معنى علم النفس للإنسان الحديث
كنت دائمًا أواجه صعوبة شديدة في جعل معنى علم النفس مفهومًا لدى الجمهور الواسع. وترجع هذه الصعوبة إلى زمن كنت فيه طبيبًا في مشفًى للأمراض العقلية. وقعتُ يومئذٍ، شأن كل طبيب نفسي، على اكتشاف مدهش هو أننا لسنا نحن الذين نحمل آراءً صحيحة عن الصحة والمرض العقلي، بل جمهور العامة الذي يعلم دائمًا خيرًا مما نعلم بكثير. فهم يُنبِّئوننا أنَّ المريض لا يتسلق الجدران، ويعلم أين هو، ويتعرف على أقربائه، ولم ينسَ اسمه، وبالتالي ليس مريضًا؛ بل كل ما هنالك أنه يعاني من كآبة قليلًا، أو أنه مهتاج قليلًا، وأن تشخيص طبيب النفس أن الرجل يشكو هذه العلة أو تلك غير صحيح بالمرة.
هناك فعلًا نظريات نفسية مقبولة على نطاق واسع تبدأ من مُسَلمة أن النفس البشرية هي نفسها في كل مكان، وأنه يمكن تفسيرها تبعًا لذلك على نفس النحو بصرف النظر عن الظروف المحيطة. غير أنَّ الرتابة المروِّعة التي تفترضها هذه النظريات يَنقُضها أن الفروقات النفسية الفردية موجودة فعلًا وأنها قابلة لما يكاد لا يُحصى من المباينات. أضف إلى هذا أن إحدى النظريات تفسر عالم الظاهرات النفسية في صيغة الغريزة الجنسية، والأخرى في غريزة السيطرة. وكان من نتيجة هذا التضاد بين النظريتَين أن تمسَّكت كلٌّ منهما أشدَّ التمسُّك بمبدئها وأبدَت ميلًا واضحًا إلى إقامة نفسها مصدرًا وحيدًا للخلاص ولا شيء غيرها. لكن على الرغم من أن أتباع هاتين النظرتين يبذلون أقصى ما في وسعهم في تجاهل وجود إحداهما للأخرى، فإن هذه المواقف المتطرِّفة لا تفعل شيئًا من أجل حلِّ التناقض القائم بينهما. ومع ذلك فإن الجواب على اللغز بسيط إلى حدِّ السخافة. والجواب هو أن كلتا النظريتَين صحيحة بمقدار ما تصف كل منهما السيكولوجيا التي تشابه سيكولوجية أتباع كل منهما. بل لعلنا يمكننا القول مع غوتيه واثقين: «إنما يباري الروحَ مَن يفهمها».
عَودًا إلى موضوعنا. لننظر عن كثب في الانحياز الذي يستولي على ذوي العقول البسيطة، القائم على فكرة أن كل شخص سواهم هو مثلهم. فعلى الرغم من أن الفروقات النفسية مُسَلم بها عمومًا من حيث هي إمكانية نظرية، إلا أننا في التطبيق العملي ننسى دائمًا أن الشخص الآخر يختلف عنَّا وأن له فكرًا مغايرًا، وشعورًا مغايرًا، ورؤية مغايرة، وأنه يحتاج إلى أشياء مغايرة كل المغايَرة. حتى النظريات العلمية — كما رأينا — تبدأ من مُسَلمة أن الحذاء يقرص كل أحد في نفس المكان. بالإضافة إلى هذا الخصام المسلي الذي يجري فيما بين علماء النفس، هناك مُسَلمات أخرى تنادي بالمساواة، وهي مُسَلمات ذات طابع اجتماعي وسياسي، وهي أشد خطرًا؛ لأنها تنسى وجود النفس الفردية من الأساس.
بدلًا من أن أضيِّق على نفسي، في غير ما هدف، بهذه الآراء التي تدل على عقل ضيِّق ونظر قصير، رحت أتساءل لماذا كان وجودها أصلًا، وحاولت أن أكتشف أسبابَها. وقادني البحث إلى درس سيكولوجية الأقوام البدائية. وقد دُهِشتُ مدةً طويلة عندما وجدت في الذين ينحازون كثيرًا إلى مذهب التماثُل النفسي عند جميع الناس سذاجةً وطفولية. في المجتمع البدائي نجد هذا المذهب لا يقف عند الكائنات البشرية، بل يمتد حتى يشمل جميع أشياء الطبيعة من حيوان ونبات، وأنهار وجبال، وهلم جرًّا. في هذه الأشياء جميعًا شيء من سيكولوجية الإنسان، حتى الشجر والحجر يستطيع النطق. وكما أنَّ في البشر مَن لا تنطبق عليهم القاعدة العامة، ويُكرَّمون بوصفهم سحرةً وساحرات، شيوخًا وعرَّافين، كذلك إن في الحيوان ذئابًا-أطباء، وطيورًا-أطباء، ومستذئبِين وما شبه، تمنح ألقاب شرف كلما تصرَّف أحدها بطريقة تخرج عن المألوف، وتُفسِد المذهبَ المُسَلم به ضمنًا، القائم على أساس تماثُل النفوس. واضح أن هذا الانحيازَ أثر — لكنه قوي جدًّا — من إطار بدائي للعقل ينهض أساسًا على واعية غير متمايزة إلى درجة كافية. الواعية الفردية، أو الواعية الأنيَّة، هي نِتاج متأخر في مسيرة تطوُّر الإنسان، وفي المجتمعات البدائية التي ما زالت موجودة حتى الآن بلغ ضعف الواعية مبلغًا جعل كثيرًا من القبائل لا تعطي نفسها اسمًا يميزها من غيرها من القبائل. مثلًا، في شرق أفريقيا، صادفتُ قومًا يدعون أنفسهم «الناس الذين هناك». هذه الواعية الجماعية البدائية ما زالت تعيش في واعيتنا العائلية، وغالبًا ما نجد أفراد أسرةٍ ما لا يستطيعون أن يتكلموا عن أنفسهم إلا إذا دُعوا بهذا الاسم أو ذاك — الأمر الذي يبدو كافيًا تمامًا للشخص المَعنِي.
