مشكلة الحب في أوساط الطلبة١
أؤكد لكم أنني أتصدى، وأنا غير متحمس، لمهمة افتتاح مناقشتكم لمشكلة الحب بين أوساط الطلبة بقراءة بيان عام حول هذا الموضوع. وهذه المناقشة غير اعتيادية، وتكشف عن مصاعبَ جمة إذا كان لنا أن نأخذها بروح جادة وحس بالمسئولية مناسب.
الحب دائمًا مشكلة، مهما كان عُمر المحب، في الطفولة، حب الولد لأبويه مشكلة، ومشكلة الرجل العجوز تكمن فيما صَنع بحبه. والحب قوة القدر الذي تمتد قدرته من السماء إلى الجحيم. أظن أننا ينبغي أن نفهم الحب على هذا النحو إن كنا نريد أن نفي المشكلات التي ينطوي عليها شيئًا من حقها؛ فهي مشكلات واسعة النطاق، بالغة التعقيد، غير محصورة في منطقة معيَّنة، بل تشمل كل جانب من الحياة البشرية. فقد يكون الحب مشكلة أخلاقية أو اجتماعية، نفسية أو فلسفية، جمالية أو دينية، طبية أو قانونية، أو قد يكون مشكلة فيزيولوجية، هذا إذا أردنا الاقتصار على تعداد بضعة جوانب من هذه الظاهرة ذات الجوانب الكثيرة. غير أن هذه المساحة الواسعة التي يحتلها الحب في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية ما هو إلا صعوبة صغيرة بالقياس إلى كون الحب مشكلة فردية بالغة الشدة أيضًا. وهذا يعني أن كل معيار عام، أو كل قاعدة عامة، يفقد صلاحيته أو صلاحيتها، بنفس الطريقة التي تأبى فيها المعتقدات الدينية الانحناء أمام قاعدة تقليدية، من حيث إن هذه المعتقدات خبرة فردية في جوهرها، على الرغم من أنها تُقنَّن دائمًا مع مجرى التاريخ بوصفها قيمة اجتماعية.
إن كلمة «الحب»، بحد ذاتها، عقبة في طريق بحثنا. ما هو بالفعل الذي يُسَمَّى «حبًّا» ابتداءً من أعلى سر في الديانة المسيحية، نُواجِه في المراحل التالية إله المحبة عند أوريغن، وإله العقل المحب عند اسبينوزا، وحب أفلاطون لفكرة، و«غوتسمينة» عند المستطيقيين (الصوفيين). وتُدخلنا كلمات غوتيه في نطاق الحب البشري:
هنا نجد حب الإنسان لجاره بالمعنى المسيحي، مثلما نجد الرحمة بالمعنى البوذي، وحب البشرية كما يعبر عنه بالمعنى الاجتماعي. يلي ذلك حب المرء لوطنه، وحبه للمؤسسات المثالية كالكنيسة. ثم يأتي حب الوالدين، وفوق كل شيء حب الأم، ثم حب الأولاد. وعندما نأتي إلى الحب الزوجي، نخرج من دائرة الحب الروحي وندخل في دائرة متوسطة بين الروح والغريزة. هنا يضرم اللهبُ الطاهرُ المنبعث من «إيروس» النار في الجنس، فتختلط الأشكال المثالية من الحب — حب الأبوين، حب الوطن، حب الجار … إلخ — بشهوة التسلط الشخصية والرغبة في التملك والتحكم. وهذا لا يعني أن كل اتصال للحب بالغريزة يحط من قيمته. على العكس، إن جمال الحب وحقيقته وقوته تصبح أقرب إلى الكمال كلما استطاع أن يمتص الغريزة في داخل نفسه. فقط عندما تسيطر الغريزة يصعد الحيوان إلى السطح. قد يكون الحب الزوجي من النوع الذي تكلم عنه غوتيه في نهاية فاوست:
لكن ليس من الضروري أن يكون الحب الزوجي في مثل هذا الحب، فقد يُذَكرنا بكلمات نيتشه: «حيوانان وقع بعضهما فوق بعض.» وحب العاشق مختلف أيضًا؛ فقد يتغير شكل هذا الحب بقوة القدر أو بطبيعته المأساوية الخاصة؛ لأن الأصل أن تسوده الغريزة بوهجها القاتم أو نيرانها الخافقة.
حتى هذا لم يوصلنا إلى حدود الحب. ﺑ «الحب» نعني أيضًا الفعل الجنسي على جميع المستويات، من الحب المؤيد رسميًّا والمساكنة الزوجية إلى الحاجة الفيزيولوجية التي تسوق الرجل إلى البغايا ومجرد التجارة التي يتاجرن بها أو يُجبَرن على المتاجرة بها.
هكذا نجد أنفسنا في الموقع الصعب الذي تفرضه بداية البحث في موضوع أو مفهوم حدوده أقل الحدود ظهورًا ومداه يكاد أن يكون بلا حدود. بودي لو نقتصر البحث في مفهوم الحب، على الأقل من أجل أغراض المناقشة الراهنة، على مشكلة ائتلاف الطلبة مع الجنس. لكن هذا بالذات غير ممكن؛ لأن جميع معاني كلمة «حب» التي قد أتيت على ذكرها تدخل فعلًا في مشكلة الحب التي يعاني منها الطلبة.
