حالة العلاج النفسي اليوم
في السابق، عندما كان الناس أقل تقدُّمًا في أفكارهم، كان يُنظَر إلى العلاج النفسي على أنه تقانية يمكن أن يطبقها عمليًّا كل شخص تَعَلمها عن ظهر قلب. في الأبحاث والكتب الطبية قد تصدفنا هذه الملاحظة العجيبة: «… بالإضافة إلى ما تقدَّم، قد يكون اتباع ما يلي ذا فائدة: تدليك، حمَّام بارد، هواء جبلي، والعلاج النفسي». لكن، من قبيل الاحتياط، لم تكن طبيعة هذا «العلاج النفسي» توصف وصفًا تفصيليًّا قط. يقينًا، ما دام العلاج النفسي مؤلفًا من التنويم المغناطيسي، والإيحاء والإقناع، و«إعادة تعليم الإرادة»، وهلم جرًّا، فإن كل شخص بوسعه أن يتعلم هذا الفن عن ظهر قلب، ويُدلِي بنصيبِه فيه بمناسبة وغير مناسبة. إن حرفة الطب عمومًا — وهذا ينطبق على أطباء النفس وأطباء الأعصاب — معروف عنها أنها بطيئة التعلم وتحتاج إلى مدة طويلة من الحضانة. وهكذا سيطر الوهم بأن المعالجة النفسية ما هي إلا نوع من الإجراء التقاني، وقد ظل هذا الوهم مُسيطِرًا حتى بعد انقضاء زمن طويل على بلوغ العلاج النفسي مرتبة علم النفس، والتوقُّف عن اعتبار الشفائيات مجرد تقانية، ولعل من إفراط التفاؤل القول إن هذا الوهم لم يَعُد له وجود حتى في أوساط أطباء النفس أنفسهم، أو أنه لا يتفق مع الوقائع المُشاهَدة. كل ما حدث هو أننا نسمع أحيانًا أصواتًا تعترض على آلية العلاج النفسي وتتطلع إلى تخليصه من اعتباره مجرد إجراء تقاني «لا نفس فيه». إن ما تهدف إليه هذه الأصوات هو أن ترفعه إلى مستوًى سيكولوجي أعلى، وجدل فلسفي يغدو نقاشًا بين نظامين من النفس، بين كائنَين بشريَّين يتقابل كل واحد منهما مع الآخر في كليته.
هذه الأهداف والشكوك ما وَلدَتها أفكار أبدية، أو عقول أرهقتها الفلسفة ثقلًا، بل نبعت من الانطباع العميق الذي لا يمكن إلا أن يتركه حتى في نفس المراقب البعيد ذلك الخلط الهدام بين الأفكار السيكولوجية والشفائية. وللبرهنة على ذلك حسبُنا إلقاء نظرة على الإسراف العمائي في الأدب الذي ينطوي على موضوعات تتعلق بعلم العلاج النفسي. ليس هناك مدارس مختلفة ظلت حتى وقت قريب تتجنب كل اتصال جاد فيما بينها وحسب، وإنما هناك مجموعات — «جمعيات» على هيئة نفسها — حصَّنت نفسها كما يُحصِّن المعتكِفُ نفسه في وجه غير المؤمن، ناهيك عن المفردين الكثيرين، الذين لا يفخرون قليلًا بأنهم الأعضاء الوحيدون في كنيستهم، على حدِّ عبارة كولردج الشهيرة. لا شك أن هذه الحالة علامة أكيدة على حيوية كثير من المشكلات الملحة التي ما زالت بحاجة إلى حل في ميدان العلاج النفسي. لكن مما لا يبعث على الارتياح، ولا يتفق مع كرامة العلم، أن تقف الدغماطيقية العنيدة، والحساسية الشخصية، عائقًا أمام النقاش الحر الضروري جدًّا لنمو العلاج النفسي.
في الحقيقة، ما الذي يمكنه أن يُلقِي نورًا ساطعًا على كون العلاج النفسي قد يكون كل شيء إلا مجرد تقانية أكثر من كثرة التقانيات نفسها، وتعدد وجهات النظر و«السيكولوجيات» والمُسَلمات الفلسفية (أو عدمها)؟ أليس هذا المضطَرَب من المتناقضات دليلًا صارخًا على أن ما نحن مَعنيُّون به أكثر بكثير من مجرد تقانية؟ التقانية يمكن تعديلها وتحسينها بجميع أنواع الوصفات والحيل، وما من أحد إلا ويرحب بتغيير نحو الأفضل. لكن، بما أن القضية أبعد من أن تكون كذلك، نجد أعدادًا كبيرةً جدًّا من الناس يتحصَّنون خلف مبادئ يُغلفونها بهالة قدس أقداس الدغماطيقا. ظاهريًّا، يقومون بحراسة الحقيقة العلمية الأخيرة. لكن، هل لوحظ قط إلا في أظلم حقب التاريخ أن الحقيقة العلمية قد احتاجت إلى أن ترقى إلى مرتبة الدغماطيقا؟ تستطيع الحقيقة أن تقف على قدمَيها، ولا يحتاج إلى «الدغمطة» إلا الآراء المهزوزة. التعصب أبدًا شقيق الشك.
ما الدرس الذي نستطيع أن نستخلصه من هذه العلامات المميزة الجديرة بالملاحظة، وقد يفيدنا في تاريخ كل علم آخر؟ لا شك أنها تدل على حقيقةٍ لا تُدحَض، هي أن العلاج النفسي قد اجتاز في نموِّه مرحلةَ التقانية ودخل في نطاق الرأي. ما أيسر الاتفاق على تقانية، وما أصعب الاتفاق على رأي. من هنا كانت حرارة النقاش — إذ اتفَقَ أن حصل شيء من ذلك — أو الصمت الذي يساويه بلاغة.