لذلك إن مُسَلمتنا التي تقوم على أنَّ ما يسرُّني لا بد وأن يسرَّ كل شخص سواي لهي بقية أو أثر من ذلك الليل البدئي، ليل الخافية، عندما لم يكن ثمة فرق ظاهر بين «أنا» و«أنت»، وعندما كان كل أحد يُفكر ويشعر ويتصرف بنفس الطريقة. فلو حدث ما يُظهر أن شخصًا كان ذا عقل مغاير (سائر أفراد الجماعة)، لأدَّى ذلك إلى اضطراب يعمُّ الجماعة على الفور. لا شيء يَهيجُ الذعر بين البدائيين كما يهيجه شيء يخرج عن المألوف؛ سرعان ما يوجسون منه شرًّا ويرون فيه خطرًا يتهددهم. هذا الرجع البدائي ما زال حيًّا فينا نحن أيضًا: سرعان ما نتخذ موقفًا عدوانيًّا عندما لا يشاطرنا شخص معتقداتنا! نشعر بإهانة عندما يجد شخص فكرتَنا عن الجمال باعثة على المقت. وما زلنا نضطهد كل مَن يُفكر تفكيرًا مختلفًا عنَّا، وما زلنا نحاول أن نفرض آراءنا على غيرنا، وأن نهدي الكفار المساكين (إلى الإيمان الصحيح) لكي ننقذهم من نار جهنم التي لا ريب تتربص بهم، وما زلنا جميعًا نخاف خوفًا لا حدود له من الوقوف وحدنا مع معتقداتنا.
المساواة النفسية بين جميع الناس مُسَلمة غير منطوقة، مستمدة أصلًا من غياب الفرد عن الشعور بنفسه. في ذلك العالم الضارب في أعماق الزمان لم يكن ثمة واعية فردية، بل نفس جامعة فقط ظهر منها تدريجيًّا واعية فردية في المستويات العليا من التطوُّر. والشرط اللازم لوجود واعية فردية اختلافها عن الواعيات الأخرى. ولعلنا نستطيع تشبيه سياق تطور الواعية بصاروخ ينطلق من الظلام وينحل زخًّا من الأنجم ذات الألوان.
علم النفس، بما هو علم تجريبي، ذو نشأة حديثة جدًّا. لم يبلغ بعد الخمسين عامًا من عمره، ولذلك فهو ما زال في القماطات. وقد منعه من الولادة في وقت أبكر مُسَلمة المساواة الآنفة الذكر. من هذا نستطيع أن نرى مقدار ما هو عليه من صغر أي نوع من الواعية المتمايزة. فقد شرعت تحبو لتوها خارجة من سباتها الطويل، في تثاقل وخرق تأخذ علمًا بوجوده. ولعل من الوهم أن نتصور أننا قد وصلنا إلى شيء شبيه بمستوًى عالٍ من الواعية. فواعيتنا الراهنة ما برحت مجرد طفل بدأ الآن يقول «أنا».
لقد كان أعظم خبرات حياتي اكتشافي مبلغ عظم الفروق في نفوس الناس، فلو لم تكن المساواة الجماعية حقيقةً أوَّلية، أي الأصل والرحم لجميع النفوس الفردية، لكانت وَهمًا هائلًا. لكن على الرغم من واعيتنا الفردية، لا جدال في بقائها واستمرارها بما هي الخافية الجامعة — البحر الذي تمتطي متنه الأنية كالسفينة. لهذا السبب أيضًا، لم يضع شيء قط من عالم النفس البدئي. كما أن البحر يمد ألسنته بين القارات ويلتف حولها كالجزر، كذلك تضغط خافيتنا الأصلية من حوالي واعيتنا الفردية. في كارثة المرض العقلي يغمر مدُّ العاصفة البحرية الجزيرةَ ويبتلعها عائدًا بها إلى الأعماق. وفي الاضطرابات العُصابية، يوجد على الأقل انفجار سدود، وتغدو الأراضي المنخفضة المثمرة بالفيضان يبابًا. والمعصوبون جميعًا سكان شواطئ، وهم أكثر الناس عُرضَة لأخطار البحر. أما الذين يُدعَون بالناس الطبيعيِّين فيعيشون في الداخل، على أرض مرتفعة يابسة، قريبًا من البحيرات والجداول الهادئة. ما من طوفان مهما بلغ ارتفاعه يصل إليهم، والبحر الذي يطوق اليابسة بعيد جدًّا عنهم حتى لَينكرون وجوده. في الحقيقة، قد يتواجد شخص مع أنيَّته حتى ليفقد الرابطة العامة مع البشرية، وينقطع عن جميع الناس. وبما أن كل شخص لا يريد أن يكون مثل كل شخص آخر، فإن هذه المواحدة عامة الحدوث. ذلك أن الأنانية البدائية، من ناحية ثانية، قاعدتها الدائمة أنها ليست أبدًا هي «أنا» التي يجب أن تتغير، بل دائما الفتى الآخر.
ومع ذلك، فقد كان بلوغ الوعي أغلى ثمرة أعطتها شجرة المعرفة؛ إذ كانت السلاح السحري الذي وهب الإنسان نصرًا على الأرض، والذي نرجو أن يمنحه نصرًا بعدُ أعظمَ على نفسه.
أن يعني الوعي الفردي انفصالًا ومعارضة، إن هذا شيء خَبِرَه الإنسان مرات لا حصر لها على مدى تاريخه الطويل. وكما أن زمن الفصام للفرد هو زمن للمرض، كذلك هو في حياة الأمم. ليس يصعب علينا أن نعترف أن زمننا هذا هو زمن فصام ومرض؛ فالأحوال السياسية والاجتماعية، تُفتِّت الدين والفلسفة، المدارس المتخاصمة في الفن الحديث والسيكولوجية الحديثة كل ذلك له معنًى واحد بهذا الخصوص. ثم هل يشعر أحد عنده أدنى حس بالمسئولية بنوع من الرضا عن هذا التحوُّل في مجرى الأحداث؟ لو كنا مخلصين، لكنَّا سلمنا بأن ما من أحد يشعر بتمام الرضا في عالم اليوم، الذي ما ينفك يبعث على السخط. إن كلمة «أزمة» (= كْريزا)، وكثيرًا ما نسمعها، لهي تعبير طِبي يُنبئنا دائمًا بأن المرض قد بلغ ذروة خَطِرة.
