العقل والأرض
في بداية البحث، يحسن بنا أن نحدد بدقة ما هو المقصود من كلمة «عقل». هناك نظرات معينة تريد أن تقصر «العقلي» و«النفسي» على الواعية فقط. لكنَّ مِثل هذه النظرات لم تعُد تقنعنا اليوم؛ ذلك أن في عهدة السيكوباثولوجيا الحديثة ثروة من الملاحظات المتعلقة بالفعاليات النفسية تشبه الوظائف الواعية شبهًا كليًّا، ومع ذلك هي من وظائف الخافية غير الشعورية — فالإنسان يستطيع أن يدرك ويفكر ويشعر ويتذكر ويقرر ويفعل — كل ذلك بطريقة غير شعورية. وكل ما يحدث في الواعية يُمكنه أن يحدث في الخافية في شروط معينة. أما كيف يمكن أن يحدث هذا، فلعلنا نستطيع أن نراه بصورة أفضل إذا صوَّرنا الوظائف والمحتويات النفسية بمشهد طبيعيٍّ ليليٍّ يلعب فوقه عمود من نور كشاف. كل ما يظهر في هذا الضوء من الإدراك فهو شعوري واعٍ، وكل ما يقبع في الظلام فيما وراء ذلك فهو غير شعوري، رغم أنه حقيقي وفعَّال. وإذا انتقل عمود النور من موقعه الأول، غاصت المحتويات التي كانت واعية، وجاءت محتويات جديدة إلى الرقعة المنيرة من الواعية. أما المحتويات التي تلاشت في الظلمة فتظل فاعلة وتشعرنا بنفسها مداورة على هيئة أعراض في الأعم الأغلب. وقد وصف فرويد هذه الاضطرابات الأعراضية في «سيكوباثولوجيا الحياة اليومية». أما البرهنة على الاستعدادات والموانع الباطنة فلا تكون إلا تجريبيًّا بواسطة اختبار التداعي فإذا أخذنا في اعتبارنا أبحاث السيكوباثولوجيا، بدا العقل رقعة ممتدة من الظاهرات النفسية، بعضها واعٍ شعوري، وبعضها خافٍ غير شعوري. والجزء غير الواعي من العقل لا يُدرَك مباشرة — وإلا لم يكن خافيًا — وإنما يستنتج من الآثار التي تحدثها السياقات الباطنة على الواعية.
وهنا يجب عليَّ أن أتوغل أكثر في طبيعة الخافية وبنيتها إن كان عليَّ أن أتعامل بكفاءة مع تكييف الأرض للعقل. إنها مسألة تتعلق بصميم بدايات العقل وأسسه، أشياء مدفونة في الظلام منذ أزمنة سحيقة، وليست هي مجرد الوقائع العادية للإدراك الحسي والتكيُّف الواعي مع البيئة. إن هذه ترتد إلى سيكولوجيا الواعية، وقد سبق لي أن قلت إنني لا أسوِّي الواعية بالنفس؛ فالنفس حقلُ خبرةٍ أشملُ وأظلمُ من الرقعة الضيقة الساطعة النور من الواعية، وفي النفس تندرج الخافية أيضًا.
هذه المشكلة ليست بالغة التعقيد وحسب، وإنما هي بالغة الدقة أيضًا. ويتعيَّن علينا في تعاملنا معها أن نتعامل مع صعوبات غير عادية، وأولى هذه الصعوبات هي أن النموذج البدئي ووظيفته يجب أن نفهمهما باعتبارهما جزءًا من سيكولوجية إنسان ما قبل التاريخ وما تتصف به من بُعد عن العقلانية لا باعتبارهما جملة مُدرَكة عقلانيًّا. إن الأمر يشبه كما لو تعيَّن علينا أن نصف ونفسر بناية طابقها العلوي شُيِّد في القرن التاسع عشر، والطابق الأرضي يرجع، إلى القرن السادس عشر، ولو فحصنا المبنى فحصًا دقيقًا يتضح لنا أنه قد أعيد من برج شُيِّد في القرن الحادي عشر. وفي القبو نجد أساسات رومانية، وتحت القبو كهف مسدود فيه أدوات من العصر الحجري الجديد في الطبقة العليا، وبقايا حيوانية من نفس العصر في الطبقات السفلى. نحن نعيش في الطابق العلوي ولا نعلم شيئًا عن الطابق السفلي سوى أن «موضته» قديمة قليلًا. أما عما يكمن تحت سطح الأرض، فلا نعرف عنه شيئًا.
إنه تشبيهٌ أعرج، شأن كل تشبيه. ذلك أنه ليس في النفس شيء ميت.
لكن، ما هي النماذج البدئية الأقرب لنا والأشد تأثيرًا فينا؟ يقودنا هذا السؤال رأسًا إلى مشكلة الوظيفة التي يؤديها النموذج البدئي، وهنا نصل إلى قلب الصعوبة. من أي منطلق يتوجَّب علينا الإجابة عن هذا السؤال؟ أمن منطلق الطفل أم من منطلق الإنسان البدائي أم من منطلق واعيتنا الراشدة الحديثة؟ ومتى تنشأ ضرورة اللجوء إلى هذه الفرضية أصلًا؟
بودي أن أذهب إلى أن كل رَجْع نفسي لا يتناسب مع سببه البادي يجب أن نبحث في إمكانية كونه مشروطًا بنموذج بدئي في نفس الوقت.
ما أعنيه بذلك يوضِّحه المثال التالي: لنفرض أنَّ طفلًا يخاف من أمه يتعين علينا أولًا أن نتأكد من أن هذا الخوف ليس له سبب عقلي، كأن يكون «ضميرًا خبيثًا» من جانب الطفل مثلًا، أو عنفًا من جانب الأم، أو شيئًا آخر قد يكون حدث للطفل. فإذا لم يكن شيئًا من هذا القبيل، يتعيَّن علينا عندئذٍ أن ننظر إلى الوضع على أنه يتعلق بنموذج بدئي. مثل هذه المخاوف جرت العادة على طروئها ليلًا، وقد دأبت على الظهور في الأحلام. لقد بات الطفل الآن يحلم بأمِّه ساحرةً تطارد الأطفال. والمادة الواعية التي تقف خلف هذه الأحلام هي في بعض الحالات حكاية «هنْسل وغريتل» وعندئذٍ يُقال إن مثل هذه الحكاية ما كان يجب أن تُروَى للطفل؛ لأن الاعتقاد أن الحكاية سبب الخوف. إن هذا التفسيرَ عقلنةٌ غير صحيحة، لكنه مع ذلك ينطوي على لب الحقيقة من حيث إن موضوع الساحرة هو أنسب تعبير عن مخاوف الطفولة، وقد كان كذلك دائمًا. إن هذا يُفسِّر لنا لماذا وجدت مثل هذه الحكايات أصلًا؛ فالرعب الذي ينتاب الأطفال ليلًا هو حادث نموذجي يتكرر دائمًا ويعبر عن نفسه دائمًا في هيئة موضوعات نموذجية نجدها «حكايات الحُور».
