فكما أن نظرتنا إلى العالم كانت حتى الآن عاملًا حاسمًا في تشكيل الخافية ومحتوياتها، كذلك إن إعادة صب نظراتنا في قوالب جديدة وفقًا للقوى الفاعلة، أعني قوى الخافية، مفروض علينا كقوًى تطبيقية. إنه يستحيل علينا شفاء العصاب بأدوية فردية بصورة دائمة؛ فالإنسان لا يمكن أن يوجد فردًا منعزلًا خارج الجماعة البشرية؛ فالمبدأ الذي يشيد عليه حياته يجب أن يكون مقبولًا عمومًا، وإلا افتقر إلى تلك الأخلاقية الطبيعية التي هي أمر لا غنى عنه له بما هو عضو في الجماعة. لكنَّ مثل هذا المبدأ، إن لم يُترَك في ظلمات الخافية، يُصبِح نظرة إلى العالم يشعر بضرورتها جميع الذين اعتادوا أن يدققوا تدقيقًا واعيًا في أفكارهم وأفعالهم. ولعل هذا يفسر لماذا تطرَّقت إلى مسائل، كل واحدة منها تحتاج، لعرضها عرضًا تامًّا، إلى أكثر من رأسٍ واحد، وأكثر من حياة واحدة.