عندما وعى الإنسان نفسه والعالم، انغرست في روحه بذرة مرض الفصام؛ لأن الوعي هو أعظم الخير وأعظم الشر في وقت واحد. من الصعب أن نقدِّر مرض العصر الذي نعيش فيه. لكن لو عدنا إلى تاريخ الإنسان المَرَضي لوجدنا أن البشرية قد تعرَّضت لنوبات مَرَضية من اليسير رصدُها. لقد كان من أسوأ الوافدات التي أصابت الإنسان ذلك التفتيت الذي انتشر في جميع أنحاء العالم الروماني في القرون الأولى التي تلت ميلاد المسيح. الفصام الذي حل بإنسان ذلك العصر عبَّر عن نفسه في انقسام لا مثيل له، طال الشروط السياسية والاجتماعية، وأحدث شِقاقًا في الدين والفلسفة، وانهيارًا للفنون والعلوم يبعث على الرثاء. ولو نظرنا إلى بشرية يومئذٍ نظرَتَنا إلى إنسان واحد، لألفَيْنا أمامنا شخصًا عالي التمايُز بعد أن سيطر على بيئته في ثقة شديدة بالنفس، انقسمت نفسه في سعيها وراء مشاغلها ومصالحها المتفرقة، فنسي أصوله ومأثوراته، حتى فقد كل ذكرى له عن نفسه السابقة، بحيث أضحت تبدو له آنًا شيئًا وآنًا شيئًا آخر. وبذلك يقع في خصام مع نفسه لا شفاء منه. ثم يُفضِي به الخصام إلى حالة من الضعف والهزال تحمل العالم الذي كان سيطر عليه من قبل على اختراق دفاعاته بحيث يجتاحه كالطوفان المدمِّر ويأتي على البقية الباقية من كيانه.
بعد أن أنفقت السنين الطوال في الأبحاث النفسية، تَشَكل تدريجيًّا في نفسي شيء، كما قد تَشَكل في أذهان غيري من الباحثين، هو البديهية الأساسية التي تفيد أن ظاهرة نفسية ما يجب ألا يُنظر إليها أبدًا من جانب واحد فقط، وإنما من الجانب الآخر أيضًا. فقد أظهرت الخبرة أنَّ لكل شيء جانبَين على الأقل، وأحيانًا جوانب كثيرة. وحكمة دزرائيلي القائلة بأنه يجب ألا نُفرِط في إيلاء الأهمية للأشياء الهامة، وأن الأشياء غير الهامة ليست غير هامة جدًّا كما قد تبدو لنا — إن هذه الحكمة هي صياغة أخرى لنفس الحقيقة. وقد تكون صياغةً ثالثة لهذه الحقيقة تلك الفرضية القائلة بأن كل ظاهرة نفسية فإنما يعوضها ضدُّها، وفقًا للمثل القائل «الأطراف تَتَماس»، أو «ما من شقاءٍ بلغ من الشدة مبلغًا عظيمًا ليس يأتي منه خير.»
الفجوة الزمانية التي تفصلنا عن ذلك العصر تجعلنا في الموقع الملائم الذي يتيح لنا رؤية هذه الحوادث التاريخية بوضوح شديد. فلو كنا نعيش في تلك الأيام، لربَّما كنَّا من جملة الكثيرين الذين لم يأبهوا لها. الإنجيل والأمداد البهيجة لم يكن يعرفها إلا القلة القليلة؛ كان كل شيء على السطح يتخذ هيئة السياسة والاقتصاد والرياضة. لقد حاوَل الدين والفلسفة تمثل الثروات الروحية التي كانت تتدفق على العالم الروحاني آتيةً إليه من الشرق الحديث العهد بالغزو الروماني. والذين لاحظوا حبة الخردل التي كان مُقدَّرًا لها أن تغدو شجرةً عظيمة كانوا قلة قليلة.
ولسوف يكون إدراكه هذا بالغ الأهمية له، لأنَّ في المَرضى مَيلًا ضارًّا إلى المُضِيِّ في التشوُّش والاختلاط بنفس الطريقة القديمة، حتى ولو ثبت لهم عدم جدواها منذ زمن طويل، مما يزيد في تفاقُم وضعهم. لا جدوى من الانتظار؛ لذلك ينهض على الفور السؤال التالي: «ماذا يجب عمله؟»
إن مريضَنا رجل ذكي؛ جرَّب جميع الأدوية المسجلة، من ناجعة وغير ناجعة، وكل أنواع الحِمْية، وجميع نتف النصائح التي قدمَّها له الأناس الأذكياء. لذلك يجب أن نمضي معه كما نمضي مع «تيل يولد شبيغل»، الذي كان يضحك كلما مضى في الطريق صعودًا، ويبكي كلما هبط نزولًا، في تحدٍّ صارم للحس السليم الشائع. لكن تحت ثياب الأحمق، كان يختبئ فيه رجل حكيم: عندما كان يصعد كان يبتهج بالنزول الآتي.
هذا النوع من العقلية، التي تتحصن خلف ستار صفيق من الكتب والصحف والآراء الاجتماعية والانحيازات المهنية — هذا النوع من العقلية لا يمكن الجدال معه. لا شيء يمكنه أن يخترق دفاعاته، حتى ولا تلك الجرثومة الصغيرة من الجديد الذي قد يجعله في وحدة منسجمة مع العالم ومع نفسه لقد بلغ من ضآلته وهزليته مبلغًا يتخلى معه عن الروح على الفور في سبيل أتفه الأشياء. إلى أين، إذن، ينبغي لنا أن نقتاد مريضنا لكي نعطيه على الأقل بصيصًا يدله على شيء مختلف، شيء يعدل وزنُه وزنَ العالم اليومي الذي يعرفه أكثر مما ينبغي؟ يجب أن ندله، بالسير أولًا على طريق ملتوية، على زاوية في نفسه، مظلمة، تافهة إلى درجة مضحكة، عديمة الأهمية، ثم السير في طريق مهجور منذ زمن بعيد يفضي إلى أطول وهم معروف … تلك الزاوية من الحلم، الذي ما هو — في نظره — غير شبح ليلي غريب، سريع التلاشي، والطريق هو فهم الأحلام.