لكن هذه «الحكايات» ما هي إلا أشكال طفولية من الخرافات والأساطير مُستمَدة من «ديانة الليل» البدائية. إن ما أدعوه «ديانة الليل» هو الشكل السحري من الدين، يتداخل هدفه ومعناه مع القوى المظلمة والشياطين والسحرة والأرواح والأشباح. وكما أن «حكايات الحور» هي تكرار فيلوجيني (على مستوى النوع البشري) لديانة الليل القديمة، كذلك أن الخوف الطفولي هو تكرار للسيكولوجيا البدائية المتبقية في النوع.
أن يبدي مثل هذا الأثر المتبقي من السيكولوجيا البدائية حيوية معينة، إن هذا ليس بالأمر غير الطبيعي؛ لأن المخاوف الليلية ليست ظاهرة غير طبيعية بالضرورة، حتى عند البالغين الذين يعيشون تحت شروط متمدنة. والخوف الليلي لا يمكن اعتباره أمرًا غير طبيعي إلا إن كان على درجة عالية من عندئذٍ ينهض السؤال عن الظروف التي يشتد فيها خوف الليل. هل يمكن تفسير الشدة حصرًا بالنموذج البدئي الذي تعبر عنه الساحرة في «الحكاية»؟ أم يتعين علينا أن نسوق لها سببًا تفسيريًّا آخر؟
لذلك أذهب إلى تفسير الميول الرَّهَقية الممكنة عند الطفل من منطلق سيكولوجية الأبوين أكثر من تفسيرها من سيكولوجية الطفل، لذلك كان تكرار سبب المخاوف الطفولية الزائدة ناشئًا عن قابلية خاصة للعقدة جانب الأبوين، أي عن كبتهما وإهمالهما لمشكلات حيوية معينة. كل شيء يقع في نطاق الخافية فإنما يتخذ لنفسه شكلًا قديمًا نوعًا ما. فإذا كبتت الأم عقدة مؤلمة ومخيفة، فإنما تشعر بها روحًا شريرة تطاردها — «هيكلًا عظميًّا في الخزانة»، كما يقول الإنكليز. واتخاذ العقدة مثل هذا الشكل دليل على أنها اكتسبت قوة نموذج بدئي. تجثم فوق صدرها كالكابوس وتقض مضجعها الأحلام المزعجة. وسواء أقصَّت على ابنها «حكايات – كوابيس» أم لم تقصص، تنقل إليه العدوى من سيكولوجيتها الخاصة وتوقظ في عقله صور خوف نموذجية-بدئية؛ إذ ربما لديها تخيُّلات طليقة شهوانية تنصبُّ على رجل غير زوجها. وبما أن الطفل هو العلاقة المرئية على رابطتهما الزوجية، تتوجه مقاومتها لهذه الرابطة ضد الطفل من وراء واعيتها، الطفل الذي يجب أن تتبرأ منه. على المستوى القديم، يتوافق هذا مع «قتل الطفل». بهذه الطريقة تُمسي الأم ساحرة شريرة تأكل الأطفال.
في الابن كما في الأم تكمن هاجعةً إمكانياتُ الإنتاج القديم للصور، وإن نفس السبب الذي قام لأول مرة بإنتاج النموذج البدئي وترسيخه على مر التاريخ البشري يعود إلى تنشيط هذه الإمكانيات المنتجة للصور المرة تِلوَ المرة.
هذا وإنني ما تخيرت عن غير قصد هذا المثال على تَبَدِّي نموذج بدئي في الطفل. فقد بدأنا تساؤلاتنا بالسؤال عن أكثر النماذج البدئية التصاقًا بالإنسان، الصورة البدئية للأم التي هي الخبرة الأقرب والأقوى من جميع النواحي، وتحدث هذه الخبرة في أشد حقبة من حياة الإنسان قابلية للتأثُّر وبما أن الواعية في أثناء ذلك لا تكون نامية غير نمو ضعيف، لا نستطيع أن نتكلم عن خبرة «فردية» أصلًا. على العكس، إن الأم خبرة نموذجية-بدئية، يختبرها الولد غير الواعي نوعًا لا بصفتها شخصية مؤنثة مفردة محددة، بل بما هي «الأم» إطلاقًا، أي بما هي نموذج محمَّل بقدر كبير من المعاني الممكنة. وفيها تمضي الحياة قُدمًا، تخبو الصورة البدئية للأم، ويحل محلها صورة واعية فردية نسبيًّا، وهي الصورة التي يُفترض أنها الصورة الوحيدة التي نمتلكها عن الأم. لكن الأم تبقى في الخافية صورة بدئية قوية، تلوِّن، بل حتى تعيِّن، طوال الحياة، علاقتنا بالمرأة والمجتمع والعالم، عالم الشعور والواقع، ومع ذلك بطريقة بلغت من خفائها مبلغًا حتى الأصل ألَّا نجد معه إدراكًا واعيًا للسياق. إننا نظن أن هذا كله من قبيل المجاز. لكنه يصبح حقيقة ملموسة عندما يتزوج رجل من امرأة، لا لشيء إلا لأنها من بعض الوجوه تشبه أمه، أو لأنها لا تشبهها بصورة محددة جدًّا. الأم «جرمانيا» (ألمانيا) هي للألمان بمنزلة ما هي «فرنسا الحلوة» للفرنسيين صورة ذات أهمية عظمى خلف المشهد السياسي، لا يَغضُّ النظر عنها إلا مَن عميت بصيرته. الرحم المحيطة بكل شيء، وهي رحم الكنيسة-الأم، قد تكون كل شيء إلا مجازًا. وهذا يصح على الأرض-الأم، والطبيعة-الأم، وعلى «المادة» عمومًا.