ظل الناس مدة طويلة وهم يتصورون أن العلاج النفسي قابل للتطبيق «تقانيًّا»، كما لو كان معادلة أو منهجًا لعمل أو اختبارًا لِلَّون، يُمكن الممارسَ العام أن يستعمل طائفة من التقانيات الطبية بدون أدنى تردُّد، بصرف النظر عن آرائه الشخصية في مرضاه، وعن نظرياته السيكولوجية أو حتى عن مسلماته الفلسفية والدينية. أما في العلاج النفسي فلا يمكنه ذلك؛ لأن الطبيب ومُسَلماته طرف هنا تمامًا بمقدار ما هو المريض طرف كذلك. التقانية التي قد يستعملها ليست هامة إلى حدٍّ كبير؛ لأن النقطة الأساسية هنا ليست هي التقانية بل الشخص الذي يستخدمها. الغرض الذي تُطبَّق التقانية من أجله ليس هو نموذجًا تشريحيًّا ولا خراجًا ولا مادة كيمياوية، إنما هو كلية الإنسان الذي يُعاني من العلة. ليس غرض العلاج النفسي العُصاب بذاته بل الإنسان الذي يُعاني من العُصاب. لقد عرفنا منذ زمن بعيد، على سبيل المثال، أن العُصاب القلبي لا يأتي من القلب، على ما قد كان من الممكن للميثولوجيا القديمة أن ترى ذلك، بل من عقل المريض. ولا هو يأتي من زاوية مظلمة من الخافية، كما لم يزل كثير من أطباء النفس يعتقدون؛ إنه يأتي من كلية حياة الإنسان ومن جميع اختباراته التي تراكمت على مدى سنوات وعقود، وأخيرًا ليس من مجرد حياته بما هو إنسان فرد، بل من خبرته النفسية في العائلة أو حتى في المجتمع الأوسع.
لا يُواجَه الطبيب، وهو يعالج العُصاب، بحقل محصور من المرض، بل بشخص مريض لا ينحصر مرضه في آلية مخصوصة أو بؤرة من علة، بل في مجمل شخصيته. في هذه الحالة، لا تستطيع «التقانية» أن تتغلب على المرض؛ لأن شخصية المريض تقتضي من الطبيب أن يحشد جميع موارد شخصيته لا حِيَلًا فنية.
لذلك طالبت منذ وقت مبكر جدًّا أن يخضع الطبيب نفسه للتحليل النفسي. وقد ثنَّى فرويد على ذلك، واضح لأنه لم يستطع أن يهرب من الاقتناع بأن المريض يجب أن يُواجَه بطبيب لا بتقانية. ومما لا يحمد في الطبيب كثيرًا أن يحاول أن يكون موضوعيًّا وغير شخصي على قدر ما يستطيع، وأن يحجم عن التطفل على سيكولوجية المريض متخذًا لنفسه صفة المنقذ المفرط في الحماسة. فإذا أطال هذا الموقف مدةً أكثر مما يلزم ربما أدى ذلك إلى نتائج لا تُحمَد عقباها. عندئذٍ يتبين للطبيب أنه لا يستطيع أن يتخطى حدود الطبيعة دون أن يفلت من العقاب، وإلا صار قدوة سيئة لمريضه الذي ما مرض قط من جرَّاء إفراطه في الانسجام مع الطبيعة. هذا إلى أن من أخطر الأمور الانتقاص من أهمية المرضى لو تخيلنا أنهم جميعًا أغبى من أن يلاحظوا الحِيَل التي قد يلجأ إليها الطبيب، وتدابيره الأمنية، ولعبة الهيبة الصغيرة التي قد يلعبها. كذلك لا يمكن أن تكون نية الطبيب أن يشد أزر المريض ويعينه على القيام بوظائفه الطبيعية، وأن يبقيه مع ذلك أطول مدة ممكنة في الظلام عندما يصل به الأمر إلى تلك البقعة الحاسمة — التي لا تعني إلا الطبيب وحده — فيضعه في حالة الاتكال التي لا رجاء فيها أو «التحويل». هذه الغلطة لا يرتكبها إلا طبيب أفرط في عدم تحليله نفسه، ويهمه نفوذه الشخصي أكثر من صحة المريض.
وبما أن شخصية الطبيب وموقفه لهما أهمية عظمى في العلاج النفسي سواء أدرَك ذلك أم لا — فإن آراءه تظهر تحت ضوء ساطع في تاريخ العلاج النفسي، وتكون ظاهريًّا سببًا لانشقاقات لا تقبل الملاحظة. لقد بنى فرويد موقفه في تعصب على الجنس، على الشهوة — بكلمة واحدة، على «مبدأ اللذة». كل شيء يدور حول ما إذا كان أحدنا يستطيع أن يفعل ما يريد. الكبت والتصعيد والانكفاء والنرجسية وقضاء الرغبة وما إلى ذلك — هذه كلها مفاهيم تتصل بالدرامة العظمى التي ينطوي عليها مبدأ اللذة. إن الأمر يبدو كما لو أن رغبة الإنسان وجشعه قد أصبحا هما المبدأ الأصلي الذي ينهض عليه علم النفس.
أدلر أيضًا نزل ميدان الشهوة البشرية الواسع فاكتشف الحاجة إلى «توكيد الذات». هذا الاتجاه للطبيعة البشرية جعل منه أدلر أيضًا مبدأً أصليًّا في علم النفس، وبنفس الأحادية المؤسفة جدًّا التي نجدها عند فرويد.