لسوف يصرخ المريض ساخطًا مع فاوست:
عن ذلك سوف أجيب: «ألم تجرِّب بعدُ دواءً آخر؟ ألم ترَ بنفسك أن جميع جهودك لم تقُدك إلا إلى الدوران في حلقة، رجوعًا إلى فوضى حياتك الراهنة؟ لذلك من أين سوف تحصل على وجهة النظر الأخرى، إن لم يمكنك العثور عليها في أي مكان في عالمك؟»
من هذه الأعماق الموحدة للكل، يطلع الحلم، لا شيء أكثر منه طفولية وغرابة وحيادًا أخلاقيًّا. كالزهرة براءة وطُهرًا، حتى لتحمَر خجلًا من الغش الذي يسود حياتنا، لذلك لا عجبَ أن يعتبر الحلم، وهو الذي أثر في جميع الحضارات القديمة، رسالة من الآلهة. بقِيَ على عقلانية عصرنا أن نُفسِّر الحلم بأنه بقايا من مخلفات النهار، يتساقط كالفتات في عالم الشفق من موائد الواعية التي أثقلتها أوزارها. هذه الأعماق المظلمة، إن هي إلا كيس فارغ، ليس يحوي أكثر مما يتساقط عليه من فوق. لماذا ننسى دائمًا أن لا شيء، جليلًا أو جميلًا، في الميدان الواسع من الثقافة الإنسانية لم ينبت من فكرة سعيدة أصلًا؟ ماذا يحل بالبشرية لو لم يوجد شخص عنده أفكار سعيدة؟ الأصح أن نقول إن واعيتَنا هي ذلك الكيس الذي ليس فيه غير ما يتفق أن يقع عليه. إننا لا نُقدِّر أبدًا مِقدارَ اعتمادِنا على الأفكار السعيدة، إلا عندما نتأكد — ويا للأسف! — أنها لن تأتي. وما الحلم إلا فكرة سعيدة تأتينا من عالم النفس المظلمة الموحدة للكل. ماذا عساه أن يكون أكثر طبيعيَّةً من أن نقرع باب الأحلام ونطلب منها المعاني التي تُدنِينا قُربًا من حقائق الوجود البشري الأساسية، بعد إذ أضعنا أنفسنا وسط جزئيات لا نهاية لها وتفصيلات منعزلة من عالم السطح.
هنا نواجه الانحياز العنيد الذي يذهب إلى أن الأحلام زبد كثير، ليست حقيقية، تكذب، مجرد تلبيات لرغبة. وما هذه الأقوال إلا تهرُّب من أخذ الأحلام على مأخذ الجد؛ لأن هذا أمر لا يبعث على ارتياح. إن هوَسَنا الفكري بالواعية لهو هَوَس بالعزلة أيضًا على الرغم مما في هذه العزلة من عيوب. ولهذا السبب تجد الناس يفعلون كل شيء ولا يُسَلمون بأن الأحلام حقيقية وأنها تنطق بالحقيقة؛ ففي القِديسِين مَسن رأى أحلامًا غليظة. ترى ما هو مصير قداستهم، وهي الشيء الذي يرفعهم فوق عامةِ الناس، لو اتَّضح أن شناعة أحلامهم حقيقة واقعة؟ لكنَّ أقذر الأحلام هي التي توثق عرى القرابة بيننا وبين سائر أبناء البشر، وتخمد نار الغطرسة التي يورثها ضمور الغرائز. وحدة النفس لن تتحطم أبدأ، حتى ولو تساقط العالم كله شَذَر مَذَر. وكلما اتَّسعت الشقوق وتكاثرت على السطح، قويَت أواصر الوحدة في الأعماق.
طبعًا، كل مَن لم يختبر وحدة النفس بنفسه لن يقتنع بإمكان وجود فعالية نفسية مستقلة عن الواعية، وليست فعالية لا تحدث فيَّ وحسب، وإنما في جميع الناس في وقت واحد. لكن عندما نقارن سيكولوجية الفن الحديث بما كشف عنه البحث السيكولوجي، وهذا مع ما أثمرت معه الميثولوجيا والفلسفة من نتائج، نجد البراهين التي لا تُدحَض على وجود عامل هذه الخافية الجامعة.
غير أن مريضَنا، وقد اعتاد أن يُعامِل نفسَه باعتبارها شيئًا تحت سيطرته، لسوف يرد محتجًّا بأنه ما لاحظ قطُّ شيئًا موضوعيًّا في سياقاته النفسية، بل هي أكثر الأشياء شخصية على ما قد يتصوَّر المرء. على هذا أردُّ قائلًا: «إذن، أنت تستطيع أن تُبدِّد حالات القلق والأفكار المتسلطة عليك على الفور. والنوبات المزعجة لن تنتابك بعد الآن. ما عليك إلا تنطق بالكلمة السحرية.»
طبعًا، إن مريضَنا، في سذاجته الحديثة، لم يستطِع أن يدرك أنَّ أحواله الباثولوجية تستحوذ عليه مثلما كانت تستحوذ على كل ساحرة أو صائد ساحرات في أظلم العصور الوسطى. المسألة لا تعدو أن تكون اختلافًا في التسميات. في تلك الأيام كانوا يتكلمون عن الشيطان، وفي يومنا هذا ندعو المرضَ عُصابًا. لكننا نصل إلى نفس الشيء، إلى نفس الخبرة القديمة: شيء نفسي موضوعيًّا وغريب عنَّا، لا يقع تحت سيطرتنا، ويقاوم إرادتنا مقاومة عنيدة. لسنا في حال أفضل من اﻟ «بروكتوفنتامست» في «فاوست» الذي صاح في دهشة:
لو كان باستطاعة مريضنا الخضوع إلى منطق هذه الحجة، لكسبنا الشيء الكثير. الطريق لاختبار النفس مفتوح، لكنَّ المرءَ ما يلبث أن يأتي إلى انحيازٍ آخرَ يسدُّ عليه التقدم إلى ما وراء ما وصل إليه. لسوف يقول: «لنُسلمْ جدلًا أنني أختبر الآن قوةً نفسيةً تخذل إرادتي، اختبر عاملًا نفسيًّا موضوعيًّا، إن كنت تحب أن تسميه كذلك. لكنه يظل مع ذلك شيئًا سيكولوجيًّا محضًا، غامضًا، لا يعتمد عليه، وليس له أهمية في الحياة العملية.»