غير أننا نستطيع أن نبحث في الطريقة التي يسلك بها الشخص المتوسط الذي ندعوه شخصًا سويًّا تحت الشروط التي وصفتها. بصرف النظر عن الإنسان «السوي» غير موجود، نجد مشابهات كافية حتى فيما بين الأفراد الذين يتألفون من أشد النماذج ثباتًا تجيز لنا بحث مشكلة «متوسطة». مثلما هو الحال دائمًا، يتوقف الحل العملي للمشكلة على عاملين: احتياجات الفرد وقدراته، والشروط البيئوية المحيطة.
يتعيَّن على المُحاضِر أن يُقدِّم عرضًا عامًّا عن المسألة التي يتناولها بالبحث. طبعًا، إن هذا غير ممكن إلا إذا قدَّمتُ، وأنا الطبيب، كشفًا موضوعيًّا بالأشياء كما هي، وامتنعتُ عن ذلك الكلام القديم الذي يُقحِم الأخلاقَ في الموضوع ويحجبه عنَّا بقناع هو مزيج من الخجل والنفاق. فضلًا عن أنني أنا لست هنا لكي أعلمكم ما يجب فعله. هذا يجب أن يُترَك للذين يعرفون دائمًا ما هو الأفضل لغيرهم من الناس.
إن موضوعنا هو «مشكلة الحب في أوساط الطلبة»، وأفترض أن «مشكلة الحب» تعني العلاقة بين الجنسين، ويجب ألا تُفسَّر بأنها «مشكلة جنسية» في أوساط الطلبة. إن هذا يُزوِّدنا بتحديد مفيد لموضوعنا، ذلك أن مسألة الجنس لا تحتاج إلى الدرس إلا بمقدار ما هي مشكلة حب أو مشكلة علاقة. لذلك يمكننا استبعاد جميع الظاهرات الجنسية التي تعوزها العلاقة، كالانحرافات الجنسية (باستثناء المثلية الجنسية)، وممارسة العادة السرية، غشيان البغايا. لا يمكننا استبعاد المثلية الجنسية؛ لأنها في الأغلب مشكلة علاقة، بينما نستطيع استبعاد ممارسة البغاء لأنها لا تنطوي في العادة على علاقة، على الرغم من وجود استثناءات تثبت القاعدة.
الحل المتوسط لمشكلة الحب هو — كما تعلمون — الزواج. لكن الخبرة تُظهرنا على أن هذه الحقيقة الإحصائية لا تنطبق على الطلبة. السبب المباشر لذلك هو أن الطالب عمومًا ليس في وضع يسمح له ﺑ «فتح بيت». سبب آخر هو حداثة سن أكثر الطلاب التي لا تسمح لهم بَعدُ بالاستقرار الاجتماعي الذي يترتب على الزواج؛ إما لأن دراستهم لم تنتهِ بعد، وإما لأنهم يحتاجون التنقل من مكانٍ إلى آخر. وهناك عوامل أخرى يجب أخذها بعين الاعتبار منها قلة النضج السيكولوجي، والتعلق الطفولي بالبيت والعائلة، والقدرة غير النامية نسبيًّا على الحب وتحمل المسئولية، ونقص الخبرة في الحياة والعالم، والأوهام النموذجية عند اليافعين، وهلمَّ جرًّا. وهناك سبب آخر يجب ألا نُقَلل من أهميته وهو التحفُّظ الحكيم عند الطالبات؛ فهؤلاء هدفهن تكملة دراستهن واستلام عمل، لذلك يُمسِكنَ عن الزواج، وخصوصًا عن الزواج بطالب؛ لأنَّ هذا ما دام بعد طالبًا فليس هو بالشريك الزوجي المرغوب فيه، للأسباب التي ذكرتها توًّا، وهناك أيضًا سبب آخر، وهو سبب مهمٌّ جدًّا لعدم تواتر الزيجات بين الطلبة، هو مسألة الأولاد. الأصل أن الفتاة عندما تتزوج تريد ولدًا، بينما يستطيع الرجل أن يصبر مدة طويلة من دون ولد. والزواج من دون أولاد ليس له جاذبية خاصة عند المرأة؛ لذلك تُفضِّل أن تنتظر.