هكذا الأب أيضًا نموذج بدئي شديد القوة يسكن في نفس الطفل. في بادئ الأمر، يكون «الأب» بإطلاق، وصورة لله تحيط بكل شيء، ومبدأ للقدرة. وفي مجرى الحياة تنكفئ هذه الصورة الاستبدادية إلى عمق القاع: يعود الأب شخصية محددة غالبًا مفرطة في بشريِّتها. لكنَّ صورة الأب، من ناحية أخرى، تُنمِّي أهميتها الكامنة إلى أقصى حد. وكما أن الإنسان قد تأخر في اكتشاف الطبيعة، كذلك لم يكتشف إلا تدريجيًّا القانون والواجب والمسئولية والدولة والروح. وفيما تصبح الواعية الوليدة أقدر على الفهم، تتضاءل الشخصية الأبوية. يحتل مجتمع الرجال مكان الأب، وتحتل العائلة مكان الأم.
وفي نظري أنه من الخطأ القول إن جميع هذه الأشياء التي تحل محل الأبوين ما هي إلا عِوَض عن الخسارة التي لا يمكن تفاديها، خسارة الصورة الأبوية البدئية. إنَّ ما يظهر في مكان ليس مجرد عوض، بل حقيقة تناسجت مع الأبوين وتركت بصمتها على عقل الطفل عن طريق الصورة الأبوية. والأم التي تمنح الدفء والحماية والغذاء هي أيضًا الموقد والملجأ والكوخ والخضرة المحيطة. هي حقل الادِّخار، وابنها هو الحب الشبه الإلهي، أخو الإنسان وصديقه. وهي البقرة الحلوب والقطيع. أما الأب فيسعى خارج البيت، يتحادث مع رجال آخرين، يقنص، يرحل، يحارب، يترك العنان لطباعه السيئة أن تنفجر كالرعود القاصفة. وتحت تأثير أفكار غير مرئية سرعان ما يغير الوضع كله كما تفعل العاصفة. هو الحرب والسلاح، وسبب جميع التغيرات. هو الثور المهتاج للعنف، أو المستعد للكسل، لا يبالي بشيء. هو صورة لجميع القوى العنصرية النافعة والضارة.
جميع هذه الأشياء هي المباشرات الأولى في حياة الطفل، ترتطم به، مباشرة أو مداورة، من خلال أبوَيْه. وفيما تنكفئ الصورة الأبوية-الأمومية وتَتَأنْسَن تبدأ جميع تلك الأشياء التي بدت أول مرة فقط مثل قاع خلفية أو ممثل آثار هامشية — تبدأ تطلع بوضوح أكبر. التراب الذي يلعب به، والنار التي يتدفأ عليها، والمطر والهواء اللذان يلفحانه بالبرد — كل هذه كانت حقائق دائمًا، لكنه ما كان يراها ولا يفهمها إلا صفات لأبوَيه بسبب من وعيه الشفقي. ثم تطلع المظاهر المادية والحركية للأرض، كما يطلع الخارج من ضباب، وتُسفِر عن نفسها باعتبارها قوًى بما لها من حقٍّ خاصٍّ بها، فلا تعود إلى ارتداء أقنعة الأبوين. وهي في هذا ليست عِوضًا عن شيء سواها، بل حقيقة تتفق مع أعلى مستويات الوعي.
ومع ذلك فهناك شيء ضائع مع هذا النمو، هو الشعور بالوحدة مع الأبوين، وهو شعور لا يمكن أن يحل محله شيء آخر. إن هذا الشعور ليس مجرد عاطفة، بل حقيقة سيكولوجية هامة أسماها ليفي بروهل، في سياق بحث مختلف كليًّا عن هذا البحث، أسماها «المشاركة الصوفية». إن الحقيقة التي يدل عليها هذا الاصطلاح الذي لا يُفهم رأسًا تلعب دورًا عظيمًا في سيكولوجية البدائيين كما في علم النفس التحليلي. وقد نصوغ هذه الفكرة في إيجاز فنقول إنها حالة من التواحُد في الخافية. وقد أزيد الفكرة شرحًا بالقول: لو أن نفس العقدة تجمَّعت لدى شخصَين في وقتٍ واحدٍ، لأحدَثَت أثرًا عاطفيًّا بارزًا، إسقاطًا يسبِّب إما تجاذُبًا أو تنافُرًا فيما بينهما. وعندما يكون لديَّ ولدى شخص آخر صلة خفيَّة وغير شعورية بنفس الحقيقة الهامة، أصبح متواحدًا معه جزئيًّا. وبسببٍ من هذا التواحُد، أتوجَّه إليه كما لعَلِّي أتوجه إلى العقدة المعنيَّة لو كنت واعيًا لها.
تسود هذه الحالة من المشاركة الصوفية بين الآباء والأبناء. مثال شهير معي كذلك، الأم التي تواحد نفسها مع ابنتها، ومن خلالها تتزاوج من صهرها؛ أو الأب الذي يحسب أنه يرعى صالح ابنه عندما يجبره ساذجًا على تلبية رغباته، مثلًا في الزواج أو اختيار المهنة. والابن الذي يُواحِد نفسه مع أبيه هو أيضًا مثال شهير جدًّا. لكن بين الأم والابنة رابطة وثيقة يمكن في حالات معينة إثباتها فعلًا بطريقة التداعي. رغم أن المشاركة الصوفية حقيقة خفية لا يشعر بها الشخص المَعنِي، إلا أنه يشعر بتغيير عندما يفتقدها. هناك دائمًا فرق بين سيكولوجية إنسان ما زال أبوه على قيد الحياة وآخر أبوه ميت. وما دامت المشاركة الصوفية مع الأبوَين قائمة، فقد يظل أسلوبٌ طفوليٌّ نسبيًّا من الحياة قائمًا. وعن طريق المشاركة الصوفية، تُضَخ فينا الحياة من الخارج في هيئة دوافع خفية لا نشعر أننا مسئولون عنها؛ لأنها دوافع غير واعية. وبسبب هذه الخافية الطفولية، يخف علينا عبء الحياة، أو على الأقل يبدو لنا أنه كذلك. والإنسان ليس فردًا واحدًا، بل هو موجود في ثنائيات أو ثلاثيات. وفي التخيُّل يكون الابن في حجر أمه، وفي كنف أبيه. والأب يولد ثانيةً في ابنه — على الأقل حلقةً في سلسلة الحياة الأبدية. الابنة تجد شباب أبيها في زوجها الشاب وبذلك لا تفقد صباها. لا حاجة بي إلى إيراد أمثلة من السيكولوجيا البدائية، حسبنا أن نشير إليها.