هذا، وإنه لأمرٌ يبعث على الذهول مقدارُ ما يؤخذ الناس بالكلمات. يتصوَّرون دائمًا أن الاسم يفترض صحة الشيء — تمامًا كما لو أننا نلحق أذًى شديدًا بالشيطان عندما نسميه عُصابًا! هذه السمة الطفولية بقية أخرى خلَّفها لنا العام الأول للميلاد، عندما كانت البشرية لا تزال تعمل بكلمات السحر. لكن الذي يكمُن وراء الشيطان أو العُصاب لا يهتم بالاسم الذي نسميه به. طبعًا، نحن لا نعلم ما هي النفس، ونحن نتكلم عن «الخافية» لمجرد أننا لا نعرف ما هي في الحقيقة. نحن لا نعرف ما هي الخافية إلا بمقدار ما يعرف عالم الفيزياء ما المادة. كل ما يملك عنها ما يعدو أن يكون نظريات وآراء تصورها طورًا على هذا النحو، وطورًا على ذاك. وتظل هذه الصورة مناسبة وقتًا ما، ثم ما يلبث أن يأتي اكتشاف جديد برأي مغايِر آخر. لكن هذا ليس له تأثير على المادة. أم هل نقصت حقيقة المادة على نحو من الأنحاء.
أسَلمُ بأنني أفهم تمامًا خيبة أمل جمهوري عندما أشير إلى الأحلام كمصدر للمعلومات في هذه الفوضى الروحية التي يعيش فيها عالمنا الحديث لا شيء طبيعيًّا أكثر من أن تستوقفنا بادرة كهذه البادرة، البادية التناقض، البالغة السخافة. ماذا بوسع حلم أن يفعل، هذا الشيء الذاتي والتافه إلى أقصى حدود التفاهة، ماذا يستطيع أن يفعل في عالم طافح بالحقائق البالغة القوة؟ الحقائق يجب أن نقابلها بحقائق تساويها حسِّيةً، لا بأحلام لا تفعل أكثر من أن تزعجنا عن نومنا وتُعَكر مزاجنا في اليوم التالي. إنك لا تستطيع أن تبني بيتًا، أو تدفع ضرائب، أو تكسب معارك، أو بحل أزمة عالمية، بالأحلام. لذلك أتوقع أن يطلب مريضي مِنِّي، مثلما أتوقع من جميع الناس من ذوي الحساسية غيره، أن أقول له عما يمكن فعله في هذا الوضع الذي لا يطاق، وبأساليب الحس السليم المناسبة. والصعوبة الوحيدة التي تعترضنا أننا قد سبق لنا وجربنا جميع الأساليب التي تبدو مناسبة، لكن بدون أن نظفر بشيء على الإطلاق، أو أنها تتكون من تخيُّلات رغبيَّة متعذِّرة التطبيق. لقد جرَّبنا استعمال جميع هذه الأساليب لمعالجة الوضع القائم. مثلًا، عندما تضرب الفوضى في أعمال أحدنا، من الطبيعي أن ينظر في كيفية ترتيبها وتنظيمها وإيقافها ثانيةً على قدميها، فيلجأ إلى استعمال جميع العلاجات الموصوفة لكي يعود عمله صحيحًا معافًى. لكن ماذا يحدث، بعد أن يكون قد جرَّب جميع هذه العلاجات، لو تدَهوَر الوضع من سيئ إلى أسوأ، خِلافًا لجميع التوقعات المعقولة؟ لا بد له من أن يَيْئَس من جميع هذه الأساليب، المفترض أنها معقولة، بأسرع ما يمكن.
إن مريضي، وربما عصرنا بكامله، هو في مثل هذا الوضع؛ فهو يسألني في لهفة: «ماذا أستطيع أن أفعل؟» فأجيبه: «وأنا مثلك لا أعلم.» «إذن، لا شيء يمكن عمله؟» لكني أجيبه أيضًا بأن البشرية وجدت نفسها في هذه المسالك العمياء مرَّاتٍ لا حصرَ لها في أثناء مجرى التطور، وما من أحدٍ عرف ما عساه أن يفعل؛ لأن كل أحد كان منصرفًا إلى رسم خطط بارعة من أجل معالجة الوضع. ما من أحد كان لديه الشجاعة لأن يعترف بأنه قد سلك الطريق الغلط. ثم ما تلبث الأشياء أن تعود إلى الحركة ثانيةً حتى تظل نفس البشرية موجودة، وإن تكن اختلفت بعض الاختلاف عن ذي قبل.
عندما ننظر إلى التاريخ البشري، لا نرى إلا ما يحدث على السطح، وحتى هذا يتشوَّه في مرآةِ التقليد الباهتة. لكن الذي يحدث حقيقة يروغ من عين المؤرخ الباحثة. ذلك أن الحدث التاريخي الحقيقي مدفون في العمق، اختبره الكل، لكن لم يراقِبه أحد. هو أكثر الخبرات النفسية خصوصية وأكثرها ذاتية. ما الحروب والأسر المالكة والفتن الاجتماعية والفتوحات والأديان إلا أعراض سطحية من الموقف النفسي السري الذي يجهله حتى الفرد نفسه، ولا يرويه المؤرخ. ربما يعطينا مؤسسو الأديان أوفر المعلومات بهذا الخصوص. الأحداث الكبرى في تاريخ العالم هي، في القعر، ليست هامة إلى حد عميق في التحليل الأخير، الشيء الجوهري هو حياة الفرد. هذا وحده يصنع التاريخ. هنا فقط أول ما تحصل التحوُّلات العظمى. والمستقبل كله، كل تاريخ العالم، ينبع في النهاية كمجموع هائل من هذه المنابع الخبيئة في الأفراد إننا، في أكثر حيواتنا خصوصية وذاتية، لسنا شهودًا سلبيين على عصرنا ومعذبين فيه وحسب، وإنما صانعوه أيضًا. إننا نحن الذين نصنع عصرنا.