صحيحٌ أن الزواج بين الطلبة أصبح أكثر طروءًا في السنوات الأخيرة، إلا أن هذ يرجع جزئيًّا إلى التغييرات السيكولوجية في نظرتنا الحديثة إلى العالم، وجزئيًّا إلى انتشار تدابير منع الحمل. التغييرات السيكولوجية التي أنتجت، في جملة أشياء أخرى، ظاهرة الزواج بين الطلاب، ربما كانت نتيجة للهزات الروحية التي حصلت في العقود القليلة الأخيرة، والتي ما زلنا غير قادرين على استيعاب مغزاها الكلي. كل ما نستطيع قوله أنْ قد حصل تغيير في صميم مفهوم مشكلة الحب نتيجة لانتشار المعرفة العلمية ولاتباع طريقة تفكير أكثر علمية. فقد أحدثت الموضوعية العلمية تقارُبًا بين الفكرة المُقدَّسة عن الإنسان بما هو كائن عُلوِي والإنسان بما هو كائن طبيعي، وجعلت من الممكن أن يأخذ الإنسان العاقل مكانه باعتباره جزءًا من نظام الطبيعة. وقد كان لهذا التغيير مظهرٌ عاطفيٌّ مثلما كان له مظهر عقلي. ولا شك أن هذه النظرة تؤثِّر في مشاعر الإنسان تأثيرًا مباشرًا؛ إذ يشعر أنه قد انطلق من حدود النظام الميتافيزيقي ومن المقولات الأخلاقية التي تَسِم نظرة القرون الوسطى إلى العالم؛ فالمحرمات التي أقيمت من أجل عزل الإنسان عن الطبيعة لم تعُد سائدةً، والأحكام الأخلاقية التي هي في التحليل الأخير ذات جذور في الميتافيزيقا الدينية للعصر قد فقدت سلطانها. في نطاق النظام الأخلاقي، كلُّ أحد يعرف تمامًا لماذا كان الزواج «صحيحًا»، ولماذا كان كل شكل آخر من الحب ممقوتًا. لكن خارج النظام، في ملعب الطبيعة وميدانها، حيث يشعر الإنسان أنه أعظم أفراد الأسرة الحيوانية الكبرى موهبة، يجب عليه أن ينحو منحًى جديدًا. في بادئ الأمر، بلغ فقدان المقاييس والقيم القديمة مبلغ الفوضى الأخلاقية. أصبحت جميع الصيغ التي كانت مقبولة حتى يومئذٍ مشكوكًا فيها، وبدأ الناس يناقشون أشياءَ ظلت مدة طويلة مختبئة خلف انحياز أخلاقي. صاروا يبحثون بجرأة في الوقائع الفعلية ويشعرون بحاجة لا تُقاوَم إلى اختزان الخبرة وإلى المعرفة والفهم. إن عيونَ العلم عيونٌ لا تخاف وترى بجلاء؛ لا تُحجم عن التحديق في الظلمات الأخلاقية والزوايا القذرة. لم يعُد بوسع إنسان اليوم الاكتفاء بحكم تقليدي؛ يجب عليه أيضًا أن يعرف لماذا. لقد قاده هذا البحث إلى خلق معايير جديدة للقيم.
من هذه المعايير تقويم الحب على أساس الصحة. على أثر مناقشة للجنس صريحة وموضوعية انتشرت معرفة واسعة بأخطار الأمراض التناسلية انتشارًا واسعَ النطاق، فحل التزام المرء بالمحافظة على صحته محل المخاوف الإثمية في معايير الأخلاقيات القديمة، لكن هذا السياق من أخلاقيات الصحة لم يتقدَّم إلى النقطة التي يَسمَح فيها الضمير العام باتخاذ نفس التدابير المدنية لمعالجة الأمراض التناسلية التي تتخذ عادةً في مكافحة الأمراض الوبائية؛ إذ ما زالت الأمراض التناسلية تُعتَبر أمراضًا «غير لائقة»، خلافًا للجُدري والكوليرا التي تُعتَبر أمراضًا مقبولة أخلاقيًا في عيادة الطبيب. لا شك أن هذه الفروقات الطفيفة خليقة بأن تبعث على ابتسام في عصر أكثر تنوُّرًا من عصرنا.
إن بحث المسألة الجنسية على نِطاق واسع قد دفع بالأهمية الخارقة للعادة التي يتصف بها الجنس في جميع تفريعاته النفسية إلى مكان الصدارة من واعيتنا الاجتماعية، وقد قامت حركة التحليل النفسي التي لقيت من الشجب والاستنكار ما لقيت، بمساهمة كبيرة في غضون ربع القرن الأخير. ولم يعُد اليوم من الممكن التغاضي عن الأهمية السيكولوجية الهائلة التي يتمتع بها الجنس بمجرد نكتة رديئة أو بإبداء استنكار أخلاقي، فقد أخذ الناس يَرَون مسألة الجنس في سياق المشكلات الإنسانية العظمى وبحثها بالرصانة التي تستحقها، وكانت النتيجة الطبيعية لذلك أن أصبح اليوم عرضة للشك الكثير مما كان غير قابل للجدل من قبل؛ فهناك مثلًا الشك فيما إذا كان الشكل المؤيد رسميًّا من الجنس هو الشكل الوحيد الممكن أخلاقيًّا، وفيما إذا كانت الأشكال الأخرى جميعها يجب الحكم عليها بالبطلان. وقد أخذت الحجج المناصرة والمخاصمة تفقد حدَّتها الأخلاقية تدريجيًّا، بعد أن فرضت الاعتبارات العملية نفسها على البحث، ثم بدأنا نتبيَّن أن الجنس المشروع ليس بالضرورة هو المعادل للتفوق الأخلاقي.
هذه الظاهرات الواسعة الانتشار، المعروفة على نطاق واسع، هي علامة الأزمنة. تتيح لشباب اليوم أن يدركوا ما لمشكلة الجنس من الأهمية التامة في وقت أكبر بكثير مما كانوا يستطيعون إدراكه في أي وقت من العقدين الماضيين. هناك من يذهب إلى أن هذا الاهتمام المبكر بالجنس أمر غير صحي، علامة على انحطاط مدنية. أذكر أنني قرأت مقالًا لخمس عشرة سنة خلت في «حوليات الفلسفة الطبيعية» مقالًا لأوستفالد، يقول بالحرف الواحد: «البدائيون من مثل الإسكيمو والسويسريين … إلخ؛ ليس عندهم مشكلة جنسية.» لا يحتاج الإنسان إلى كثير من التفكير لكي يعرف لماذا ليس عند البدائيين مشكلة جنسية؛ فيما وراء هموم المعدة ليس عندهم مشكلات أخرى تبعث على القلق. المشكلات هي امتياز الإنسان المتحضر. هنا في سويسرا ليس عندنا مدن كبرى، ومع ذلك لدينا مثل هذه المشكلات. لا أظن أن بحثَ المسألة الجنسية أمرٌ غير صحي أو علامة على انحطاط؛ على العكس، إني أرى المسألة عَرَضًا على ثورة سيكولوجية عظيمة، هي ثورة هذا الزمان، وعلامة على التغييرات التي أحدثتها. يبدو لي أننا كلما بحثنا في هذه المسألة بجدية وشمولية أكبر — وهي مسألة ذات أهمية حيوية بهذا الحجم لصحة الإنسان وسعادته — كان ذلك خيرًا لنا جميعًا.