لا شك أن مبدأ الشهوة يستطيع أن يفسر عددًا كبيرًا جدًّا من حالات العُصاب. وفي الحقيقة يمكننا أن نُفسِّر نفس الحالة على مذهب فرويد وعلى مذهب أدلر كليهما، لأن أيًّا من التفسيرَين لا يعوزه الإقناع. والحق أن كلا التفسيرين يكمل أحدهما الآخر، وإن كلًّا منهما يشكل حالة مُرضِية جدًّا لو أن كلا منهما لم يدَّعِ أنه صالح بإطلاق. كلاهما وجهة نظر نسبية تحثُّ على البحث والتنقيب، وبما هي كذلك لا تصلح لأن تكون مفهومًا عالميًّا؛ على الأقل أن لهما علاقة بجوانب جزئية جوهرية. إن نظرية الكبت مبنية على حقائق نفسية معينة نصادفها في كل مكان، ويصح نفس الشيء على الحاجة إلى توكيد الذات أو إرادة القوة. من الواضح أنَّ ما من أحد إلا ويحب أن يتمتع بكل ما يستطيع أن يتمتعَ به، وفي نفس الوقت أن يكون «على القمة». كذلك من الواضح أنه ما دام يتخذ هذا الموقف البدائي الساذج الطفولي فلن يكون في وسعه أن يتفادى العُصاب كلما حاول أن يتكيف مع محيطه. هذه الحالة الأخيرة صحيحة جدًّا؛ لأنه بدونها لن يكون ثمة عُصاب، بل مجرد اعتلال أخلاقي أو حماقة بالغة.
لئن كان حدوث العُصاب مقيَّدًا بشرطين على الأقل، يجب أن يكون كلاهما ذا أهمية إثيولوجية (سببية). على أنَّ من المستحيل أن يكون الموقف الطفولي وحده، من دون إرادة التكيف، هو العامل السببي. فإرادة التكيف ليس «يمكن» أن تكون عاملًا سببيًّا وحسب، وإنما قد كانت كذلك دائمًا. لقد كان تفسير فرويد وأدلر للعصاب من زاوية طفولية حصرًا. وكل تفسير أشمل لا بد له من أن يأخذ في الحسبان إرادة التكيُّف أيضًا. لا حاجة دائمًا لمجرد فرط تكيُّف. كذلك يجب ألا نفهم هذه الإمكانية الأخيرة اضطرارًا على أنها مجرَّد كبت للطفولية أو «تشكيل بديل»؛ فقد نستطيع أيضًا أن نُفسِّر الطفولية على أنها كبت لإرادة التكيُّف ونسميها «تشكيلًا بديلًا». طبعًا، لا فرويد ولا أدلر يرحب بهذا القلب للعلاقة، لكنه أمر لا يمكن أن نتجنبه منطقيًّا كلما أخذنا في اعتبارنا الأهمية السببية لإرادة التكيف. وهذا أمر يجب أن نفعله — حتى فرويد يحتاج إلى عامل يكبت ولا يلبي الرغبات، ويبعث على القلق … إلخ. ويحتاج أدلر إلى شيء يجعل الإنسان في الأسفل. فإن لم يوجد ضد إثيولوجي (سببي) ذو قوة مساوية، كانت الشهوة الطفولية عندئذٍ غير ذات موضوع.
غير أن الطفولية شيء غامض إلى أقصى حدود الغموض. أولًا، قد تكون أصلية أو عَرَضية؛ ثانيًا، قد تكون رسوبية أو جنينية. هناك فرق كبير بين شيء بقي طفوليًّا وشيء هو في سياق النمو. كلاهما قد يتخذ شكلًا طفوليًّا أو جنينيًّا، وغالبًا ما يتعذر علينا أن نعرف إن كنا نتعامل مع شظية طفولية مستمرة بصورة تبعث على الأسف، أو مع بداية خلاقة هامة حياتيًّا. أن نهزأ بهذه الإمكانيات هو أن نتصرف كالمغفل الذي لا يعرف أن المستقبل أهم من الماضي، لذلك قد ننصح بفحص هذه التخيُّلات الطفولية الطليقة التي قد تبدو لنا «انحرافات» سعيًا وراء الكشف عن مضموناتها الإبداعية فلا نتعقبها رجوعًا إلى المهد، وأن نفهم العُصاب تبعًا لذلك على أنه محاولة للتكيف أكثر من كونه تلبية غير موفقة أو مَوْروبة لرغبة.
طبعًا، للنظرية الطفولية ميزة لا تقدر بثمن، فهي ترفع الطبيب «إلى القمة»، باعتباره الممثل للتبصرة السليمة الصحيحة العليا، بينما يتمدد المريض المسكين، فاقد العون، ضحية تلبيات رغبة طفولية منحرفة غير شعورية. إن هذا أيضًا يمنح الطبيب فرصة لكي يعرف أفضل، ويتجنَّب لقاء شخصية المريض وجهًا لوجه، وأن يختبئ وراء تقانية.
ليس من الصعب أن نرى مقدار ما يَلقَى هذا الموقف من دعم وتأييد من ميول في الواعية والخافية، ولماذا يرحب الطبيب بنظرية الطفولية منذ البداية، حتى ولو كان مستعدًّا تمامًا، بما هو كائن بشري، للاعتراف بشخصية مريضه؛ فالتأثير الواسع الذي أحدثته أفكار فرويد ليس مصدره موافقتها للوقائع الصحيحة أو المفترضة وحسب، وإنما إلى حد كبير إتاحتها فرصة سهلة تمس نقطة ضعف الفتى الآخر، وتُرضِي غروره وترفعه إلى موقع أعلى. ألا ما أشد ما يبعث على ارتياح الطبيب عندما يستطيع أن يقول في زاوية ضيقة: «لا شيء إلا مقاومة!» أو عندما لا يعود بحاجة إلى حمل حجة خصمه على محمل الجد؛ لأنها يُسرَان ما تُصرَف على «الرمزية» — بدون أن نسأله أبدًا وهذا يجب ملاحظته — إن كان هنا التفسير مقبولًا في سيكولوجيته.
ثم، هناك عدد لا يُحصى من المرضى الذين هم في أعماق نفوسهم، مع تظاهر شديد بالخجل، على استعداد أكثر من اللازم للانضمام إلى نظرية الطفولية، لأنها تمنحهم إشارة عريضة إلى كيفية صرف «الطفولية» المزعجة على اعتبارها «ما هي إلا». وفي حالات كثيرة تتيح هذه النظرية مخرجًا كأنه مرسل من السماء من المشكلات الحادة غير السارَّة في الحياة الواقعية، إذ تنقل الناس إلى مروج الطفولة السعيدة حيث يدَّعي المريض، بعد امتطائه عربة السببية، أنه قد اكتشف أسباب إخفاقه في الحاضر، وكيف ترجع كلها إلى خطأ أبَوَيه وتربيتهما له.