لذلك عندما أنصح مريضي بأن يُعِير أحلامه انتباهًا، فإنما أريد أن أقول له: «عد إلى أكثر الأشياء ذاتية من نفسك، عد إلى منبع وجودك، إلى تلك النقطة التي تصنع فيها تاريخ العالم وأنت لا تعلم. إن مشكلتَك التي لا حل ظاهريًّا لها واضحٌ أنها يجب أن تبقى بلا حل، وإلا أرهقت نفسك بحثًا عن الأدوية التي أنت مقتنع منذ البدء بعدم جدواها. إن أحلامك تعبير عن حياتك الداخلية، ويمكنُها أن تُظهِرك على الموقف الخاطئ الذي من خلاله وطَّنت نفسك في هذا المسلك الأعمى.»
الأحلام نواتج حيادية، عفوية، من نواتج النفس الباطنة، خارجة عن سيطرة الإرادة؛ طبيعية محضة؛ تُطلِعنا على الحقيقة الطبيعية بلا تزويق. ولذلك هي مؤهَّلة، كما لم يُؤهَّل شيءٌ آخر، لأنْ تُعيدَ لنا موقفًا يتفق مع طبيعتنا البشرية الأساسية، عندما تضل واعيتنا بعيدًا جدًّا عن أساساتها وتسلك في طريق مسدود.
لكننا حتى لو قبلنا بالطرح الذي يقول إن الأحلام ليست اختراعات اعتباطية بل نواتج طبيعية نتجت عن الفاعلية النفسية الباطنة، لسوف نظل كلما واجهنا حلمًا حقيقيًّا نفتقر إلى الشجاعة اللازمة لكي نرى فيه رسالة ذات أهمية. لقد كان تفسير الأحلام أحد إنجازات فن السحر، ولذلك كان في جملة الفنون السوداء التي كانت تقف لها الكنيسة بالمرصاد. لكن، حتى ولو كنا، نحن أبناء القرن العشرين، أرحب عقلًا وصدرًا من هذه الناحية، إلا أننا لا يزال عندنا الكثير من الانحياز التاريخي المرتبط بالتحامل على فكرة تفسير الأحلام بحيث يجعلنا لا نتعامل معها باللطف الواجب لها. ولعلنا نتساءل عن وجود منهج لتفسير الأحلام يمكن الركون إليه. هل نستطيع أن نُولِي ثقتنا أيًّا من هذه المذاهب الظنية؟ أسلم بأن لي نصيبي الكامل من هذه الشكوك، وإني لمقتنع بأنه لا يوجد منهج لتفسير الأحلام يركن إليه بصورة مطلقة. حتى الثقة المطلقة في تفسير الحوادث الطبيعية لا نجدها إلا في أضيق الحدود؛ أي عندما لا يأتي من التفسير أكثر مما نضع فيه. كل محاولة لتفسير الطبيعة فهي مخاطرة. والمنهج الذي يمكننا الاعتماد عليه لا يظهر إلى حيِّز الوجود إلا بعد انقضاء زمن على إنجاز عمل رائد. نحن نعلم أن فرويد قد ألف كتابًا في تفسير الأحلام، لكن تفسيره ليس إلا مثالًا على ما قلناه للتو: لا يأتي منه أكثر مما تسمح نظريته بأن تضعه في الحلم. طبعًا، إن هذه النظرية لا تُنصِف حرية حياة الحلم التي لا تُحَد، الأمر الذي يترتب عليه اختفاء الحلم دون جلائه. أيضًا، عندما ننظر في تنوُّعية الأحلام غير المحدودة، يغدو من الصعب علينا الاعتقاد بأن من الممكن أن يوجد أصلًا منهج أو إجراء من شأنه أن يؤدي إلى نتيجة لا تخطئ. والحق أنه لمن الأمور الحسنة ألا يوجد منهج صالح من كل وجه؛ لأنه بخلاف ذلك قد يكون معنى الحلم محدودًا سلفًا، ولعله عندئذٍ يفقد بالتحديد تلك الفضيلة التي تجعل الأحلام بالغة القيمة للأغراض الشفائية؛ أي قدرتها على تقديم وجهات نظر جديدة.
لذلك نحن نُحسِن صُنعًا لو عاملنا كل حلم كما لو أنه موضوع نجهله كليًّا. ننظر إليه من جميع جوانبه، نأخذه بيدنا، ننقله معنا إلى حيث نذهب، ندع خيالنا يدور حوله، نتكلم عنه مع غيرنا من الناس. البدائيون يقصون أحلامهم المؤثرة بعضهم على بعض في جلسة مسامرة عامة، وقد كانت هذه العادة متبعة في العصور القديمة المتأخرة؛ لأن جميع الأقوام كانت تنسب للأحلام أهمية عظمى. لو عاملنا الحلم بهذه الطريقة، لأوحى لنا بكل الأفكار والتداعيات التي تُدنِينا قُربًا من معناه. لا حاجة بنا إلى تبيان أن هذا التحقق من معنى الحلم، شأن اعتباطي كليًّا، وهنا تبدأ المخاطرة. لسوف تُوضَع حدودٌ ضيقة أو واسعة لمعنى الحلم على حسب خِبرتنا ومزاجنا وذوقنا. بعض الناس يكتفي بالقليل، وبعضهم الآخر يرون الكثير غير كافٍ. كذلك إن معنى الحلم، أو تفسيرنا له، يتوقف إلى حد كبير على مرامي المفسِّر، على ما يتوقع أن يكون معناه أو يقتضي منه أن يفعل. لسوف يعمل المفسر، في سياق تَجلِيَته للمعنى، عن غير إرادة منه، على هدي من افتراضات سابقة معينة، ويتوقف المعنى كثيرًا على تدقيق الباحث وإخلاصه، إن كان يكسب شيئًا من تفسيره أو لعله يظل مغلولًا إلى أخطائه. فيما يتعلق بالفرضيات السابقة، لعلنا موقنون من القول إن الحلم ليس اختراعًا باطلًا من جانب العقل الواعي، بل ظاهرة طبيعية غير إرادية، حتى ولو ثبت أن الأحلام قد شوَّهَتها على نحو ما صيرورتها شعورية. على كل حال، يحدث هذا التشويه في سرعة وتلقائية حتى لا نكادُ ندركه. لذلك نكون في مأمن إذا ذهبنا إلى أن الأحلام تطلع من الجانب الباطن من وجودنا، وأنها — تبعًا لذلك — أعراضٌ من هذا الوجود، الأمر الذي يتيح لنا أن نتوصل إلى استنتاجات حول طبيعة هذا الوجود. فإن كنا نريد أن نبحث في طبيعتنا، فإن الأحلام هي أنسب الوسائل لذلك.
