البحث عن الحقيقة
ما هذا الذي حدث؟
وكيف حدث؟
ولماذا حدث؟
أسئلة كان من الصعب تمامًا أن يُجيب عليها الإنسان وسط زوبعة الرمال والتراب، وعُواء القطط والكلاب، وفرقعات مُسدَّسات الأطفال، وقنابل الصوت التي كانت تَحفل بها الساحة، والذي تفجَّر فجأةً في أوائل أبريل الماضي إثر نشر إعلان — مُجرَّد إعلان — عن مقالات سبع ستنشرها لي جريدة القبس الكويتية، وتنقلها عنها بعض جرائد الخليج والأردن؛ فحتى ذلك الوقت كانت الساحة السياسية هادئةً أو شبه هادئة، وكان الشدُّ والجذب يدور حول حتمية «التغيير» وضرورته؛ ذلك الذي تُطالِب به المعارضة، وعدم ضرورة التغيير الفوري وخطورته؛ ذلك الذي تراه السلطة وبالذات قيادة الحزب الوطني الحاكم.
وكأنه كان غريبًا أن تظهر مقالاتي في نفس ذلك الوقت.
فأنا لست طرفًا في اللعبة السياسية الدائرة منذ حادث المِنصَّة حول السادات، أو هكذا بدوت، وأن أطلع فجأةً على القرَّاء برأيٍ خطير في أنور السادات مسألةٌ قيل في تأويلها كل ما يمكن أن يخطر على بال إنسان موتور أو حتى حسن النية، غير أن أحدًا لم يتوقف للحظة ويتساءل عن الحقيقة، ولماذا بدا أني خرجت على الناس فجأةً برأي في السادات، وكأنني قد اتفقت مع الأستاذ هيكل ومع الصحف العربية التي نشرت كتابه ومقالاتي في «مؤامرة» للنَّيل من الرئيس الراحل، معًا وفي وقتٍ واحد.
ولو كنا في ظروفٍ عادية، ولو لم يملأ الصغار والمُسترزِقون الصحفيون من عهد السادات وإلى الآن الجوَّ بالغبار والرمال وقذائف الطين، لَأمكننا جميعًا أن نرى الحقيقة بنفس البساطة التي تمَّت بها، ولما احتاج أحد جهابذة كُتاب جريدة الأخبار لأن يقول: إن موسكو ضغطت على زر ليكتب هيكل وإدريس وغيرهما ضد الساداتية، في ذلك الوقت بالذات الذي تستعدُّ فيه مصر للاحتفال بعودة سيناء (٢٥ أبريل) وتدور مفاوضات (كامب ديفيدية) أخرى مع لبنان.
وفي الجانب الذي يخصُّني سأُورد هنا ولأول مرةٍ حقيقةَ أفكاري ومشاعري تلك التي انتهت بنشر المقالات السبعة.
والبداية الحقيقية كانت في أوائل يونيو عام ١٩٨٢م، حين اجتاحت جيوش إسرائيل لبنان تضرب وتذبح وتُنكِّل وتحرق وتنسف وتقتل المدنيين والعسكريين، الأطفال والنساء والشيوخ، ويُتوَّج الأمر بمذابح صبرا وشاتيلا في النهاية.
كان غزو لبنان نقطة تحوُّل كبرى في تفكيري.
ذلك أني كنت أعتقد أن الضرر الذي حدث من كامب ديفيد كان قاصرًا إلى ذلك الحين على عزل مصر عن شقيقاتها العربيات، وربط مصر ربطًا مُحكَمًا بالاستراتيجية الأمريكية الإسرائيلية؛ للسيطرة على المنطقة بتحييد أكبر وأهم دولة عربية باستطاعتها التصدي للأطماع الإسرائيلية أو الأمريكية أو المشتركة في المنطقة.
ولكن غزو لبنان أكَّد لي الشعور بأن كامب ديفيد لم تكن إلا مجرد خطوة على الطريق، أو بالأصح البداية الحقيقية لفترة طويلة قادمة، هي فترة السيادة الإسرائيلية بالقوة الغاشمة على المنطقة؛ تلك السيادة المطلوبة والمدعومة والمسنودة تمامًا من الولايات المتحدة الأمريكية.