صحيح أنه لا شيء يتعذر استعماله من أجل نزع المشروعية على الصفات الطبية. لكن علينا أن نلاحظ من أين يزحف التعسُّف، وكيف يجري استغلاله. تتوقف هذه الأشياء إلى حد كبير جدًّا على الطبيب، الذي يجب أن يأخذ مرضاه بجدية عظيمة لكي يكتشف تعسُّفًا من هذا النوع. التقانية لا تلاحظ شيئًا، لكن الكائن البشري يلاحظ — وهو وحده يستطيع تنمية الحساسية اللازمة لتقرير ما إن كان العُصاب يجب أن يعالج انطلاقًا من زاوية طفولية أو من زاوية إرادة التكيف.
ربما لا حاجة بي إلى القول إن التقانية ضرورية حتى نقطة معينة — نحن جميعًا مقتنعون بذلك. لكن خلف كل منهج يقف الإنسان، وهو أهم منه بكثير لأن عليه أن يصل إلى قرارات، بصرف النظر عن تقانيته، هي على الأقل حيوية للمريض مثلما حيوية كل تقانية تُطبَّق تطبيقًا حاذقًا. لذلك كان على طبيب النفس أن يمارس معرفة ذاته وينقد مُسَلماته الشخصية، أدينية كانت أم فلسفية، تمامًا مثلما هو التعقيم ضروري للجراح. على طبيب النفس أن يعرف «معادلته الشخصية» لكيلا يعتدي على مريضه. لهذا الغرض طورت سيكولوجية نقدية تتيح لطبيب النفس أن يعترف بمختلف المواقف النموذجية، رغم أن المدرسة الفرويدية تؤكد أن هذا لا علاقة له بالتحليل النفسي. من الواضح أن التحليل النفسي تقانية يتوارى خلفها الكائن البشري وتبقى دائمًا هي نفسها كائنًا من كان الذي يقوم بتطبيقها. تبعًا لذلك، لا يحتاج المحلل النفسي إلى معرفة نفسه ولا إلى نقد مُسَلماته. الظاهر أن الغرض من تدرُّبه على التحليل النفسي لا أن يصير كائنًا بشريًّا بل ممارسًا حاذقًا لتقانية.
لكن التحليل النفسي، حتى ولو نظرنا إليه باعتباره تقانية، لا يعني أنه يتصف بالبساطة. وفي الواقع: إنه قضية معقدة جدًّا، وخدَّاعة بطريقة شيطانية، بالمقارنة مع أكثر الإجراءات الكيمياوية إتقانًا، خاضع لما لا نهاية له من التنوع، وتكاد أن تكون نتائجه لا يمكن التنبؤ بها. كل من يجد هذا صعب التصديق، ما عليه إلا أن يقرأ بإمعان «تقانية» فرويد في تحليل الأحلام التي يجدها، مثلًا، في «حقنة إيرما» في كتابه «تفسير الأحلام». أن ندعو مثل هذا الإجراء «تقانية» يتطلب جرعة قوية من التفاؤل. ومع ذلك يفترض أن الأحلام «طريق يؤدي رأسًا إلى الخافية»، تلعب دورًا ليس غير أكيد في التحليل النفسي! حقًّا، لا بد أن يكون المرء مضروبًا بالعمى إن لم يرَ في هذا النوع من «التقانية»، أولًا وقبل كل شيء، تعبيرًا عن الإنسان الذي يطبقها وعن جميع مُسَلماته الشخصية.
غنيٌّ عن القول أن هذا يجب ألا يكون مسألة خداع ذاتي ساذج. على العكس، ليس طبيبًا نفسيًّا مَن يَدَع الفرصة تفوته لدرس نفسه دراسة نقدية في ضوء هذه السيكولوجيات السلبية. لقد رأى فرويد وإدلر بوضوح شديد ذلك الظل الذي يصاحبنا. اليهود عندهم هذه الخاصية التي يشاركهم فيها النساء؛ بما أنهم ضعفاء فيزيائيًّا تعيَّن عليهم أن يجعلوا هدفهم الشقوق في دروع أعدائهم، وبفضل هذه التقانية التي فُرِضت عليهم على مدى العصور، أضحى اليهود في حماية أفضل من غيرهم الذين ظلوا أكثر تعرُّضًا للخطر. ثم، لأنَّ حضارتهم أقدم من حضارتنا بأكثر من ضعفين، باتوا أكثر شعورًا مِنا، إلى حد كبير، بمواطن الضعف عند الإنسان، بالجانب الظِّلي المعتم من الأشياء، وهذا سبب جعلهم، من هذه الناحية، أقل تعرضًا منا للإصابة بكثير. بفضل خبرتهم كثقافة قديمة أصبحوا قادرين، بينما هم عارفون تمامًا بمواطن ضعفهم، على أن يقيموا مع هذه المواطن علاقات مودة بل حتى أن يتسامحوا معها، على أننا ما زلنا أصغر من أن نُكوِّن «أوهامًا» حول أنفسنا. زد على ذلك أن القَدَر قد عَهِد إلينا بمهمة خلق حضارة — وفي الحق أننا بحاجة إليها — ولذلك كانت «الأوهام» في هيئة مُثل عُليَا وعقائدَ وخطط … إلخ، أحاديةً كلها، أمورًا لا غِنى عنها. اليهودي، من حيث هو عضو في جماعة ذات حضارة عمرها حين ثلاثة آلاف سنة، كالصيني المثقف، يملك رقعة من الواعية السيكولوجية أوسع مما عندنا. تبعًا لذلك، لا يُشكل خطرًا كبير على اليهودي عمومًا أن يضع قيمة سلبية على الخافية. أما الخافية «الآرية» فتحتوي على قوة تفجيرية وبذور ما زال عليها أن تنبت في المستقبل، وهذه ربما لا يُنقَص من قيمتها، بما هي في رومانسية حضانة، بدون أن ينجم عن ذلك خطر نفسي. الشعوب الجرمانية، وهي ما زالت فَتِية، قادرة على خلق أشكال ثقافية جديدة ما زالت هاجعة في خافية كل فرد — بذور تتفجر بالطاقة وقادرة على الامتداد الشديد. أما اليهودي، وفيه شيء من بداوة، فلم يخلق بعد شكلًا ثقافيًّا خاصًّا به، وبمقدار ما نستطيع أن نرى لن يفعل ذلك أبدًا، ما دامت جميع غرائزه ومواهبه تتطلب أمَّة على شيء من التحضُّر لكي تقوم بدور المضيف الذي يرعى نموها.