لا شك أن الاهتمام الجاد الذي ظهر في هذه المسألة هو الذي أدى إلى الظاهرة التي كانت غير معروفة حتى الآن، أعني ظاهرة الزواج فيما بين الطلبة. من الصعب الحكم على هذه الظاهرة الحديثة جدًّا لعدم توفُّر المعلومات الكافية. في أزمنة ماضية وُجِدت زيجات مبكرة كثيرة جدًّا، كذلك وجدت زيجات كانت قلقة جدًّا اجتماعيًّا، لذلك كان الزواج الطلابي، في حد ذاته، أمرًا مسموحًا به. غير أن مشكلة الأولاد قضية أخرى. فإذا كان الشريكان كلاهما يتابع تحصيله، تعيَّن عليه صرف النظر عن موضوع الأولاد. لكن الزواج الذي يظل بدون إنجاب بصورة مصطنعة هو زواج إشكالي دائمًا؛ فالأولاد هم الإسمنت الذي يشد الأواصر بين الشريكين أكثر من أي شيء آخر. وقد كان انصباب اهتمام الأبوين، في عدد لا حصر له من المناسبات، هو الذي حافظ على حيوية شعور الصحبة الأساسي جدًّا من أجل استقرار الحياة الزوجية. لكن إذا لم يكن أولاد، يتجه اهتمام كل زوج نحو الآخر، وهو اهتمام قد يكون شيئًا حسنًا بحد ذاته، إلا أنه ليس من النوع الودي دائمًا، لسوء الحظ؛ إذ غالبًا ما يعمد كلاهما إلى إلقاء اللوم على صاحبه على عدم الرضا الذي يشعر به. في مثل هذه الظروف، لعله خيرٌ للزوجة أن تواصل دراستها، وإلا ظلت بدون موضوع يشغلها؛ ذلك أن هناك نساء كثيرات لا يستطعن تحمل الزواج بدون أولاد، ويصبحن غير محمولات هن أنفسهن. أما إذا كانت تتابع تحصيلها فيكون عندها على الأقل حياة أخرى خارج زوجها تُرضيها تمامًا. أما المرأة التي استحكمت فيها فكرة إنجاب الولد، وكان الأولاد عندها أهم من الزوج بكثير، فعليها أن تفكر مرتين قبل أن يصح عزمها على زيجة طالبية. عليها أن تدرك أن غريزة الأمومة غالبًا ما لا تظهر في هيئة ملحة إلا في وقت لاحق، أي بعد الزواج.
أما مسألة كون الزيجات الطالبية سابقة لأوانها، فيجب أن نأخذ علمًا بحقيقة تنطبق على جميع الزيجات المبكرة، وهي أن فتاة في العشرين هي أكبر عادة من رجل في الخامسة والعشرين، من حيث نضج المحاكمة؛ لأن الكثيرين ممن هم في الخامسة والعشرين يظلون بدون أن يتجاوزوا فترة المراهقة، السيكولوجية. في المراهقة تطغى على الفتى الأوهام ولا يشعر بالمسئولية إلا جزئيًّا. والفرق السيكولوجي يرجع إلى أن الأصل أن يكون الصبي، حتى وقت النضج الجنسي، صبيانيًّا تمامًا، على حين تُنمِّي الفتاة قبل الفتى بكثير مهارات تمشي جنبًا إلى جنب مع المراهقة. في قلب هذه الصبيانية غالبًا ما يتفجر الجنس قويًّا شرسًا، بينما يظل هاجعًا في الفتاة، على الرغم من بداية المراهقة، إلى أن توقظه عاطفة حب. هناك عدد كبير جدًّا من النساء ظل الجانب الجنسي من حياتهن بكرًا على مدى سنوات حتى بعد الزواج؛ لا يشعرن بالجنس إلا بعد أن يقعن في حب شخص آخر. ذلكم هو السبب الذي يفسر لنا لماذا كان عدد كبير جدًّا من النساء لا يفهمن الجانب المذكر من الجنس — لا يعين الجانب الجنسي من حياتهن وعيًا تامًّا. عند الرجال، القضية مختلفة. يهب عليهم الجنس كالعاصفة، يملؤهم شهوات وحاجات شرسة، وقلَّما مَن نجا مِنهم من المشكلة المؤلمة، العادة السرية. لكن الفتاة قد تظل سنوات تمارس هذه العادة بدون أن تعرف ماذا تفعل.