يجب أن نُمسِك، ونحن في سياق التفسير، عن جميع الافتراضات المسبقة التي يقطر منها طعم الخرافة، من مثل، أولًا وقبل كل شيء، مفهوم الخصوم في الأحلام أنهم ليسوا سوى نفس الأشخاص الذين نعرفهم في اليقظة. يجب ألا ننسى أبدًا أنَّ أحدَنا إنما يحلم بنفسه في المقام الأول، ويكاد أن يكون هذا باستبعاد كل شيء آخر (كل الاستثناءات محكومة بقواعدَ محدَّدة، لكنني لا أستطيع أن أخوض في هذا الموضوع هنا). لو اعترفنا بهذه الحقيقة، لوجدنا أنفسنا وجهًا لوجه أمام مشكلات تبعث على الاهتمام أحيانًا. أتذكر حالتين لهما دلالتهما: أحد مرضاي حلم بمتشرد سِكير مُلقًى في خندق، والآخر بمومس سِكيرة تتقلب عند بالوعة. كان الأول رجل لاهوت، والثاني سيدة بارزة في مجتمع راقي. كان كلاهما ضحية عنف وترويع وانتهاك، وقد رَفضَا رفضًا باتًّا أنهما قد حلما بنفسَيهما. نصحتهما أن ينفقا ساعة في تفكير ذاتي، وأن يبذلا جهدَيهما وينظرا بإخلاص بم يَفضُلان كثيرًا أخاهما السِّكير في الخندق وأختهما السِّكيرة في البالوعة. إن سياق معرفة النفس الخَفِية غالبًا ما يبدأ بقنبلة كهذه. الشخص «الآخر» الذي نحلم به ليس صديقنا ولا جارنا، لكنه الآخر الذي فينا، الذي نفضل أن نقول عنه: «أحمدك، يا رب، أنني لست مثل هذا العامِّي والآثم». يقينًا إن الحلم، وهو ابن الطبيعة، ليس في نيته أن يقوِّم شيئًا أخلاقيًّا؛ كل ما في الأمر أنه يمثل ذلك القانون الشهير الذي يفيد أن ما من شجرةٍ تستطيع أن ترقى إلى السماء.
فإذا وضعنا في ذهننا، إلى جانب هذا، أن الخافية تحتوي على كل شيء تفتقر إليه الواعية، وأن الخافية — تبعًا لذلك — ذات ميل تعويضي، استطعنا عندئذٍ أن نستخلص نتائج هامة — طبعًا، شريطة ألا يأتي الحلم من مستوًى نفسي بالغ العمق. فإن كان حلمًا من هذا النوع، كان الأصل أن يحتوي على موضوعات ميثولوجية، وهي جملة من الأفكار أو الصور التي قد نجدها في أساطير الجماعة التي نحن منها أو في أساطير شعوب أخرى. عندئذٍ يكون للحلم معنًى جماعي، تشترك فيه البشرية جمعاء.
إن هذا لا يتناقض مع ملاحظتي المتقدمة، وهي أننا دائمًا نحلم بأنفسنا. كأفراد نحن لسنا وحيدين، بل مثل سائر الناس. لذلك يصلح الحلم ذو المعنى الجماعي للحالم في المكان الأول، لكنه، في الوقت نفسه، يُبيِّن أن مشكلته المؤقتة هي أيضًا مشكلة أناس آخرين. إن هذا لذو أهمية عملية عظيمة في الغالب، لوجود عدد لا يُحصَى من البشر منطوين على أنفسهم ومنقطعين عن سائر البشرية، لوقوعهم تحت سيطرة الاعتقاد بأن ما من أحدٍ غيرهم يشاركهم مشكلاتهم. أو هم أناس مفرطون في التواضع يشعرون بأنهم نكرات، احتفظوا بطلب الاعتراف بهم اجتماعيًّا على مستوًى مفرط من الانحطاط. زد على ذلك أن كل مشكلة فردية ترتبط بمشكلة العصر على نحو من الأنحاء، بحيث يتعيَّن علينا أن ننظر في كل صعوبة ذاتية من منطق الوضع البشري في مجمله. لكن هذا لا يسمح به إلا إذا كان الحلم فعلًا حلمًا ميثولوجيًّا ويستخدم رموزًا ذات صفة جماعية.
مثل هذه الأحلام يدعوها البدائيون أحلامًا «كبيرة». والبدائيون الذين راقبتهم في شرقي أفريقيا يرون من الأمور المسلمة أن الأحلام «الكبيرة» لا يحلم بها إلا «الكبار» من مثل العرافين والسحرة وشيوخ القبيلة … إلخ. قد يصح هذا على المستوى البدائي. أما عندنا فيحلم بهذه الأحلام الناس العاديون أيضًا، خصوصًا إذا وجدوا أنفسهم متورطين عقليًا أو روحيًا في وضع صعب. المعرفة الواسعة أمر مطلوب، كالتي يجدر بصاحب اختصاص أن يحصلها. لكن ما من حلم يفسر بالمعرفة وحدها. زد على ذلك أن هذه المعرفة يجب ألا تكون مادة ميتة محفوظة عن ظهر قلب؛ يجب أن تتصف بالحياة وتُصَب في خبرة الشخص الذي يستخدمها. ماذا تفيد المعرفة الفلسفية في الرأس إن لم نكن فلاسفة في القلب أيضًا؟ كل من يريد أن يُفسِّر حلمًا عليه أن يكون هو نفسه في مستوى الحلم تقريبًا؛ لأنه لا يستطيع أن يرى في أي مكان شيئًا أكثر مما في نفسه.