العرق اليهودي ككل — على الأقل هذه خبرتي — يمتلك خافية لا يمكن مقارنتها مع الخافية «الآرية» إلا بتحفُّظ. باستثناء الأفراد المبدعين، اليهودي المتوسط أشد وعيًا وتمايُزًا من أن يَسعى وهو ممتلئ بتوترات مستقبَل غير مولود. الخافية «الآريَّة» تتمتع بقدرة كامنة أعلى مما تتمتع به الخافية اليهودية؛ إن هذا ميزة وعيب تتصف بهما حداثة سن لم تنفطم بعدُ عن البربرية. وفي رأيي: إنه لَمِن فادح الخطأ في الطب النفسي أن تطبق المقولات اليهودية — التي لا تنطبق حتى على جميع اليهود — بدون تمييز على المسيحية الجرمانية والسلافية. وبسببٍ من هذا الخطأ كان تفسير أثمن سر لدى الشعوب الجرمانية — وهو ما يتصف به عمقهم الروحي من حدس وقدرة على الخلق — على أنه مستنقع من الطفولية المبتذلة، بينما ظل صوتي التحذيري عقودًا متهمًا بمعاداة السامية. لقد صدر هذا الاتهام عن فرويد، وهو الذي لم يفهم النفس الجرمانية بأكثر مما فهمها أتباعه من الجرمان. تُرى، هل تعلموا شيئًا من الظاهرة المروعة التي تمثلت في النازية، التي يحدق فيها العالم بعيون ملؤها الدهشة؟ أين كان التوتر والطاقة اللذان لا نظير لهما عندما كانت الاشتراكية القومية لم توجد بعد؟ عميقًا في النفس الجرمانية، في حفرة قد تكون كل شيء إلا مزبلة من الرغبات الطفولية غير المحققة واشمئزازات عائلية لم تجد لها حلًّا. إن حركةً تستولي على أمة بكاملها لا بد وأن كانت ناضجة في كل فرد أيضًا. إن هذا هو سبب قولي إن الخافية الجرمانية تحتوي على توترات وقدرات كامنة يتعيَّن على السيكولوجيا الطبية أن تأخذها في اعتبارها في تقويمها للخافية. يجب أن يكون شغلها الشاغل لا العُصاب بل الكائن البشري — إن هذا لهو الامتياز العظيم للسيكولوجيا الطبية: معالجة كامل الإنسان لا الوظيفة المنفصلة انفصالًا مصطنعًا. وهذا يفسر سبب توسيع نطاقها حتى تنكشف أمام الطبيب لا مجرد أخطاء باثولوجية عن نمو نفسي مضطرب، بل قوًى خلاقة لنفس تعمل من أجل المستقبل؛ لا مجرد فُتاتة كئيبة، بل الكل الحافل بالمعنى.
ليس العصاب مجرد شيء سلبي، بل شيء إيجابي أيضًا. ولعله لا يتغاضى عن رؤية هذه الحقيقة إلا عقلانية فاقدة الروح، مؤيدة بنظرة مادية ضيقة. في الحقيقة، يحتوي العُصاب على نفس المريض، وعلى جزء أساسي منها على الأقل؛ فلو استطعنا، كما يَدَّعي العقلاني، أن نقتلع منه العُصاب مثلما نقتلع سنًّا فاسدة، لم يكسب شيئًا بل فقد شيئًا أساسيًّا. أي أنه يفقد بمقدار ما يحرم المفكر من شكه، أو بمقدار ما يحرم الأخلاقي من إغرائه، أو بمقدار ما يحرم الشجاع من الخوف. أن تفقد العُصاب هو أن تجد نفسك بلا هدف، وعندئذٍ تفقد الحياة هدفها؛ وحياة بلا هدف لا معنى لها. إنَّ فقد العُصاب ليس شفاءً، بل عمليات بتر نظامية. ولعل المحلل النفسي يُقدِّم للمريض عزاءً باردًا لو أنه أكد للمريض أنه لم يفقد سوى فردوسه الطفولي وأوهامه الرغبية، وأكثرُها مُنحرِف. لكنه يكون قد أضاع شيئًا كثيرًا في الحقيقة، لأنه في العصب تختبئ نُتفة من شخصية ما زالت بعد غير نظامية، شظية ثمينة من النفس، بدونها يُقضَى على الإنسان بالعزلة والمرارة وكل شيء آخر مُعادٍ للحياة. إن علم النفس يتصدى لعلاج العُصاب ولا يرى فيه غير العناصر السلبية إنما «يشطف» المولود مع ماء الحمام لأنه يهمل المعنى الإيجابي لهذه التخيُّلات الخلاقة «الطفولية»، كما يهمل قيمتها. هكذا يبدو على الغالب أن محاولته الرئيسية تكمن في السعي إلى تفسير كل شيء رجوعًا إلى الخلف ونزولًا إلى الأسفل؛ وطبعًا ليس في الخلف ولا في الأسفل شيء غير جدير بكاريكاتور داعر. لكن هذا لا يدل على أن الرمز أو العَرَض الذي يُفسَّد على هذا النحو له هذا المعنى فعلًا؛ كل ما في الأمر أنه يدل على المراهقة العقلية القذرة التي يتصف بها المفسر.