كل هذا يتلاشى مع اتِّساع الواعية وتكاثُفها. ويؤدي سياق امتداد الصور الأبوية-الأمومية على وجه العالم، بل على وجه العالم الطالع من ضباب الطفولة — يؤدي هذا السياق مهمة فصل الوحدة الخفية غير الشعورية بين الابن وأبوَيه. وعند الأقوام البدائية نجد هذا الفصل يُؤدَّى شعوريًّا في طقوس الانتقال من سن الطفولة إلى سن الرجولة. بهذا الطقس، يُصار إلى إلقاء النموذج البدئي الذي يمثله الأب والأم إلى القاع الخلفية. لقد تبدَّد بعد تكثُّف، وتفرَّق بعد تجمُّع. لقد حلَّ محله الآن نوعٌ جديدٌ من المشاركة الصوفية، هي وحدته مع القبيلة أو المجتمع، مع الكنيسة أو الأمة. هذه المشاركة عمومية وغير شخصية، وهي، فوق كل شيء، لا تعطي الخافية غير حيز ضئيل جدًّا. وكل مَن يُفرِط في عدم الوعي والثقة الزائدة والسذاجة، سرعان ما يهزه القانون والمجتمع لكي يعي نفسه والعالم. لكنَّ النضج الجنسي يصحب معه أيضًا إمكانية مشاركة صوفية جديدة، وبذلك يحل محل ذلك الجزء من الشخصية الذي أضعناه في المواحد مع الأبوَين. هوذا نموذج بدئي جديد يتجمع: في الرجل النموذج البدئي للمرأة، وفي المرأة النموذج البدئي للرجل. لقد كان هذان النموذجان متسترَين أيضًا خلف قناع صورتَي الأبوَين، لكنهما الآن يدلفان إلى المقدمة سافرَين، حتى وإن كانا متأثرَين جدًّا بصورتَي الأبوَين، وغالبًا ما يكون الأمر على هذا النحو. لقد أسميت النموذج البدئي المؤنث في الرجل ﺑ «الأنيمة»، والنموذج البدئي المذكر في المرأة ﺑ «الأنيم» لأسباب خاصة سوف أبيِّنها فيما بعد.
كلما كان الرجل متأثرًا، أو المرأة متأثرة، تأثُّرًا غير شعوري بصورة الأبوَين، يكون اختيار شخص المحبوب كتعويض إيجابي أو سلبي عن الأبوَين أمرًا مؤكدًا. على أننا يجب ألا نعتبر التأثير البعيد المدى الذي تُحدِثه الصورة الأبوية أمرًا غير طبيعي، بل هو أمر طبيعي جدًّا، ولذلك هو ظاهرة شائعة جدًّا. في الحقيقة، من الهام جدًّا أن يكون الأمر كذلك، إذ لو لم يكن كذلك لم يُولد الآباء (والأمهات) في الأبناء، ولأصبحت الصورة الأبوية مفقودة تمامًا، وبفقدها تتوقف كل استمرارية في حياة الفرد. وعندئذٍ لا يستطيع أن يربط طفولته بحياته الراشدة، فيظل تبعًا لذلك طفلًا من حيث لا يشعر — وهذا الوضع يُعتبَر أفضل أساس ممكن للعصاب. وعندئذٍ أيضًا يُعانِي من جميع الأمراض التي يُعانِي منها محدثُو النعمة الذين لا تاريخ لهم، لا فرق إن كانوا أفرادًا أو جماعات.
من الطبيعي أن يتزوج الأولاد من أبوَيهم بمعنًى ما؛ لأن هذا هامٌّ سيكولوجيًّا بمقدار ما هو ضرورة بيولوجية أن تُحقن شجرةُ الأجداد بدمٍ جديدٍ إن كان لها أن تنتج سلالة جديدة؛ فهو يضمن الاستمرارية، وإطالة معقولة للماضي في الحاضر. والضرر لا يتأتَّى إلا من الإفراط أو التفريط في هذا الاتجاه.
ما دام شبه الأبوين عاملًا حاسمًا، إيجابيًّا أو سلبيًّا، في اختيار المحبوب، يظل التحرر من الصورة الأبوية، وبالتالي الطفولة، تحرُّرًا غير تام. على الرغم من أن الطفولة يجب أن تظل موجودة في الشباب من أجل الحفاظ على الاستمرارية التاريخية، إلا أن هذا يجب ألا يكونَ على حساب المزيد من النمو. عندما تخبو آخر ومضة من وهم الطفولة — وهذا يكون عندما ندلف إلى منتصف العمر — يجب أن نعترف أن هذا لا ينطبق إلا على حياة شبه مثالية؛ لأن كثيرين يظلون أطفالًا حتى قبورهم — عندئذٍ يطلع النموذج البدئي الذي يُمثِّل الرجل الناضج والمرأة الناضجة من الصورة الأبوية: صورة الرجل كما عرفَته المرأة منذ بدء الزمان، وصورة المرأة التي يختزنها الرجل في داخله أزلًا.
في الحقيقة، هناك رجال كثيرون يستطيعون أن يصفوا صورة المرأة التي يحملونها في عقولهم وصفًا يصل إلى حدِّ التفصيلات الجزئية. (قابلت بضع نسوة استطعن أن يعطين صورة تامة عن النموذج البدئي للرجل.) فكما أن الصورة البدئية للأم صورة مركبة من جميع الأمهات السابقات، كذلك أن صورة الأنيمة لا تمثلها امرأة بعينها. ويصح هذا إلى درجة تتكشف فيها الصورة عن ملامح متطابقة عند الرجال الذين يختلفون فرديًّا اختلافًا كبيرًا، حتى ليكاد أحدهم أن يعيد إنشاء نموذج محدد للمرأة منها. أبرز السمات التي يتصف بها نموذج الأنيمة انعدام عنصر الأمومة منه. هي الرفيق والصديق في جانبها الملائم، وهي الفاجرة في جانبها غير الملائم. غالبًا ما نجد هذه النماذج موصوفة في منتهى الدقة بكل أوصافها البشرية والشيطانية في القصص الخيالية، كقصة «هي» و«حكمة ابنة» لرايدر هَغَارد، و«الأطلانطيد» لبنوا، وبصورة مجزَّأة في الجزء الثاني من «فاوست»، في شخص هيلين. لكن نموذج الأنيمة تعرضه في أبرز ملامحه وأضخمها الأسطورة الغنوصية عن سيمون ماغوس، الذي يظهر صورة كاريكاتورية عنه في أعمال الرسل (٨: ٩–٢٤). وفي «حكمة ابنة» لرايد هغارد، حيث نستطيع أن نتأكد من أن ما كان هناك كان استمرارية واعية.