إن تفجُّر الجنس في الفتى يُحدث في سيكولوجيته تغييرًا شديدًا. لقد صار عنده الآن جانب جنسي في حياته يسوِّيه بالرجال، لكنَّ نفسه ما برحت تُسوَّى بنفوس الأطفال. غالبًا ما يتدفق طوفان من التخيُّلات القذرة والكلام البذيء يتبادله مع زملائه من الطلبة كما يتدفق سيل من المياه القذرة تغمر جميع مشاعره الرقيقة والطفولية، وقد تخنقها أحيانًا إلى الأبد. تنشب فيه منازعات أخلاقية مفاجئة، وتتربص به إغراءات من كل وصف تتناسج في تخيُّلاته. ويسبب له التمثُّل النفسي للعقدة الجنسية أعظم الصعوبات وإن كان لا يعلم بوجودها. كذلك إن هجمة المراهقة تُحدث تغييرات في استقلابه، كما يمكننا أن نشاهد ذلك في البثور وحب الشباب الذي كثيرًا ما يصيب المراهقين. وعلى نحو مماثل تضطرب النفس ويختل ميزانها. في هذه السن يمتلئ الشاب بالأوهام، وهي دائمًا علامة على اختلال التوازن؛ إذ تجعل من الاستقرار ونضج الحكم أمرَين مستحيلين. ويتبدَّل تبعًا لذلك ذوقه وخططه واهتماماته. قد يقلبه حب مفاجئ لفتاة رأسًا على عقب، ولا يستطيع بعد أسبوعين أن يتصور كيف حدث له شيء من هذا القبيل. لقد حيَّرته الأوهام لقد بات بحاجة إلى هذه الأخطاء لكي تجعله عارفًا بذوقه وطريقته الخاصة في الحكم على الأشياء. لا يزال يُجرِي تجاربه مع الحياة، بل يجب عليه أن يُجرِي تجاربه معها لكي يتعلم كيف يحكم على الأشياء حكمًا صحيحًا. من هنا ليس إلا قلة قليلة من الناس مَن لم يُقدم على خبرة جنسية من نوعٍ ما قبل الزواج، في أثناء المراهقة تكون الخبرة الجنسية مثلية في الأعم والأغلب، وهي أكثر وأعم مما يُسَلم به الناسُ عمومًا. أما الخبرة مع الجنس الآخر فتأتي في وقت لاحق، وهي ليست دائمًا من النوع الجميل جدًّا. ذلك أنه كلما كانت العقدة الجنسية أقل تمثُّلًا في مجمل الشخصية، كانت أكثر استقلالية وغريزية. عندئذٍ يكون الجنس حيوانيًّا صرفًا ولا يعترف بفوارق سيكولوجية. أحقر امرأة «يمشي حالها»؛ حسْبُها أن تمتلك الخصائص الجنسية الثانوية النموذجية. غير أن خطوة خاطئة من هذا القبيل لا تعطينا الحق في استخلاص نتائج عن شخصية مثل هذا الإنسان لأن الفعل يُسرانَ ما يحدث في وقت تكون فيه العقدة الجنسية ما زالت منشطرة عن النفس وبالتالي بعيدة عن تأثيرها. ومع ذلك فإن خبرات كثيرة جدًّا من هذا النوع خليقة بأن تنعكسَ تأثيرًا سيئًا على تكوين الشخصية، لأنها تثبت الجنس، بحكم قوة العادة، على مستوًى بالغ الانحطاط، وتجعله غير مقبول أخلاقيًّا. والنتيجة هي أن هذا الإنسان، وإن كان مواطنًا محترمًا في الخارج، إلا أنه في الداخل فريسة تخيُّلات جنسية من أحط نوع، أو أنه يقوم بكبتها، فما تلبث في مناسبة بهيجة أن تقفز إلى السطح في هيئتها البدائية، الأمر الذي يعقل بالدهشة البالغة لسان زوجته التي لم تكن ترتاب فيه، افتراضًا بأنها تلاحظ ما يجري بطبيعة الحال. من الآثار المُصاحِبة التي كثيرًا ما تحدث من جراء ذلك برود جنسي سابق لأوانه تجاه الزوجة. النساء في الغالب يكنَّ باردات منذ يوم الزواج الأول؛ لأن وظيفتهن الحسية لا تستجيب لهذا النوع من الجنس في أزواجهن. إن ضعف محاكمة الرجل في زمن المراهقة السيكولوجية يجب أن يحفزه على التفكير بعمق في الاختيار الناضج لزوجته.
نأتي الآن إلى أشكال أخرى من العلاقة فيما بين الجنسين تعتبر من الأشياء العادية في مرحلة التحصيل العلمي. هناك كما تعلمون، صلات مميزة فيما بين الطلبة، وهذه تحدث في كبريات جامعات البلدان الأخرى بصفة رئيسية. وقد تكون هذه الصلات قريبة من الاستقرار، وقد يكون لها قيمة سيكولوجية أيضًا، من حيث إنها لا تتكون من الجنس كليًّا، بل أيضًا من الحب جزئيًّا. وقد تستمر هذه الصلة حتى إلى ما بعد الزواج. لذلك تقف هذه العلاقة فوق مرتبة أعلى بكثيرٍ من التزاني. لكن الأصل أن تقتصر هذه العلاقة على الطلبة الذين لا يخالفون اختيارات آبائهم. إنها، في العادة، مسألة مالية؛ ذلك أن معظم الفتيات يتَّكلن على مُحبِّيهنَّ من أجل العون المالي، على الرغم من عدم إمكانية القول إنهنَّ يبِعن حبهنَّ في مقابل المال. في الأعم الأغلب، تكون العلاقة فترة جميلة في حياة الفتاة، لولاها لكانت فقيرة وفارغة عاطفيًّا. بينما قد تكون في حياة الرجل أول تعرُّف صميمي له على المرأة، وذكرى ينظر إليها من الخلف نظرةً عاطفية في حقبة تالية من حياته. لكن غالبًا أيضًا، لا يكون في هذه القضايا شيء ذو قيمة؛ إما لأن الرجل يتمتع بحواس شرسة، فاقد الفكر والشعور، وإما لأن الفتاة عابثة متقلبة.