وتَصادف أني كنت قد انتهيت من قراءة الجزء الأول من مذكرات كيسنجر، وأيضًا مذكرات الرئيس الأمريكي السابق كارتر، وبدأت تُنشَر في خريف عام ٨٢ أيضًا مذكرات محمد إبراهيم كامل وزير الخارجية إبَّان مفاوضات كامب ديفيد.
والحقيقة أني تابعت قراءة تلك المذكرات التي كانت تنشرها جريدة الشرق الأوسط السعودية التي تصدر في لندن، وكنت أُتابع ما يُنشر من فصولها (التي بلغت حوالَي الثلاثين صفحة من صفحات الجريدة) في شغف، وإلى درجةٍ دفعتني لكتابة مقال في نفس الجريدة كان ردًّا على بعض الأقلام التي هاجمت محمد إبراهيم كامل في صحف القاهرة، وعابت عليه نشره لمذكراته كوزير خارجية سابق.
وحين انتهى نشر المذكرات، وبالإضافة إلى ما عَلِق بذاكرتي من مذكرات كيسنجر وكارتر عن نفس الفترة، وجدت أني قد بدأ يتكوَّن لي رأيٌ خطير فيما فعله السادات في كامب ديفيد، وفيما فعلته كامب ديفيد في السياسة المصرية والعربية. وكما ذكرت، بدأت أكتب هذا الرأي لنفسي كما قلت آنفًا في إحدى مقالاتي السابقة، ثم بدأت أجد أن رأيي هذا يستلزم الرجوع إلى شخصية السادات ودوره في الثورة المصرية وشخصيته والخطة التي بناها كيسنجر، ومُرتكَزها الأساسي تلك الشخصية الساداتية الفريدة في تاريخنا كله.
كتبت الآراء على هيئة خمس مقالات، كان موقفي فيها امتدادًا لما كتبته عشيةَ الغزو الإسرائيلي للبنان باعتبار أنه جزء من الخطة الكبرى المرسومة للمنطقة.
بل إن دافعي الأول لكتابة تلك المقالات لم يكن مجرد «البحث عن السادات»، كان في الحقيقة محاولة للبحث عن الخطة العظمى المرسومة للمنطقة، والتي أدخل السادات نفسه فيها عن إرادة ووعي؛ لا ليستغلها هو لمصلحة مصر، وإنما لكي تستغله هي — أي الخطة — لمصلحة أمريكا وإسرائيل.
وحين تسرَّب خبر كتابتي للمقالات، في حوالَي فبراير ١٩٨٣م إلى الجرائد الكويتية، تلقَّيت عرضًا من جريدة القبس، عن طريق مدير مكتبها في القاهرة، لنشر المقالات في الجريدة المذكورة والحصول على حق نشرها في كل المشرق العربي.
ووافقت.
فمسألة نشرها في مصر كانت غير واردة بالمرة لأسبابٍ كثيرة، لا يخفى على القارئ معظمها، ولكن أهمها في رأيي أن الرأي العام في مصر يكاد يكون مُحاصَرًا، بحيث إن كثيرًا جدًّا مما يهمُّ الرأي العام المصري الوقوف عليه لا يُنشَر في مصر، وإنما يُنشَر أساسًا في الجرائد العربية التي تصدر في لندن وبيروت وباريس، بحيث أصبح الرأي العام المصري يكاد يكون محليًّا مُنكفئًا على نفسه، ومحظور أن يُنشر في جرائده الكبرى الحكومية ما يمكن أن يُعتبر رأيًا علميًّا عميقًا يُناقِش الفترة الساداتية أو حتى الفترة الناصرية. وكل ما يحظى به الرأي العام في مصر هو مجرد اتهامات، سواء للحكم الناصري أو الحكم الساداتي، تهتمُّ الأولى بالاستبداد والحكم بالمخابرات، وتهتمُّ الثانية بكل عيوب ومآسي سياسة الانفتاح والخضوع لأمريكا.