إن غياب العنصر الأمومي يدل على التحرُّر التام من صورة الأم من ناحية، ومِن ناحية ثانية على فكرة العلاقة البشرية الصرفة التي تفتقر إلى الحافز الطبيعي على التناسل. إن الغالبية العظمى من الناس على المستوى الراهن من الثقافة لا تتقدم إلى ما وراء المعنى الأمومي للمرأة، وهذا هو السبب الذي يجعل الأنيمة إلا قليلًا إلى ما وراء المستوى الطفولي والبدائي للعاهرة. وقد ترتَّب على ذلك أن يكون البِغاء أحد النواتج المصاحبة الرئيسية التي تنتج عن الزواج المتحضِّر. غير أننا نجد في أسطورة سيمون، وفي الجزء الثاني من فاوست رموزًا للأنيمة تامة النضج. وهذا النمو الناضج مرادف للنمو بعيدًا عن الطبيعة. ومشكلة النمو الناضج هذه تمسك بها مُثُل عُليَا رهبانية مسيحية وبوذية، لكن على حساب الجسد دائمًا. فقد أخذت إلهات وأنصاف إلهات مكان المرأة لا تنمو البشرية الشخصية التي يفترض أن تكون الحامل لإسقاطات الأنيمة.
هنا أجدني أمَسُّ إقليمًا خلافيًّا جدًّا، وليس بي رغبة أن أتوغَّل فيه إلى أبعد هذه النقطة. خير لنا أن نعود إلى مشكلة أبسط، أعني المشكلة المتعلقة بكيفية التعرف على وجود مثل هذا النموذج البدئي المؤنث.
إن القدرة على ضبط النفس مَثَل أعلى مذكر، لا يتم تحقيقه إلا بضبط العواطف. والعواطف فعاليات مؤنثة نوعيًّا. وبما أن الرجل في محاولته بلوغ مثله الأعلى للرجولة يكبت جميع الملامح المؤنثة — التي هي في الحقيقة جزء منه كما أن الملامح المذكرة جزء من سيكولوجية المرأة — يكبت أيضًا عواطف معيَّنة باعتبارها ضعفًا ذا طابع أنثوي. وهو إذ يفعل هذا فإنما يراكم عواطفَ أنثوية في خافيته، حتى إذا انفجر غاضبًا فضح وجود كائن مؤنث فيه. وكما نعلم من الخبرة: الرجلُ الرجلُ (أي المبالغ في الاعتداد برجولته) أكثر الناس وقوعًا تحت رحمة المشاعر المؤنثة. إن هذا قد يُفسِّر لنا التعاظُم الشديد في حوادث الانتحار بين الرجال، كما يُفسِّر لنا لماذا تُنمِّي النسوة مؤنثات جدًّا قوةً وخشونةً خارقتَين للعادة، فلو درسنا باعتناء عواطف غير منضبطة لرجل، وحاولنا إعادة إنشاء الشخصية المحتملة الكامنة تحتها، إذن لوصلنا إلى شخص مؤنث أسميه «الأنيمة». وعلى نفس الأساس فهم القدماء روحًا مؤنثًا، أو «نفسًا»، أو «أنيمة».
عند النساء تنقلب القضية. فإذا انفجر «الأنيم» في المرأة، لا يتخذ مظهر العواطف غير المنضبطة كما هو الحال عند الرجل، بل تروح المرأة تحاجج وتُعاقل. وكما أن عواطف الأنيمة في الرجل استبدادية ومتقلبة، كذلك الحجج المؤنثة غير منطقية وغير عقلية. ولعلنا نستطيع أن نتكلم عن تفكير الأنيم أنه تفكير صحيح دائمًا، وأنه يجب أن تكون له الكلمة الأخيرة دائمًا، وينتهي دائمًا بعبارة «إن هذا هو السبب بالضبط!». لئن كانت الأنيمة في الرجل عاطفة غير عقلية، فإن الأنيم في المرأة تفكير غير عقلي.
إلى حدِّ ما وصلت إليه خبرتي، يستطيع الرجل أن يفهم المقصود من الأنيمة بدرجة قريبة من السهولة دائمًا؛ لأنه غالبًا ما يكون لديه صورة لها محددة تمامًا حتى ليستطيع أن يميز في مجموعة مختلفة النساء المرأة الأقرب من نموذج الأنيمة. ووجدت أن الأصل ألَّا تفهم المرأةُ ما هو الأنيم إلا بصعوبة شديدة، وأنا ما قابلت امرأة قط استطاعت أن تقول لي شيئًا محددًا عن شخصيته. من هذا أخلص إلى أن الأنيم ليس له شخصية محدَّدة على الإطلاق؛ بعبارة أخرى، الأنيم ليس وحدة بل كثرة. يجب أن ترتبط هذه الحقيقة على نحو من الأنحاء بالسيكولوجية النوعية الخاصة بالرجال والنساء. فعلى المستوى البيولوجي، ينصب اهتمام المرأة على أن تحظى برجل، بينما يتجه اهتمام الرجل نحو غزو امرأة، وبسببٍ من طبيعته قلما يتوقف عند غزوة واحدة. هكذا تلعب شخصية مُذكرة واحدة دورًا حاسمًا في حياة المرأة، بينما تكون علاقة الرجل بالمرأة أقل تحديدًا بكثير؛ إذ يستطيع الرجل أن يعتبر زوجته كواحدة في جملة نساء كثيرات. وهذا ما يجعله يلقي توكيدًا على الصفة التشريعية والاجتماعية للزواج، على حين ترى المرأة في الزواج علاقة شخصية ليس غير. لهذا السبب، كان الأصل أن تكون واعية المرأة مقيَّدة إلى رجل واحد، وأن يكون في واعية الرجل ميل إلى الذهاب إلى ما وراء العلاقة الشخصية، وهو ميل يتعارض أحيانًا مع كل قيد شخصي. لذلك نتوقع أن تتولى الخافية القيام بالتعويض بواسطة الأضداد. ويحقق هذا التعويض في الرجل شخص الأنيمة المحدد تحديدًا شديدًا، كما يحقق هذا التعويض في المرأة الأنيم ذو الأشكال الكثيرة وغير المحدد.