وهنا لا يسعني الإمساك عن إبداء هذه الملاحظة: كثيرًا ما يحدث أن يعمد أطباء من ذوي العقول الجادة، في إغفال تام لجميع القواعد الأساسية التي يقتضيها الحذر العلمي، إلى تفسير المادة السيكولوجية في ضوء تخمينات ذاتية، لا يستطيع المرء أن يفهم منه شيئًا على الإطلاق اللهم إلا أنها جميعها محاولات لمعرفة النكتة القذرة التي يمكن بواسطتها إقامة صلة بين المادة السيكولوجية ونوع من الشذوذ الجنسي الشفهي أو الأستي أو الإحليلي أو غير ذلك. لقد ضرب سمُّ التفسير «بالنزول إلى الأسفل» جذورَه في العمق حتى بلغ نخاع عظام هؤلاء الناس الذين لم يعودوا يفكرون أبدًا إلا في لغة الانحراف الطفولي الذي يتمثل في معصوبين معيَّنين، ممن يبدون عن جميع خصائص السيكولوجيا الفرويدية. وإنه لأمر غريب إيجابيًّا أن يقع الطبيب نفسه في طريقة تفكير يذمها هو في غيره محقًّا، واصفًا إياها بالطفولية، وإنها لهذا السبب تحتاج إلى الشفاء. يقينًا، إنه لأيسر بكثير أن نصنع تخمينات فوق رأس المريض من أن نرى ماذا تعنيه المادة التجريبية فعلًا. ومع ذلك، يقتضي منا أن نذهب إلى أن المريض إنما قصد المحلل لكي يتخلص من طريقته المرضية في التفكير وطريقته في النظر إلى الأشياء. ولذلك قد نستنتج — كما هو الحال في كل مكان من الطب الحديث — أن العَرَض ما هو إلا سعي الجملة المريضة إلى شفاء نفسها. لكن إذا كانت أفكار المحلل، المنطوقة أو غير المنطوقة، سلبية وذميمة بمقدار ما في أفكار المريض من سلبٍ ومَذمَّة، عندئذٍ يجب ألا نستغرب أن يصبح المريض تالفًا روحيًّا، وأن يعوِّض هذا التلف بالإفراط في الاعتماد على العقل اعتمادًا لا سبيل إلى الشفاء منه.
من المؤسف أن يوجد أناس كثيرون جدًّا يبررون عدم ثقتنا. كثيرون منهم يتخذون مُثلًا عُليَا وقيمًا مُزوَّقة صوفًا يسدلونه على عيونهم. وغالبًا ما يُضطَر المحلل إلى أن يصف لهم وصفة لا تبعث على سرور لكي يعيد إليهم الحقيقة عن أنفسهم. لكن ليس جميع الناس هم هكذا. على الأقل، عددهم هو عدد المرضى الذين يحتاجون إلى كل شيء إلا الارتياب في القيم والانتقاص منها. هؤلاء أناس محترمون في الأساس، يراعون بشرف قواعد اللعبة ولا يُعهِّرون المثل العليا من أجل تزيين عاهاتهم. أن تعالج مثل هؤلاء الناس على أساس دونية القيم والمُثُل العُليا، وأن تنسب إليهم دوافع خفية، وأن يخامرك ريب في أنَّ وراء استقامتهم الأخلاقية الطبيعية قذارات غير طبيعية، ليس بالأمر الغبي إلى حد الإثم وحسب، وإنما هو عمل إجرامي إيجابيًّا. التقانية هي دائمًا آلية لا روح فيها، وكل مَن يعتبر العلاج النفسي مجرد تقانية ويبجح بأنه كذلك فإنما يخاطر، في الحدود الدنيا، بارتكاب خطأ لا يُغتَفر. الطبيب الوجداني يجب أن يكون قادرًا على الشك في مهاراته ونظرياته جميعًا، وإلا استغفلته جملة نظرياته ومناهجه. ذلك أن جميع الأنظمة والجمل إنما تعني التشبُّث وانعدام الإنسانية. ولنبدد كل شك حول العصاب بالقول إنه قد يكون كل عدد على التعيين من الأشياء إلا أن يكون «ما هو إلا». هو كرب الروح البشري في كل تعقيداته الواسعة — وقد بلغت من السعة مبلغًا تغدو معها كل نظرية عن العصاب أفضل قليلًا من رسم أولي لا قيمة له، إلا أن يغدو صورة ضخمة عن النفس لا يستطيع أن يفهمها ولا مائة من طراز فاوست.
القاعدة الأساسية التي يتعين على طبيب النفس أن يأخذها في اعتباره هي أن كل حالة هي حالة جديدة وفريدة. ولعل هذا أقرب ما يمكن الوصول إليه من الحقيقة. بدون ذلك، يصعب عليه التمييز بين ما هو ذو قيمة وما لا قيمة له. وكما قلت، يتكون العصاب من عاملين: عناد طفولي وإرادة للتكيُّف. لذلك كان على طبيب النفس أولًا أن يتلمس طريقه حتى يتبين له الجانب الذي يقع عليه التوكيد والتشديد؛ لأن الحريقَ يبدأ من هنا. فإن كان التوكيد يقع على إرادة التكيف، فلا معنى أن يندد الطبيب بمحاولة التكيُّف وأنها تخيل رغبي طفولي. المُحَلل مُعرَّض كثيرًا لأن يرتكب هذا الخطأ مع مريضه والمريض — من شدة الألم — يشعر بالارتياح لأنه بات في حِمى سلطة طبية من المتطلبات المخوفة والمكروهة من شخصيته؛ أي، من متطلبات ذلك الجزء من شخصيته الذي يختبئ فيه. لكن هذه الشخصية «الأخرى» هي نفس الشيء الذي يجب ألا يغيب عن نظره أبدًا؛ لأنه هو نقيضه الداخلي، الحافز على الصراع الذي ينبغي أن يخوضه إن كان للحياة أن تستمر. بدون هذا التضاد الأوَّلي، لا دفق للطاقة ولا حياة. حيثما بلغ الافتقار إلى التضاد، أصاب الحياة بالسكونية. لكن وراء ذلك تتدفق الحياة بصفة غير شعورية في أشكال من العُصاب متجددة ومتغيرة أبدًا. وليس يُجنبنا الركود والخضوع إلى التصلب والتذرع العصابي شيء كفهمنا للعصاب وتسليمنا بأنه أثمن ممتلكاتنا وأكثرها حقيقية. في العصاب يختبئ ألد أعدائنا وأخلص أصدقائنا. على أن المرء لا يسعه أن يبالغ في تقدير قيمة العصاب، اللهم إلا إذا جعل منه القدَر عدوًّا للحياة. لكن هناك دائمًا مُنشقُّون، ليس عندهم ما يقولونه لنا، كما ليس عندنا ما نقوله لهم.