وبالمناسبة، العلاقات المِثليَّة الجنس بين الطلبة من كِلا الجنسَين ليست غير شائعة. في حدود ما أستطيع الحكم على هذه الظاهرة، أقول إن هذه العلاقات هي أقل شيوعًا عندنا، وفي أوروبا عمومًا، مما هي في بلدان طلابها وطالباتها في الجامعات يعيشون في حالة انفصال تام. أنا لا أتكلم هنا عن المِثليين المرضى غير القادرين على عقد صداقة حقيقية، ولا يَلقَون غير القليل من العطف وسط الأسوياء، بل عن الفتيان الأسوياء نوعًا ما الذين ينعمون بصداقة جَذْلى يُعبِّرون خلالها عن مشاعرهم في هيئة جنسية. المسألة عندهم ليست مسألة ممارسة العادة السرية بالتبادل، وهي في الحياة المدرسية والجامعة بمثابة البرنامج اليومي فيما بين الأحداث، بل مسألة شكل أعلى وأكثر روحية يستحق اسم «الصداقة» بالمعنى الكلاسيكي للكلمة. عندما توجد مثل هذه الصداقة بين اثنين أحدهما أكبر، والثاني أصغر، سنًّا، لا يمكن نكران أهميتها التثقيفية؛ فمعلم مِثليُّ الجنس قليلًا غالبًا مما يكون مدينًا بألمعيَّته التعليمية إلى استعداده المثلي. العلاقة المثلية بين اثنين أحدهما أكبر والثاني أصغر قد تكون ذات نفع لكلا الطرفين وذات قيمة تدوم طويلًا. والشرط الذي لا غِنى عنه لكي تكون هذه العلاقة ذات قيمة هو ثبات الصداقة والولاء لها. لكن هذا الشرط غالبًا ما يكون غير متوفر. فكلما كان الرجل مثلي الجنس، ازداد ميلًا إلى قلة الولاء وإلى إغواء الصبيان. حتى حين يسود الولاء والصداقة الحقيقية فقد تكون غير مرغوب فيها من أجل نمو الشخصية. طبعًا، إن صداقةً من هذا النوع تنطوي على عبادة شعورية خاصة، عبادة العنصر المؤنث في الرجل. يصبح رجلًا مُتفيِّضًا (بعبارات المحبة والعاطفة) عاطفيًّا، مفرط الحساسية … إلخ، بكلمة واحدة، رجلًا مخنثًا. وهذا المسلك ضارٌّ بشخصيته.
يمكننا أن نتبين في الصداقات التي تُعقَد بين النساء مزايا وعيوبًا مماثلة، لكن الفرق هنا أن السن والعامل التثقيفي ليس لهما تلك الأهمية. والقيمة الرئيسية تكمُن في تبادل المشاعر الرقيقة من جهة والأفكار الصميمية من جهة أخرى. تكون النسوة المثليات عمومًا ذوات معنويات عالية، مفكرات، مسترجلات، يَسعَين إلى الاحتفاظ بتفوُّقهن والدفاع عن أنفسهن في وجه الرجال، لذلك كان موقفهن من الرجال يَتصِف بتوكيد الذات غير المتناسق، مشوبًا بالتحدي. أما تأثير المثلية على شخصيَّتهن فهو تقوية ملامحهن الذكورية والقضاء على سحرهن الأنثوي. في الأعم الأغلب لا يكتشف الرجل مثليَّتهن الجنسية إلا عندما يلاحظ أن هؤلاء النسوة قد تركنه باردًا كالحجر.
في الحالة السوية، ممارسة المثلية الجنسية لا تضر بالضدية الجنسية اللاحقة. وفي الحقيقة، قد توجد الاثنتان جنبًا إلى جنب. أعرف امرأة ذكية جدًّا قضت كل حياتها مثلية الجنس، ولما بلغت الخمسين دخلت في علاقة سوية مع رجل.
من العلاقات الجنسية في مرحلة التحصيل يجب أن نذكر علاقة أخرى طبيعية جدًّا، حتى وإن كانت على شيء من شذوذ؛ أعني بها تعلق الشاب بامرأة متقدمة العمر، قد تكون متزوجة أو أرملة. لا بد أنكم ستذكرون جان جاك روسو وعلاقته بمدام ديفاران؛ هذا هو نوع العلاقة الذي في ذهني. في الرجل عادةً شيء من خجل، وقلة ثقة بنفسه، وخوف، وطفولية أحيانًا. طبعًا، هو ينشد أُمًّا، ربما لأنه كان عنده من الحب ما يزيد عن حاجته، أو ينقص عن حاجته، في عائلته. كثير من النساء لا يُحبِبن من الرجال إلا مَن ليس له معين، خصوصًا إذا كُنَّ أكبر منه سنًّا؛ لا يُحبِبن في الرجل قوته؛ فضائله أو مؤهلاته، بل ضعفه، يَجِدن في طفوليته باعثًا على افتتان، فإذا تلعثم قليلًا، خلب ألبابهن. ولقد يكون به عَرَج، وعندئذٍ يستثير فيهنَّ عاطفة الأمومة. الأصل أن تغوي المرأة فتاها، وأن يستسلم هو، طائعًا، مختارًا لرعايتها الأمومية.