هنا بودي أن أحترس من سوء فهم أخشى أن يقع فيه القارئ. إن مفهوم «الروح» الذي أستعمله الآن قد يكون أشبه بالفكرة البدائية عن الروح، مثلًا «روح-با» و«روح-كا» عند المصريين، منه بالفكرة المسيحية عنها، هذه الفكرة التي ما هي إلا محاولة لاستنباط بناء فلسفي من ماهية فردية ميتافيزيقية. إن مفهومِي للروح لا علاقة له مطلقًا بهذا المفهوم؛ لأنه مفهوم ظاهراتي صرفًا؛ فأنا لا أريد الانغماس في صوفية سيكولوجية، بل كل ما أريد فعله محاولة أن أفهم فهمًا علميًّا الظاهرات النفسية الابتدائية التي تكمن تحت الإيمان بالأرواح.
بما أن جملة الحقائق التي تمثلها الأنيمة والأنيم تنطبق أفضل انطباق على وصف «الروح» الذي وصفتها به جميع الشعوب في كل الأزمنة، فلا عجبَ أن يأتيا معهما بجوٍّ صوفي ليس قليل الشيوع كلما حاولنا أن ندرس محتوياتهما عن كثب. كلما أُسقِطت الأنيمة أحاطت نفسها رأسًا بشعور تاريخي خاص عبَّر عنه غوتيه بالكلمات: «في أزمنة غبَرَت كنت زوجتي أو أختي». وكان على رايدر هغارد وبنوا أن يرجعا إلى اليونان ومصر لكي يُعبِّرا عن هذا الشعور التاريخي المِلحاح.
يا للغرابة، يبدو الأنيم وكأنْ لا وجود له بهذا المعنى الصوفي للتاريخ. كِدت أقول إنه معنِيٌّ أكثر بالحاضر والمستقبل. ولديه نزعات تشريعية، مفضلًا أن يتكلم بطريقة مفخَّمة عن الأشياء كما يجب أن تكون، أو يُعطي حكمًا قاطعًا على أكثر المسائل غموضًا وخلافية، وبصيغة إيجابية يجعل المرأة خالصة من كل تفكير آخر (ولعله باعث على مزيد من الألم).
مرة أخرى، لا يسعني تفسير هذا الفرق إلا على أساس أنه تعويض بالأضداد. الرجل، في فعاليته الواعية، يُعِد العُدة للمستقبل ويعمل على خلقه، بينا من السمات الأنثوية نوعيًّا أن «يهرش» المرء رأسه بحثًا عن مسائل من مثل من هي عمَّةُ عمَّةِ فلان. لكنَّ هذا الهوس المؤنث بالأنساب هو الذي يبرز بكل جلاء عند رايدر هغارد، مزخرفًا بعاطفة أنكلوسكسونية، وعند بنوا يُقَدم نفسُ الشيء مع مزيج مُتَبَّل من مرض مزمن فاضح، وتحوم بقوة حول أنيمة الرجل تلميحات عن التقمص في هيئة مشاعر غير عقلية، بينما تقبل المرأة أحيانًا بصورة واعية بمثل هذه المشاعر إذا لم تُفرِط في وقوعها تحت سيطرة عقلانية الرجل.
يتصف هذا الشعور التاريخي دائمًا بعظم الشأن والجبرية، ولذلك يؤدي رأسًا إلى مشكلات الخلود والألوهية. حتى «بنوا» العقلاني الشكاك يصف الذين ماتوا من الحب لا ينال البلى من أجسادهم بل تظل محافظة على رونقها بطريقة من التحنيط فعالة وغريبة، ناهيك عن صوفية رايدر هغارد التي بلغت ذروتها في «عائشة: عودة هي»، العمل الذي يعتبر وثيقة سيكولوجية الطراز الأول.
أما الأنيم الذي لا يتمتع بهذه الصفات العاطفية فيبدو أنه يفتقر كليًّا إلى الجانب الذي أتيت على وصفه، لكنه مع ذلك تاريخي العقل، في جوهره الأعمق، كالأنيمة تمامًا. لكننا، لسوء الحظ، نفتقر إلى أمثلة أدبية كثيرة على الأنيم؛ إذ يبدو أن كاتبات النساء عاجزات عن نوع من التبصِرة الساذجة، أو هن على الأقل يؤثِرنَ المحافظة على نتائج تبصِرتهنَّ في طابق آخر، ربما لأنه لا يرتبط به شعور. لا أعرف غير وثيقة حيادية واحدة من هذا النوع، وهي رواية من تأليف ماري هاي «الكرْم الشرير». في هذه القصة البعيدة جدًّا عن الادعاء يطلع العنصر التاريخي في الأنيم تحت قناع ذكي من المؤكد أن المؤلفة لم يكن في نيتها أن تظهره كذلك.
في رواية ماري هاي تدفع المرأة زوجها نحو الجنون بموقفها القائم على الخافية وعلى مُسَلمة غير منطوقة مفادها أنه طاغية فظيع يمسك بها أسيرة بنفس الطريقة التي قام بها … أما الطرف الآخر من التشبيه فقد تركت أمر تفسيره إلى زوجها الذي اكتشف في النهاية الشخص المناسب له في خمسمائة طاغية تواحد معهم، وأضاع عقله نتيجةً لذلك، لذلك ليس يعوز الأنيمَ العاقلُ التاريخي. لكنه يعبر عن نفسه بطريقة تختلف اختلافًا أساسيًّا عن الطريقة التي تتبعها الأنيمة. وفي المسائل الدينية المتصلة بالأنيم تسود ملكات الحكم والتفكير، تمامًا كما تسود ملكات الشعور في حالة الرجل.
أخيرًا، بودي أن أبين أن الأنيمة والأنيم ليسا هما الشكلين المستقلين أو «الروحين» الوحيدين في الخافية، رغم أنهما عمليًّا الأكثر مباشرة والأكثر أهمية. لكن، بما أنني أود أن أتطرق أيضًا إلى جانب آخر من مشكلة العقل والأرض، فقد أترك هذا الميدان الصعب من الخبرة الداخلية البالغة الخفاء وألتفت إلى الجانب الآخر حيث لا نعود نتلمَّس طريقنا بحثًا عن القاع المظلمة التي ينهض عليها العقل، بل نخوض في العالم الأوسع؛ عالم الأشياء اليومية.