يجب ألا نحاول «التخلص» من العُصاب، بل حرِيٌّ بنا أن نتعلم ماذا يريد منا، ما غرضه. يجب علينا أن نتعلم الشكرَ عليه حتى، وإلا تجاوزناه وضاعت منا فرصة الوصول إلى معرفة أنفسنا مثلما نحن في الحقيقة. لا يزول العُصاب إلا عندما يزول الموقف الخاطئ الذي اتخذته الأنية. نحن لا نَشفِي العُصاب، بل هو يشفينا. قد يَمرض الإنسان، لكنَّ المرض محاولة من الطبيعة لشفاء الإنسان أيضًا. من المرض نفسه قد نتعلم الشيء الكثير لكي نستعيد عافيتنا. وما قد ينبذه المعصوب جانبًا على أنه لا قيمة له على الإطلاق قد يحتوي على التبر الحقيقي الذي ما كان لنا أن نجده في مكان آخر. وكلمة «لا شيء إلا» التي ما ينفك يرددها المحلل النفسي في كل لحظة هي تمامًا ما كان يقوله تاجر يريد أن يشتري بضاعةً بالثمن الأرخص. لكننا، في هذه الحالة، أمام روح الإنسان، أمله، هروبه الجريء، أجمل مغامراته.
لا، لن تنجح هذه المحاولة لتخليص الإنسان المريض من عُصابه، ومع العصاب تخليصه من روحه. زد على ذلك أنها، في العمق، مهمة مستحيلة، خداع: في السياق الطويل، ما من أحدٍ يستطيعُ أن يتفلت من ظله إلا إن كان يعيش في ظلمة أبدية. إنَّ ما يراه المريض في الانفصال العصابي جزءًا غريبًا لهو جزءٌ غريب لم يعرفه من شخصيته، ويسعى لكي يفرض التعريف بنفسه كما يسعى كل جزء آخر من الجسم، حتى إذا أصر على نكرانه أصر على فرض حضوره. لو أنكر أحد وجود يده اليسرى، لتورَّط في شبكة من التفسيرات تقوم على مبدأ «لا شيء إلا»، تمامًا كما يحدث للمعصوب، باستثناء أنَّ المحلل يخلع عليها شرف اسم «نظرية». القول بأن التخيُّلات الطفولية المنحرفة «لا شيء إلا» هو جهود المريض لكي يُنكر يدَه اليسرى. وهذه الجهود هي بحد ذاتها انحرافه المرضي، ولا تكون باعثةً على الاهتمام إلا بمقدار ما تحتوي على إشارة خفية إلى اليد اليسرى. كل شيء آخر حولها غير حقيقي لأنه لا يسعى إلا لإخفائها. طبعًا، يظن فرويد أنَّ الشيء الذي تُخفِيه هو الشيء الذي تشير إليه هذه التخيُّلات في شيء من الصراحة، أي الجنس وكل ما يتبقَّى منه. لكنَّ هذا المريض هو بالضبط ذلك النوع الذي يضعه فرويد نصب عينَيه في كل وقت. يمتطي حصان هوايته كما يفعل محلله، الذي ربما سلمه فكرة مسعفة أو فكرتين؛ الرضَّ الجنسي الطفولي الشهير، مثلًا، الذي نستطيع أن نقضي زمنًا طويلًا في تتبُّعه، لكن لا شيء إلا ليتضح لنا أننا ما زلنا جد بعيدين عن الحقيقة مثلما كنَّا من قبل.
السبب الحقيقي للعُصاب يكمُن دائمًا في الحاضر؛ لأنَّ العُصاب موجود في الحاضر. ليس أثرًا من الماضي؛ يتغذَّى ويتجدد خلفه في كل يوم. و«الشفاء» منه لا يمكن أن يتم إلا في هذا اليوم، لا في الماضي من أيامنا. وبما أن النزاع العصابي يجب أن يُكافَح اليوم، فإن كل رجعة إلى الماضي هي ابتعاد عن الهدف. وبما أنَّ العُصاب يحتوي على جزء من شخصية المعصوب، كان كل استطراد في ألف إمكانية وإمكانية من التخيُّلات القذرة والرغبات غير المقضية ليس إلا ذريعة لتجنب المسألة الجوهرية.
المسألة الجوهرية هي: ما الذي يخترق هذا الضباب من حَشوِ الكلام وصولًا إلى شخصية المريض الواعية، وماذا يجب أن تكون طبيعة موقفه إن كان لا بد له من إعادة هذه الفُتاتة المنشطرة من نفسه إلى نفسه، افتراضًا بأنها كانت دائمًا جزءًا لا يتجزأ منه؟ لكن، هل كان بوسعها أن تُقلِقه في مثل هذه الشدة، لو لم تكن في منزلة يدِه اليسرى من جسمه، في منزلة النصف الآخر نفسه؟ لذلك، فإن شيئًا ينتسب إليه بالمعنى العميق إنما يُكمِّله ويخلق فيه توازنًا عضويًّا، ومع ذلك لسببٍ ما يخاف منه، ربما لأنه يجعل الحياة معقدة، ويطرح عليه مهامَّ مستحيلة نظريًّا.