وللآن لا يزال الاقتراب الجادُّ الخطير والتقييم العلمي، وبالضبط كُنه ثورة ٢٣ يوليو، ومسائل كبرى كالعُدوان الثلاثي، أو التدخل في اليمن، أو هزيمة ٦٧، أو ثغرة الدفرسوار، أو حقيقة الدوران للخلف الذي حدث عام ١٩٧١م، وهل كان يمكن أن يكون «تصحيح» أخطاء ثورة ٢٣ يوليو بتطويرها وحقنها بكمٍّ وافر من الديمقراطية السياسية وليس أبدًا النكوص عنها، والعودة القهقرى إلى نظام حكم الأقليات الحزبية أيام الملك، وأيام قبضة محمد محمود الحديدية وديكتاتورية إسماعيل صدقي.
كل تلك المواضيع الكبرى في حياتنا لا تزال لم تُناقَش بعد، وأبدًا ليس من مُنطلَق ترك واقعنا الحالي أو تطلعنا إلى المستقبل، والعودة إلى الماضي نتفحص و«نفلِّي» فيه كاليهودي الذي أفلس، لا، وإنما لكي نُحدِّد حركتنا إلى المستقبل تحديدًا واضحًا وصحيحًا، فلا بد أن نعرف أين نضع أقدامنا الآن. ولكي نعرف موقع أقدامنا الحاضرة فلا بد أن نعرف تاريخ ذلك الموقع وكيف كان وجاء؛ فمثلًا قاعدة رأس بناس تمَّ الاتفاق عليها أيام السادات، ولو كان السادات حيًّا لسرى الاتفاق، ولأصبحت تلك القاعدة قاعدةً أمريكية تستعملها الولايات المتحدة كجزء من استراتيجيتها لردع أي دولة عربية، وليس أبدًا لردع الاتحاد السوفييتي، ولكن الحكومة المصرية رفضت أن تكون هذه القاعدة قاعدةً أمريكية حتى لا تقودنا إلى الدخول في فلك الاستراتيجية الأمريكية، وفقدِ سيادتنا على أرضنا، وتخلِّينا تمامًا أو بالأصح طردنا من معسكر عدم الانحياز باعتبار أننا انحزنا تمامًا للمعسكر الغربي الأمريكي.
هذا الرفض لحكومتنا لم يأتِ من فراغ، وإنما هو رفض بُنِي على أساس التطلع للمستقبل ودراسة الحاضر على هذا الضوء. وقد حتَّمت تلك الدراسة أن نُراجع سياسة السادات تجاه منح أمريكا «تسهيلات»؛ وبالدراسة وجدنا أن بناء الولايات المتحدة للقاعدة سيجعل منها «قاعدة» أمريكية، وهكذا رفضت حكومتنا.
نفس الشيء أتصوَّره يحدث بالنسبة لكل أمور حياتنا؛ فنحن في سعينا مثلًا لتحسين وضعنا مع البلاد العربية، من المُحتَّم أننا سنعود إلى الفترة الساداتية، وبالذات إلى الفترة التي أعقبت حرب أكتوبر المجيدة، والموقف الذي اتخذته كثير من البلاد العربية من اتفاقياتِ فضِّ الاشتباك الأولى والثانية؛ كي نعرف أساس خلافنا مع العرب أو اختلاف العرب معنا؛ ذلك الذي أدَّى إلى القطيعة الكاملة ذات يوم.
أريد أن أقول: لقد اتَّضح الآن أن المسألة ليست مسألة «نبش قبور» أو عودة إلى الماضي، وإنما هي تطلُّع إلى المستقبل بعيونٍ ترى الحاضر بدقة. ولكي تراه بدقة لا بد أن تعرف جذوره، حتى جذوره القريبة؛ تلك التي لم يمضِ عليها سوى أقل من عشر سنوات.
وما كتبت مقالاتي عقب الغزو الإسرائيلي للبنان إلا مُحذِّرًا من «الخطة العظمى» وراء هذا الغزو، ومن مؤامرة تقسيم لبنان إلى دُوَيلات عِرقية ودينية، دُوَيلات تُبرِّر وجود إسرائيل كدولة عِرقية دينية، وفي نفس الوقت تكون من الضعف بحيث تُتيح لإسرائيل السيطرة الكاملة على تلك الدُّوَيلات.