كما أن العقل عيَّنته شروط أرضية في سياق التطور، كذلك نجد السياق نفسه يتكرر اليوم أمام أعيننا. لنتصور قسمًا كبيرًا من أمة أوروبية زرعناه في أرض غريبة وإقليمٍ آخر، فقد نتوقع واثقين أن تخضع هذه المجموعة البشرية إلى تغييرات نفسية معينة، وربما فيزيائية أيضًا، على مدى بضعة أجيال، حتى بدون أن تمتزج بدماء أجنبية. ولعلنا نستطيع أن نلاحظ في اليهود الذين ينتمون إلى بلدان أوروبية مختلفة فروقات بارزة لا تفسير لها إلا من خلال خصائص الشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها. ليس من الصعب التمييز بين يهودي إسباني ويهودي يقطن شمالي أفريقيا، أو بين يهودي ألماني ويهودي روسي. حتى ليمكننا التمييز بين نماذج مختلفة من اليهودي الروسي واليهودي البولوني من نموذج اليهودي الروسي الشمالي والقوزاقي. على الرغم من التشابه العرقي، هاك فروقات كبيرة غامضة الأسباب. ولعله من أصعب الأمور تحديد هذه الفروقات تحديدًا دقيقًا، لكن طالب علم الطبيعة البشرية يشعر بها على الفور.
وقد استوقفني شيء آخر أيضًا، ذلكم هو التأثير العظيم الذي تركه الزنوج، وهو تأثير سيكولوجي طبعًا لا يرجع إلى اختلاط الدم. الطريقة العاطفية التي يعبر بها الأمريكي عن نفسه، خصوصًا الطريقة التي يضمك بها، يمكن أن ندرسها أفضل دراسة في الملاحق المصورة من الصحف الأمريكية؛ فالضحكة التي يضحكها تيدي روزفلت، وهي ضحكة لا تُحاكى، نجدها في هيئتها البدئية في الزنجي الأمريكي. والمشية الغريبة ذات المفاصل المرتخية، أو تأرجح الوركين الذي كثيرًا ما نلاحظه في الأمريكيين، هما أيضًا آتيان من قِبَل الزنوج. والموسيقى الأمريكية، وكذا الرقص، مستوحيان من موسيقى الزنوج ورقصاتهم. والتعبير عن الشعور الديني المتمثل في الاجتماعات الصاخبة، والدحروجات المقدسة، وغير ذلك من الممارسات الشاذة، كل ذلك ناتج عن تأثير الزنوج. كذلك السذاجة الأمريكية التي تأخذ بمجامع القلوب وفي شكلها المنفر أيضًا، إنما تستدعي مقارنتها مع طفولية الزنجي. كذلك حيوية الأمريكي المتوسط، التي لا تظهر في ألعاب البيسبول وحسب، وإنما في حُبه الخارق للكلام على وجه الخصوص — أبلغ مثال على ذلك الثرثرة التي لا تنقطع في الصحف الأمريكية — الذي لا يُمكن أن يكون مستمَدًّا من أجداده الجرمان، لأنه أشبه كثيرًا ﺑ «طق الحنك» في قرية زنجية. كذلك الافتقار إلى الخصوصية الذي يكاد أن يكون كليًّا، والاندماج في الجماعة التي تلتهم كل شيء، يذكرنا بالحياة البدائية في الأكواخ المفتوحة، حيث التواحُد التام مع جميع أفراد القبيلة. وقد بدا أن البيوت الأمريكية مشرعة الأبواب في كل الأوقات، تمامًا مثلما لا يوجد أسيجة حول الحدائق في المدن والقرى الأمريكية.
طبعًا، من أصعب الصعب تقرير مقدار ما قد يرجع من هذا كله إلى معايشة الزنوج، ومقدار ما قد يرجع منه إلى كون أمريكا ما زالت أمةً رائدةً على تربة عذراء. لكن مع اعتبار هذين العاملَين جملة، لا يمكننا أن نخطئ التأثير الكبير للزنوج على الشخصية العامة للشعب.
طبعًا نستطيع أن نلاحظ هذه العدوى البدائية أيضًا في بلدان أخرى، وإن كان ذلك ليس إلى نفس الدرجة وفي نفس هذا الشكل. في أفريقيا، مثلًا، يشكل الرجل الأبيض أقلية متناقضة، وقد تعيَّن عليه لهذا السبب أن يحمي نفسه من الزنوج عن طريق مراعاة قواعد اجتماعية صارمة، وإلا خضع للتأثير البدائي وفقد هويته. أما في أمريكا فالزنجي، بما أنه يعيش في أقلية، ليس له تأثير يمكن وصفه بعدم الملاءمة — إلا إذا اتفق أن كان امرؤٌ مصاب ﺑ «فوبيا الجاز» (الخوف من الجاز).
الشيء الذي يسترعي الانتباه أننا لا نلاحظ إلا القليل، أو لا نلاحظ شيئًا، من التأثير الهندي. لكن المشابهات الفيزيونومية التي تَقدَّم ذكرها لا تشير إلى أفريقيا بل هي أمريكية بصفة خاصة. هل يصدر عن الجسد رجعٌ (= رد فعل) على أمريكا، وعن النفس رجع على أفريقيا؟ يجب أن أجيب عن هذا السؤال بالقول إن السلوك الخارجي وحده هو الذي يخضع إلى تأثير الزنوج، لكن ما يجري في داخل النفس يجب أن يخضع إلى مزيد بحث.
من الطبيعي أن يلعب الزنوج في أحلام مرضاي من الأمريكيين دورًا غير صغير تعبيرًا عن الجانب الأقل شأنًا من الشخصية. كذلك قد يحلم الأوروبي بمتشردين أو غيرهم ممن يمثلون الطبقات الدنيا. لكن بما أن الأكثرية العظمى من الأحلام، خصوصًا أحلام المراحل الأولى من التحليل، أحلام سطحية، لم أعثر على رموز ذات صلة بالهنود إلا في مجرى تحليلات عميقة وشاملة جدًّا. والاتجاه التقدُّمي في الخافية، كما يُعبِّر عنه في موضوع البطل، يتخير الهندي رمزًا له، تمامًا كما تحمل قطعٌ نقديةٌ معينةٌ من الاتحاد رأسَ هندي. إن هذا ضريبة تُدفع إلى الهندي الذي كان بغيضًا في وقت ما، لكنه يشهد أيضًا بأن موضوع البطل يتخير الهندي شخصًا مثاليًّا. يقينًا لم يخطر ببال إدارة أمريكية أن تفكر في ضرب قطعة نقدية تحمل رأس زنجي. تفضل الحكومات الملكية رأس ملك رمزًا للبطل، على حين تعتمد الحكومات الديمقراطية رموزًا أخرى كمُثُل عليا. لقد أعطيت مثالًا مفصَّلًا عن صورة مماثلة للبطل الأمريكي في كتاب «رموز التحوُّل»، وبوسعي أن أضيف عشرات غيره.