غير أن الشاب المتهيِّب لا يبقى دائمًا نصف ولد. فقد يكون هذا القلق الأمومي هو ما قد كان بحاجة إليه لكي يطلع بذكوريته غير النامية إلى السطح. بهذه الطريقة تثقف المرأة مشاعره وترقى به إلى الوعي التام. يتعلم أن يفهم امرأة اختبرت الحياة والعالم، امرأة واثقة من نفسها، وبذلك تُتاح له فرصة نادرة لكي يلمح شيئًا وراء المشاهد، لكنه لا يستطيع أن يستفيد منها إلا إذا نما عن هذه العلاقة سريعًا؛ لأنه إن التصق بأموميتها دمَّرته؛ لأن حنان الأم هو أشد السموم فتكًا بكل ما يتعين عليه أن يعد نفسه لخوض معركة الحياة القاسية التي لا رحمةَ فيها. فإن لم يستطع انتزاع نفسه من خيطان مِئزرها غدا طفيلية عديمة الفقرات — ذلك أن معظم هؤلاء النسوة يملكن مالًا — وانحط إلى مستوى كلب الحِجْر أو القط المدلل.
نأتي الآن إلى أشكال العلاقة لا يشوبها جنس لأنَّها غير جنسية أصلًا، وهي «أفلاطونية». لو كان لدينا إحصائيات يركن إليها حول هذا الموضوع، لكانت خليقة بأن تظهر أن معظم الطلبة في سويسرا يفضلون العلاقة الأفلاطونية. طبعًا، إن هذا يثير مسألة العفة الجنسية. كثيرًا ما نسمع أن الامتناع عن المضاجعة الجنسية ضار بالصحة. إن هذا غير صحيح، على الأقل بالنسبة لمن هم في سن الطلب. العفة غير ضارة بالصحة إلا بعد أن يبلغ الرجل سنًّا يستطيع فيها الفوز بامرأة، ويفعل ذلك تبعًا لميوله الفردية وللتكثيف الخارق للعادة للحاجة الجنسية التي غالبًا ما يشعر بها الرجل في هذا الوقت هدف بيولوجي هو تجنيب الإنسان اضطرارًا وساوسه وشكوكه وتردده. إن هذا ضروري جدًّا، ذلك أن نفس فكرة الزواج، بكل ما فيها من إمكانيات مريبة، غالبًا ما تُلقِي الذعر في نفسه. لذلك ليس له أن يتوقع من الطبيعة إلا أن تُحرِّضه على اجتياز العقبة. قد يكون للامتناع عن ممارسة الجنس آثار ضارة في مثل هذه الأحوال، لكنه غير ضار إذا لم تكن هناك حاجة فيزيائية أو سيكولوجية ملحة إليها.
إن هذا يصل بنا أيضًا إلى مسألة مماثلة جدًّا تتعلق بالآثار الضارة التي تنجم عن العادة السرية. عندما تتعذر ممارسة الجنس الطبيعي لأسباب فيزيائية أو سيكولوجية، تكون ممارسة العادة السرية بمثابة صمام أمان، وتبعًا لذلك لا يكون لها آثار ضارة. الشباب الذين يزورون الطبيب يشكون من الآثار الضارة الناجمة عن ممارسة العادة السرية ليسوا أبدًا من المفرطين في ممارستها — هؤلاء في العادة ليسوا بحاجة إلى طبيب لأنهم ليسوا مرضى بأي معنى — بل إن ممارستهم للعادة السرية كان لها نتائج ضارة لأنها تبدي عن مضاعفات نفسية وتصاحبها وخزات ضمير أو حشد من التخييلات الجنسية. الأخيرة شائعة خصوصًا في أوساط النساء. ممارسة العادة السرية التي تصاحبها مضاعفات نفسية ضارة، أما الممارسة العادية غير المعقدة فليس لها أثر ضار. غير أن المرء إذا ظل يُمارسها حتى بعد أن يبلغ سنًّا تصبح فيها المضاجعة الطبيعية ممكنة فيزيائيًّا وسيكولوجيًّا واجتماعيًّا، وكان الانغماس فيها لمجرد تجنُّب مهام الحياة الضرورية، عندئذٍ تكون ضارة.
العلاقات الأفلاطونية بالغة الأهمية في مرحلة التحصيل. وأكثر ما تتخذه من شكل هو المغازلة. وهي تعبير عن موقف تجريبي مناسب كل المناسبة في هذه السن. وفعل إرادة لا يلزم أيًّا من الطرفين، بموجب اتفاق ضمني، بأي نوع من أنواع الالتزام. إن هذا ميزة وعيب في نفس الوقت. فمن ناحية، يتيح الموقف التجريبي لكلا الطرفين أن يعرف بعضهما بعضًا بدون نتائج مباشرة غير مرغوبة. يمارس كلاهما محاكمته ومهارته في التعبير عن نفسه والتكيف والدفاع. ولقد نكسب من المغازلة تشكيلة ضخمة من الخبرات ذات القيمة الفريدة للحياة التي تلي هذه المرحلة. ومن ناحية ثانية، قد يُفضِي غياب الالتزام إلى أن يستمرِئ الإنسانُ الغزل ويعتاده، فيُمسي ضحلًا تافهًا متحجر القلب، بطل صالونات ومُحطِّم قلوب محترفًا؛ لا يحلم أبدًا بأي نوع من الشخص الذي هو صائر إليه. وإن كانت فتاة كانت لعوبًا، لا يشعر الرجل الرصين أنها خليقة بأن يأخذها المرء على محمل الجد.