وحين قرأت مذكرات محمد إبراهيم كامل، وجدت أن مصر قد أُضيرت ضررًا هائلًا بمبادرة السلام وباتفاقيات كامب ديفيد، وأن كنه هذا الضرر وأبعاده شيء لا يمكن معرفته إلا بالرجوع إلى مذكرات الرجل الذي شهد تلك المفاوضات من داخل المعسكر الساداتي نفسه؛ فهي ليست مذكرات كُتبت من أجل أن يُطالعها الإنسان في وقت فراغه، ولكنها وثيقةٌ خطيرة لا بد لأي إنسان لديه ذرة من الوطنية، حتى لو كان مؤمنًا بالسادات وسياسته، أن يتوقف عندها طويلًا، ويُراجع رأيه وحساباته في سياسة السادات تجاه أمريكا وإسرائيل، بل وفي سياسته كلها داخليًّا وخارجيًّا.
وقد وجدت نفسي، قبل أن أكتب تعليقي على مذكرات إبراهيم كامل وبعد أن كتبته، بين أحد أمرين:
إما أن أُبقي هذا الرأي لنفسي حتى لا أجرَّ على نفسي مشاكل، خاصةً وصحفيُّو وكُتاب السادات لا يزالون، بربطة المعلم، يحتلُّون الساحة الصحفية والسياسية، لم يتغير منهم أحد، بل هم أقوى مما كانوا في عصر السادات؛ ففي عصر السادات كان الواحد منهم يخاف أن يُغضبه فيطرده، والجميع يُحاولون إرضاءه ويتنافسون فيما بينهم؛ مما كان يخلق بينهم حزازات وعداوات لا تُحصى، أما اليوم فهم تكتَّلوا يُدافعون عن بعضهم البعض ويُشكلون كتيبةً مُترابِطة تصرخ في وجه كل من يقترب من أحدهم أو منهم جميعًا، أو من الرجل الذي صنعهم ويرفعون رايته، السادات، حتى لو كان بعضهم قد انتقد السادات بعد موته وبدأ يعدُّ العُدة للهرب من الصف، الآن هم توحَّدوا، يُدافعون عن وجودهم هم وعن مصالحهم وعن رقابهم، بحيث أصبحوا أكثر عدوانية وشراسة، وبحيث أصبح نقد السادات أي نقد ربما أصعب من نقده وهو حي؛ فقد كان بعضهم ينكص عن مهاجمة من ينتقد حتى لا يُقال عنه إنه كاتب السلطان والسلطة. الآن، وبعد وفاة السادات، هم ليسوا كُتاب السلطان؛ فقد مات السلطان، وإنما هم كُتاب «مبدأ» يُدافعون عن السادات عن «مبدأ»، وكأن لا مصلحة لهم أبدًا في الدفاع عن السادات!
إما هذا … وإما أن أنشر رأيي على الناس وأُبشِّر به؛ فإذا رد عليَّ أحد فإني على استعداد للرد عليه ومناقشته، ولم يكن أروع لديَّ من أن يخرج لي أحدهم ويُفنِّد ما قُلته جميعًا، ويُثبت لي وللقرَّاء أني على خطأ؛ فالكاتب حين يكتب، أقصد الكاتب الصادق الشريف مع ذاته ورأيه، لا يتصور أن كتابته كتاب أُنزل، وإنما هو يتصورها آخر اجتهاداته في هذا الشأن أو ذاك؛ فإذا صمدت للرأي أو للجدل كان بها، وإذا انتصر عليها رأي أو اجتهاد آخر فأهلًا به.