من الواضح أن خير طريقة للتهرُّب من هذه المهام الاستعاضة عنها بشيء لنا بحق أن ندعوه مستحيلًا — مثلًا، عالم القذارات الذي ينصح فرويد نفسُه أن نسمو به في أسرع ما يمكن. ويبدو أنَّ فرويد أخذ هذه التخمينات العُصابية على محمل الجد تمامًا فوقع في نفس الفخ الذي وقع فيه المعصوب: من ناحية يُفتِّش عن منعطف خاطئ بأي ثمن، ومن ناحية ثانية لا يستطيع أن يجد الطريق الصحيح للخروج من المتاهة. لقد كان من الواضح أنه انطلت عليه الخدعة العصابية فاعتبرها «مذمَّة ملطَّفة». لقد قلل من قيمة العصاب ففاز بتصفيق المرضى والأطباء على السواء، الذين لا يريدون شيئًا خيرًا من أن يسمعوا أن العُصاب «ما هو إلا».
ظلت الروح المعتلة الشغل الشاغل للعقل البشري طوال آلاف السنين، وربما كانت كذلك حتى قبل أن يكون جسده المعتل شغله الشاغل؛ فالتضرُّع إلى الآلهة، وأخطار الروح وخلاصها، لم تكن من مشكلات الأمس القريب؛ فالأديان أنظمة علاج نفسي بأصح معنًى الكلمة وعلى أوسع نطاق؛ تُعبِّر عن نظام تام من المشكلة النفسية في صور قوية؛ هي إقرار بالروح واعتراف بها، وفي نفس الوقت كشف عن طبيعتها. عن هذا الأساس العالمي لا يسع روحًا أن تنفصل؛ الواعية الفردية وحدها التي فقدت اتصالها بالكلية النفسية تبقى أسيرةَ الوهم بأن الروح رقعة محدودة، موضوع مناسب للتنظير العلمي. إن فقدان هذا الاتصال العظيم لهو أول شرور العُصاب، وهذا يُفسِّر أسباب تضييع المريض طريقه في أزقة خلفية ملتوية ذات سمعة سيئة؛ لأنَّ مَن ينكر العظيم عليه أن يلوم الحقير. في كتابه «مستقبل الوهم» كشف فرويد عن يده بدون ذكاء. لقد أراد أن يقضي نهائيًّا على جانب واسع من الظاهرة النفسية، وهو في محاولته هذه تابع العمل المادي الذي يظل يعمل في كل معصوب: قطع الصلة بين الناس والآلهة، الانفصال عن القواعد التي تنهض عليها النفس التي يعرفها جميع الناس ويشعر بها جميعهم؛ ولذلك كان «نكران اليد اليسرى» للنظير الإنساني أمرًا لازمًا لوجوده النفسي.
لنمسك عن سؤال من لم يَعِظ آذانًا صماء! لكن هل كتب غوتيه كتبه عن «فاوست» عبثًا حقًّا؟ أليس فاوست معصوبًا بحجم قبضة يدك؟ ذلك أن الشيطان قد ثبت يقينًا أنه غير موجود. تبعًا لذلك فإنَّ نظيره النفسي أيضًا غير موجود — سر لم يزل بدون حل، وُلِد من إفرازات فاوست الداخلية المريبة! هذا هو على الأقل رأي مفيستول الذي لم يكن هو نفسه فوق اللوم جنسيًّا بشكل تام — عنده ميل إلى أن يكون ثنائي الجنس، إن كان يميل إلى شيء هذا الشيطان الذي لا وجود له، وفقًا ﻟ «مستقبل وهم»، ما زال هو الموضوع العلمي للتحليل النفسي، الذي يشغل نفسه جذلان بطرائق تفكيره التي لا وجود لها. قد يكون قدَرُ فاوست في السماء وعلى الأرض «متروكًا للشعراء»، لكن في هذه الأثناء تنقلب الآراء المقلوب بعضها فوق بعض عن الروح البشري إلى نظرية في المرض النفسي.
العلاج النفسي اليوم، على ما يبدو لي، ما زال أمامه شيء كثير لكيلا يتعلمه ويتعلمه من جديد إن كان له أن ينصف موضوعه قليلًا، وأعني به ملء مدى النفس البشرية. لكن عليه أولًا أن يمسك عن التفكير عُصابيًّا ويرى السباقات النفسية في منظورها الصحيح. إن الذي يقف في حاجة إلى مراجعة جذرية، ليس مفهومنا كله عن العُصاب وحسب، وإنما أيضًا أفكارنا عن الوظائف النفسية، كوظيفة الأحلام مثلًا. فقد ارتُكبت أخطاء فادحة هنا، عندما نُظِر إلى وظيفة الأحلام، وهي وظيفة طبيعية تمامًا، من نفس الزاوية التي ينظر بها إلى مرض، عندئذٍ يصبح جليًّا أنَّ العلاج النفسي قد وقع تقريبًا في نفس الخطأ الذي وقعت فيه مدرسة الطب القديمة عندما هاجمت الحُمَّى اعتقادًا منها بأنها هي كانت الأداة الضارة.
وإنه لمن قدر العلاج النفسي وسوء حظه أن تكون نشأته في عصر التنوير حين جعل الارتياب الذاتي من القيم الثقافية القديمة أمرًا غير ممكن البلوغ، ومن علم النفس علمًا لا وجود له خارج النطاق الذي يتعدى كثيرًا مستوى هربارت وكوندياك — اللذين لم يفهم أيٌّ منهما التعقيدات والمُربِكات التي يُواجَه بها فجأة الطبيب الساذج الذي لم يعد نفسه الإعداد اللازم. بهذا الخصوص، يجب أن نكون شاكرين لفرويد، لأنه — على الأقل — خلق حسًّا معيَّنًا بالاتجاه في هذا العماء، ومنح الطبيب شجاعة كافية لكي يأخذ حالة الهستيريا أخذًا جادًّا، كافتراض علمي. النقد بعد الحدث سهل جدًّا، لكن رغم ذلك لا معنى لأن ينام كامل الأطباء على أمجاد فرويد؛ فما زال هناك الكثير لكي نتعلمه عن علم النفس، وحاجتنا الخاصة اليوم أن نتحرر من الأفكار المهترئة التي ضيَّقت نظرتنا إلى علم النفس ككل إلى درجة خطيرة.