لا يمكن تعلم فن تفسير الأحلام من الكتب. المناهج والقواعد غير صالحة إلا عندما نستطيع الاستغناء عنها. وإنَّ مَن يستطيع أن يفعل ذلك لهو الماهر حقًّا، ولا يفهم إلا امرؤٌ ذو فهم. ومَن لا يعرف نفسه لا يمكنه أن يعرف غيره. وفي كل من «غير» لا نعرفه. يخاطبنا في الأحلام، ويبين لنا كيف تختلف رؤيته لنا عن طريقة رؤيتنا لأنفسنا، لذلك عندما نجد أنفسنا في وضع صعب ليس له حل، يستطيع أحيانًا أن يوقد لنا مصباحًا يغير من موقفنا تغييرًا جذريًّا — نفس الموقف الذي أوصلنا إلى الوضع الصعب.
صغير وخفي هو الطريق الذي يفضي إلى الداخل، وتعترض المدخل حواجز لا حصر لها: انحيازات، مُسَلمات خاطئة، مخاوف. دائمًا نرغب في الاستماع إلى خطط سياسية واقتصادية عظيمة، نفس الأشياء التي أرسَت كل أمة في مستنقع، لذلك يبدو أمرًا غريبًا أن يتكلم كل أحد عن أبواب سرية وأحلام وعالم داخلي. ما علاقة هذه المثالية التافهة بالبرامج الاقتصادية الضخمة، بما يُسمَّى مشكلات الواقع؟
إلا أنني لا أخاطب أممًا، لا أخاطب إلا قلة من الأفراد، لا تهبط عليهم القيم الثقافية كما يهبط المنُّ من السماء، بل تخلق بأيدي أفراد — غني عن البيان أن نقول هذا. إذا كانت الأشياء تمضي خاطئة في العالم، فهذا يعني أن شيئًا خاطئًا موجود في الفرد، شيئًا خاطئًا موجود فيَّ. لذلك إن كنت ذا بالمسئولية أضع نفسي في المقدمة. من أجل هذا أحتاج — ما دامت السلطة في الخارج لم تعد تعني لي شيئًا — إلى معرفة الأساسات الجوانية التي يقوم عليها وجودي، لعَلِّي أؤسس نفسي ثابتًا على الحقائق الأولية، حقائق النفس البشرية.
إن تكلمتُ آنفًا عن الأحلام بصفة رئيسية، فلأنني رغبتُ في لفت الانتباه إلى واحد من أكثر المقاربات مباشرةً من عالم الخبرة الداخلية. لكنَّ هناك أشياءَ كثيرة إلى جانب الأحلام لا نستطيع بحثها هنا، وإذا بحثنا في المستويات العميقة من النفس، فإنما نُخرج إلى النور الكثير من الذي نستطيع أن نحلم به على السطح في معظم الأحيان. لا عجب إذن أن نكتشف أحيانًا الفعالية الدينية في أحلامنا أيضًا، وهي أقوى جميع فعاليات الإنسان الروحية وأكثرها أصالة. وقد انحرفت هذه الفعالية في الإنسان الحديث أكثر حتى من انحراف الجنس أو التكيُّف الاجتماعي … أعرف أناسًا كانت المواجهة مع القوة الغريبة في داخل أنفسهم نوعًا من الخبرة الطاغية حتى لقد أسموها «الله». و«الله» عندما نختبره على هذا النحو، هو أيضًا «نظرية» بالمعنى الحرفي للكلمة، طريقة للنظر إلى العالم، صورة خلقها العقل البشري المحدود لكي يُعبِّر عن خبرة بعيدة القرار، خبرة لا توصف. الخبرة وحدها هي الشيء الحقيقي الذي لا جدال فيه؛ أما الصورة فقد يَعلق بها غبار، أو قد تتحطم فتاتًا.
الأسماء والكلمات قشور مؤسفة، لكنها مع ذلك تدلنا على صفة ما قد اختبرناه. عندما نُسمِّي الشيطان عُصابًا، فهذا يعني أننا نشعر بأن هذه الخبرة الشيطانية مرض هو من خصائص هذا العصر. وعندما ندعوه جنسًا أو إرادة سيطرة، فهذا يدل على أنه يزعجنا إلى درجة خطيرة تبلغ خطورة هاتين الغريزتين الأساسيَّتين. وعندما ندعوه إلهًا، فإنما نحاول أن نصف معناه العميق، معناه العالمي أو الكوني؛ لأن هذا هو ما استطعنا أن نتبيَّنه في الخبرة. لو نظرنا إلى هذه التسمية الأخيرة نظرةً هادئة، ووضعنا في ذهننا القاع الواسعة المجهولة، لتعيَّنَ علينا أن نُسَلم بأنها أكثر التسميات احترازًا وأكثرها تواضُعًا في نفس الوقت؛ لأنها لا تضع حدودًا للخبرة ولا تخنقها في صورة مفهومة طبعًا، اللهم إلا أن يضرب أحدٌ على وتر الفكرة الوحيدة مُدَّعيًا أنه يعرف ما هو الله بالضبط.
مهما يكن الاسم الذي قد نضعه لهذه القاع النفسية، تظل الحقيقة القائلة بأن واعيتنا متأثرة بها إلى أعلى درجات التأثُّر، وكلما زاد تأثرنا بها قَل وعينا لها. قَلما يستطيع الإنسان غير المختص أن يُدرك مقدارَ تأثُّر ميوله ونفسه وقراراته بالقوى المظلمة في داخله، أو يدرك مقدار الخطر أو العَون الذي قد يتَشَكل به قدره. إن واعيتنا الدماغية هي كالممثل الذي نسي أنه إنما يمثل دورًا. لكن عليه عندما تنتهي التمثيلية أن يتذكر حقيقته الذاتية؛ لأنه لم يَعُد يستطيع أن يعيش كما عاش يوليوس قيصر أو عُطَيل، بل عليه أن يعيش نفسه كما هي فقط، نفسه التي أضحت غريبة عنه بسبب حيلة وقتية احتالت عليها واعيته. وعليه أن يعلم ثانية أنه كان مجرد شخص على المسرح يلعب قطعة لشكسبير، وأنَّ هناك منتجًا ومخرجًا وراء الكواليس عندهما شيء هام جديد يقولانه بصدد تمثيله، كما هو الحال دائمًا.