وأخذت بالرأي الثاني في الحال وبلا أي تفكير؛ فأن يرى الكاتب رأيًا ويُخفيه عن الآخرين طلبًا للسلامة هو قمة خيانة النفس في رأيي، مهما جلب عليه الرأي من متاعب؛ فآخر ما يحسبه الكاتب هو المتاعب التي سيجرُّها عليه رأيه، فهمُّه كله مُنصرِف إلى تمحيص هذا الرأي وإيصاله للقارئ مهما كلَّفه هذا من جهد وتضحية، أحيانًا يُكلِّفه الرأي حياته، غير مهم، أحيانًا يُكلِّفه حريته، غير مهم. حين قُبِض عليَّ عقب معارضتي لمعاهدة ١٩٥٤م التي أبرمها جمال عبد الناصر مع البريطانيين، وسُمِّيت معاهدة الجلاء، كنت وأنا في زنزانتي الانفرادية في «القلعة» أسعد إنسان بهذا السجن؛ إذ كنت أُحسُّ أني بسجني إنما أدفع ثمن قول رأي في بلدٍ يُعاقِب بالسجن صاحب الرأي، ومعنى هذا أن وجودي في السجن نتيجة طبيعية تمامًا؛ فالحكومات في العالم الثالث لا تنعم بالنياشين على أصحاب الرأي، خاصةً إذا كان رأيًا مُعارضًا آخر. إنها تُعاقِبه على رأيه وتضربه، وأحيانًا تقتله.
وهكذا قرَّرت أن أنشر المقالات، وأعطيتها لمدير مكتب «القبس» في القاهرة، وهو زميل عضو في نقابة الصحفيين المصريين، وصحفي مصري مُتمرِّس أُوثر أن أُبعده عن المتاعب؛ فالرجل ليس وحده، إن هناك أكثر من خمسمائة صحفي مصري يتعاملون مع الجرائد العربية، وهذا شيءٌ طبيعي جدًّا؛ فهم، مثلهم مثل الأطباء المصريين والمدرسين المصريين والعمال المصريين والفلاحين المصريين، لا يجدون أي غضاضة في العمل في الصحف العربية. والعيب ليس عيبهم أبدًا، إنما هو عيب أولئك المُلوِّثين الذين يكتبون التقارير عن زملائهم في جرائدهم، الذين يتَّهمون مئات الصحفيين هؤلاء بأنهم «يخونون» مصر؛ فهؤلاء هم العملاء حقًّا، عملاء كل عهد وكل حكم، من أيام فاروق أيام المصاريف السرية إلى عهدنا الآن؛ ذلك الذي يدفع «وظائف» و«سلطات» تأتي من ورائها مكاسب لمن يرضى عنهم ويرضونهم من بعض صغار الصحفيين.
كان ذلك كما قلت في الشتاء الماضي.
وطلبت من الزميل مدير «القبس»، ومن رئيس تحرير القبس حين خاطَبني تليفونيًّا بعد هذا، سرعة نشر المقالات، ووعدني بسرعة النشر، ولكن النشر تأخَّر، حتى بدأت أفكر في فسخ التعاقد على النشر؛ فالموضوع كان لا يحتمل التأجيل في رأيي، ولم أكن أعرف سببًا معقولًا للتأجيل.
وفيما بعدُ عرفت السبب.
فجريدة «الوطن» الكويتية كانت قد تعاقدت على نشر فصول كتاب «خريف الغضب» ابتداءً من أبريل.
و«القبس» ادَّخرت مقالاتي — لتُنشَر — لأسباب منافسة صحفية «لا تخفى على القارئ» في نفس الوقت.
ولو كنت أعرف هذا لرفضت المبدأ؛ فالمسألة في رأيي أخطر من أن تُؤخذ على أنها منافسةٌ صحفية أو قلمية. إنه رأيي الذي أريد له الظهور بأسرع وقت.
ولكني لم أكن أعرف، بل لم أكن أعرف أن كتاب «هيكل» سيصدر بالعربية في ذلك التاريخ، وأيضًا لو كنت قد عرفت لرفضت أن تُنافِس مقالاتي «خريف الغضب»؛ فتلك مسائل صغيرة، والقضية التي أناقشها أكبر وأخطر بكثير.
إنما هذا هو ما حدث.
وربما لو كنت قد صدرت مقالاتي فور كتابتها لتغيَّر الوضع، ولكني حتى وهي قد صدرت في قمة زوبعة أبريل الأمشيرية الخماسينية التي تُعمي العيون فأنا أبدًا غير آسف.
فالرأي الصحيح لا يهمُّ موعد صدوره أو ظروف صدوره. إني فقط أذكُر هذه الحقائق لأوضِّح لبعض من التبس عليهم الأمر وظنُّوا أن «القبس» كلَّفتني «بسرعة» لكتابة مقالاتي حتى تُنافِس بها فصول «خريف الغضب»، فيما أسماه لي رئيس تحرير قومي أعتزُّ به «موسم الهجوم على السادات».