وهناك ظاهرة نادرة، على العكس من شيوع ظاهرة المغازلة؛ أعني بها تربية واعية لحبٍّ جاد. على أننا قد نُسمِّي هذا بمثل أعلى ليس إلا من دون أن نواحده بالرومنطيقية التقليدية. لا شك في أن التنبُّه في أوانه والتربية الواعية للمشاعر المسئولة والجادة تربية عميقة لذو أهمية بالغة من أجل نمو الشخصية. إن علاقةً من هذا النوع قد تكون درعًا تقي الشاب من الإغراءات التي تقلقه، كما قد تكون حافزًا قويًّا على العمل الشاق والولاء والموثوقية. غير أن كل قيمة عظيمة لا بد وأن يكون لها جانبها غير الملائم. والعلاقة التي نبالغ في مثاليتها يُسْرانَ ما تصبح علاقة حصرية لا تتعدى طرفيها. تبعًا لذلك يبالغ الشاب في انقطاعه عن النساء الأخريات، ولا تتعلم الفتاة فن الغزو الغرامي لأنها قد امتلكت رجلها؛ غريزة الامتلاك عند المرأة شيء خطر. أمَّا الرجل فيُسْرانَ ما يحدث على جميع الخبرات التي فاتَه أن يختبرها مع من هنا يجب ألا شيء خطر. أما الرجل فيسران ما يحدث أن يندم على جميع الخبرات التي فائه النساء قبل الزواج، وأن يعتزم القيام بها بعد الزواج.
من هنا يجب ألا نستنتج من ذلك أن كل علاقة من هذا النوع هي علاقة مثالية اضطرارًا. هناك حالات فيها العكس تمامًا — مثلًا، عندما يصح يتمشَّى رجل أو فتاة مع حبيبه المدرسي بدون سبب معقول سوى قوة العادة. وسواء أكان ذلك عن قوة العطالة أم عن نقص روحي، فإنهما لا يستطيعان التخلص أحدهما من الآخر. ربما يجد أَبَوَا كِلا طرفي العلاقة هذه المباراة ملائمة، والقضية التي بدأت في لحظة من انعدام التفكير، ودامت بحكم العادة، مقبولة سلبيًّا بأمر واقع. هنا تتراكم العيوب ولا تبدو حتى ميزة واحدة، ذلك أن الإذعان والسلبية ضاران بنمو الشخصية؛ فهُما عقبتان في طريق خبرة ذات قيمة، وفي طريق ممارسة المرء مواهبه وفضائله الخاصة. لا يمكن الفوز بالصفات الأخلاقية إلا في الحرية، ولا تبرهن هذه الصفات على قيمتها إلا في أوضاع خطرة على الأخلاق؛ فاللص الذي يمتنِع عن السرقة، لا شيء إلا لأنه في السجن، هو شخص غير أخلاقي. على الرغم من أنَّ الأبوين قد يشملان هذا الزواج المؤثر بعين اللطف، ويضيفان احترامية الأولاد إلى مجموع فضائلهما الخاصة، إلا أن الأمر ليس إلا كذبًا ووهمًا؛ يفتقر إلى قوة حقيقية، وتستنزفه العطالة الأخلاقية.
بعد هذا العرض الموجز للمشكلات التي تصادفنا في الحياة الفعلية، أعود في الختام إلى بلاء شهوة القلب والإمكانيات اليوتوبية.
في هذه الأيام قلما نبحث في مشكلة الحب بدون أن نتكلم عن يوتوبيا الحب الحر، بما في ذلك الزواج التجريبي. اعتبر هذه الفكرة تخيُّلًا رغبيًّا، ومحاولة لإنارة مشكلة هي في الحياة الفعلية صعبة جدًّا بصورة لا استثناء فيها. أن نجعل من الحياة أمرًا سهلًا لم يعد أمرًا ممكنًا أكثر من زرع نبتة الخلد. لا يمكن التغلب على قوة الجذب إلا بتسخير ما يلزم من الطاقة. كذلك حل مشكلة الحب يتحدَّى جميع الموارد. وكل شيء آخر ترقيعٌ لا فائدةَ منه. الحب الحر لا يُفهَم إلا إذا كان كل أحد قادرًا على أعلى تحقيق أخلاقي. إن فكرة الحب الحر ليست اختراعًا جديدًا، وهذا الهدف ما زال نصب أعيننا، لكننا نخادع أنفسنا عندما نريد أن نجعل من شيء صعب شيئًا هينًا. الحب يتطلب عمقَ الشعور وولاءَه؛ بدونهما لا يكون الحب حبًّا بل مجرد نزوة. الحب الصحيح يلتزم ويرتبط بروابط دائمة؛ لا يحتاج إلى الحرية إلا لكي يُعمَل اختياره، لا لكي يُعمل إنجازه. كل حب صحيح وعميق هو تضحية. المحب يُضحِّي بجميع الإمكانيات الأخرى، أو، بالأحرى، بالوهم الذي يجعله يعتقد بوجود مثل هذه الإمكانيات، فإذا لم يؤدِّ هذه التضحية، حالت أوهامُه دون نمو أي شعور عميق ومسئول، وفاتته إمكانية اختيار حب حقيقي.