البطل هو دائمًا تجسيد لأعلى وأقوى ما يتطلع إليه الإنسان، أو هو ما يجب أن يكون عليه هذا التطلع مرفوعًا إلى مرتبة مثل أعلى، وأعلى ما قد يحققه عن طيب خاطر. وإنه لأمر ذو أهمية بالغة أن نعرف نوع التخيُّل الطليق الذي يُكوِّن موضوع البطل. في تخيل الأمريكي للبطل تلعب شخصية الهندي دورًا رئيسيًّا. إن مفهوم الأمريكي عن الرياضة يذهب إلى أبعد ما تذهب إليه المفاهيم الأوروبية المريحة؛ فالقسوة والوحشية اللتان تتبدَّيان في التدريب الصارم الذي يأخذ الأمريكي نفسه به لا يمكن مقارنتهما إلا بالقسوة والوحشية اللتين تتبديان في طقوس استلام الأسرار التي يمارسها الهنود. لذلك كان أداء الرياضيين الأمريكيين يدعو إلى الإعجاب. في كل شيء يضع الأمريكي عليه قلبه فعلًا ندرك لمحة للهندي … فتركيزه الخارق للعادة على هدف مخصوص، وتشبُّثه بغايته، وتحمُّله الذي لا يتزعزع لأعظم المصاعب — في كل هذا تجد الفضائلُ الخرافيةُ التي يتصف بها الهندي كاملَ تعبيرها.
إن موضوع البطل لا يؤثر في الموقف العام من الحياة وحسب، وإنما يؤثر في مسائل الدين أيضًا. كل موقف يتخذ صفة الإطلاق فهو موقف ديني، وفي الناحية التي يميل فيها الإنسان إلى منحها صفة الإطلاق، هناك تكون ديانته لقد وجدت في مرضاي الأمريكيين أنَّ شخص البطل عندهم يرتدي قسمات من ديانة الهنود. أهم شخص في ديانة الهنود هو الشامان أو الساحر أو مُحضِّر الأرواح. وقد كان الاكتشاف الأمريكي الأول في هذا الميدان — وقد تَبنَّته أوروبا — هو «الروحانية»، والثاني «العلم المسيحي» وأشكال أخرى من الشفاء العقلي … والعلم المسيحي طقس يُمارَس من أجل طرد الأرواح الشريرة. تطرد عفاريت المرض بتلاوة تعازيم مناسبة تتلى على الجسم الذي استعصى مرضه. أما المسيحية، التي هي نتاج مستوًى رفيع من الثقافة، فتستعمل سحرًا شفائيًّا. لكن العلم المسيحي، رغم فقر محتواه الفاضح، يظل قوة حية؛ يتمتع بقوة مُستمَدة من التربة، ويمكنه تبعًا لذلك أن يجترح المعجزات التي يُبحَث عنها بلا طائل في الكنائس الرسمية.
هكذا يعرض الأمريكي صورة غريبة: أوروبا في سلوك زنجي وروح هندي. يشارك جميع من يغتصبون أرضًا غير أرضهم قدرهم. يؤكد بعض الأستراليين البدائيين أن الإنسان لا يستطيع أن يغزو أرضًا أجنبية؛ لأن أرواح أسلاف غريبة قاطنة فيها ما تلبث حتى تتقمص في المولودين الجدد. في هذا التوكيد حقيقة سيكولوجية عظيمة؛ فالأرض الأجنبية تتمثل الغازي، لكن غزاة شمالي أمريكا الشمالية، خلافًا للغزاة اللاتين الذين غزوا أمريكا الوسطى والجنوبية، ظلوا يحتفظون بمستوياتهم الأوروبية في أقسى ما يكون من الطهرانية، رغم أنهم لم يستطيعوا أن يمنعوا أرواح أعدائهم من الهنود من أن تصير أرواحًا لهم. كل أرض عذراء تسبب على الأقل لخافية الغازي أن تغوص إلى مستوى سكانها الأصليين. هكذا يوجد في الأمريكي فرق بين الواعية والخافية لا نجده في الأوروبي، وتوتر بين مستوًى من الثقافة عالٍ إلى أقصى حد من العلو في الواعية وبين بدائية في الخافية. هذا التوتر يمنح الأمريكي قدرة نفسية هائلة وروحًا لا تتزعزع في بحثها عن المغامرة وحماسًا يُحسَد عليه لا نعرفه نحن في أوروبا. إن مجرد كوننا ما زلنا نمتلك أرواح أسلافنا، وكون كل شيء بالنسبة إلينا منغمسًا في التاريخ، يجعلنا على اتصال مع خافيتنا. لكننا واقعون في قبضة هذا الاتصال، ومشدودو الوثاق إلى الخطيئة التاريخية حتى لنحتاج إلى أفدح الكوارث لكي نفك إسارنا ونغير سلوكنا السياسي عما كان عليه لخمسمائة سنة خلت. إن صلتنا بالخافية تكبِّلنا إلى الأرض وتجعل من الصعب علينا أن نتحرك، وهذا ليس في صالحنا عندما يتعلق الأمر بالتقدُّمية وجميع حركات العقل الأخرى المرغوب فيها. ومع ذلك لا أريد أن أقدح في علاقتنا مع الأرض الأم الطيبة. لكن المتجذِّر في الأرض له معاناته. والانسلاخ عن الخافية وعن شروطها التاريخية يورث الانقطاع عن الجذور. ذلكم هو الخطر الذي يتربَّص بمن يغزو أرضًا غير أرضه، وبكل مَن يتولى ولاء أحادي الجانب. أي نوع من أنواع المذاهب والأيديولوجيات، أن يفقد الاتصال مع قاعدة وجوده الأرضية المظلمة الأمومية.