ولكني أعذره.
بل وأعذر الكثيرين الذين خفيت عنهم كل هذه الحقائق، ورأوا «من الخارج» أنها لم تكن صدفة، وأنها عملٌ مُدبَّر و«مؤامرة»!
ومؤامرة النشر، كما ذكرت، مؤامرة تنافُس صحفي، مهما كان فهو مشروع.
أما المؤامرة الحقيقية فهي ما حدث بعد النشر.
مؤامرة، رغم خيالي الواسع، لم تخطر لي على بال أو خيال.
إذ كنت قد سافرت إلى أثينا في الأسبوع الثاني من شهر أبريل الماضي بدعوة من لجنة التضامن الأفريقية الآسيوية المصرية لحضور مؤتمر لمناصرة القضية الفلسطينية، يُعقَد في أثينا في الفترة من ٩ إلى ١٢ أبريل.
وعدت بعد أسبوع لأُفاجأ في اليوم التالي مباشرةً بمربعٍ ضخم في جريدة الأهرام تحت عنوان «من بريد القرَّاء»، مربع يحتل نصف الصفحة، وبطريقة تحريضية مباشرة يحتوي على إعلانَين؛ أحدهما عن سلسلة مقالاتي «البحث عن السادات»، والآخر عن كتاب الأستاذ محمد حسنين هيكل «خريف الغضب». والإعلانان كانا قد نُشرا في جريدة «الخليج» التي تصدر في الإمارات العربية المتحدة، والتي كانت قد أخذت على عاتقها أن تنشر مقالاتي وفصول كتاب هيكل، نقلًا عن جريدة القبس والوطن الكويتيتَين.
فوجئت بعدة أشياء:
- فأولًا: كان إعلان جريدة «الخليج» عن المقالات إعلانًا من النوع الذي تحفل به صحف الإثارة عندنا وفي الخارج، بل والإثارة المُبالَغ فيها التي تصل إلى حدِّ الاستفزاز الشديد، وقد أخذ الإعلان كلمات من جملة مقالاتي السبع، كلمات مُبعثَرة على طول صفحات المقالات المنشورة، ووُضعت بجوار بعضها البعض على طريقة اجتزاء الجُمل والفقرات، مثل: لا تقربوا الصلاة. والحق أن الإعلان أغضبني تمامًا.
- وثانيًا: ولكن الذي أغضبني أكثر في الحقيقة هو الطريقة التآمرية التي نُشر بها الإعلان؛ فأنا أعمل في الأهرام، والأهرام أكثر الجرائد احترامًا في مصر والعالم العربي، وقد كان جديرًا بالمسئولين عن التحرير فيه أن يعرضوا عليَّ الإعلان ويُعطوني أنا فرصة التعليق عليه، أنا نفسي، واستنكاره، أو إن لم أفعل يكونون قد قاموا بما يُمليه عليهم شرف مهنة الصحافة، وحينذاك يصبحون أحرارًا في نشر الإعلان والتعليق عليه.
-
ثالثًا: كان التعليق واضح الادِّعاء والتزوير؛ فقد زعم المُحرِّر (وقد ثبت أنه لم
يكن المُحرِّر الأصلي لباب بريد القرَّاء في الأهرام، ولكنه مدير تحرير
الأهرام الذي كان مسئولًا بعد سفر رئيس التحرير إلى الخارج) زعم المحرِّر
أنه تلقَّى مئات الخطابات تستنكر المقالات (التي لم تكن قد نُشرت في القبس
أو الخليج)، وأن مُرسلي بعض الخطابات قد قصُّوا الإعلان المذكور من جريدة
الخليج وأرسلوه إلى الأهرام.
وذكر «قارئ» كان واضحًا أنه ليس سوى مدير تحرير الأهرام مُتنكِّرًا خلف قارئ مجهول، ذكر أنني وصفت حرب أكتوبر بأنها تمثيليةٌ متفَق عليها بين السادات وإسرائيل وأمريكا، وهو ادِّعاءٌ كاذب؛ فليس في المقالات كلها كلمة تمثيلية، وليس فيها أي طعن في أداء الجيش المصري البطولي في أكتوبر، وكل ما فيها خاصًّا بحرب أكتوبر لم يكن سوى فقرة واحدة من المقال الثاني على هيئة تساؤلات حول طعنة الثغرة التي وُجهت إلى ظهر الجيش المصري وهو في قمة انتصاره؛ لتُتيح لإسرائيل وضعًا عسكريًّا تَعبُر فيه قواتها إلى غرب القناة وتُحاصِر الجيش الثالث، وتقطع الإمدادات عن مدينة السويس، وتنتشر داخل الأرض المصرية، وهو أمرٌ كان مُمكنًا تمامًا ألا يحدث لو كانت القيادة السياسية للحرب، المُتمثِّلة في شخص رئيس الجمهورية آنذاك والقائد الأعلى للقوات المسلحة أنور السادات، لو كان قد وافَق على ضرب رأس الجسر الذي أقامه الإسرائيليون، والذي كان الجيش المصري قد تدرَّب على ضربه، وخصَّص له اللواء ٢٥ المدرع، الذي لم يسمح السادات بإعادته من شرق القناة إلى غربها حين اكتُشفت الثغرة ليتولَّى القضاء عليها تمامًا. ولو كان هذا حدث لما اضطُرَّت مصر إلى دخول مفاوضات فض الاشتباك، ولحصلت على الجلاء الإسرائيلي الكامل عن سيناء دون التورط في اتفاقية كامب ديفيد الأولى، مما يجد القارئ له تفصيلًا في المقالة التي كتبها السيد حافظ إسماعيل، مستشار الأمن القومي المصري آنذاك، ونشرها بمجلة المصور في العدد ٣٠٧٥ (١٣ مايو ١٩٨٣م).
-
ورابعًا: اتَّضح في الأيام التالية أن هذا الإعلان المُزوَّر المُحرِّض في الأهرام ليس
سوى الخطوة الأولى والتمهيد المبدئي لعملية مُخطَّطة تمامًا ومُوزَّعة الأدوار؛ فقد فوجئت
في اليوم التالي بانعقاد المجلس الأعلى للصحافة، وما دار فيه من مناقشاتٍ كلها اتهاماتٌ
صارخة بأني قلت إن حرب أكتوبر «تمثيلية»، وإن هذا إجرام في حق بطولة الجيش المصري،
واستهتارٌ ما بعده استهتار بدماء الشهداء الأبطال، وكأنهم ماتوا وهم «يُمثِّلون»
الاستشهاد.
إعلان تنشره جريدة خليجية بطريقة مُثيرة عن سلسلة مقالات لي، ويُضيف له مدير تحرير الأهرام من عنده على لسان قارئ أنني فوق التساؤلات عن حقيقة دور السادات، قلت إن حرب أكتوبر تمثيلية. يجتمع المجلس الأعلى للصحافة، يأخذ هذا القول المُزوَّر على أنه حقيقة، ويُبنى عليها اتهام، ودون أن يسمع المجلس وجهة نظري، أو يحفل بأن يرى المقالات أو يقرأها ويرى إذا كنت حقًّا قد قلت هذا الكلام أم لم أقله، يخرج بإدانة صارخة لما كتبته وإدانة لي ككاتب.
وهذا الذي لم يحدث في بلاد الماو ماو، يحدث في القاهرة في عام ١٩٨٣م، وفي ظل ظروف انفراجة ديمقراطية، وفي ظل حرية صحافة.
ومع هذا … فقد حاولت أن أنشر تكذيبًا لما ذكرته الأهرام في الأهرام، فرفض مدير التحرير المذكور نشره.
وحاولت نشر التكذيب في كل الصحف «القومية» الأخرى، فرفضت جميعًا.
وحاولت الدفاع عن نفسي وإدانة قرار المجلس الأعلى للصحافة، باعتباره قرارًا باطلًا بُنِي على كلامٍ باطل، ودون أن يُسمَع لي رأي أو يقرأ أحدٌ ما كتبته.
وأيضًا رفضَت كل الصحف المصرية الحكومية أن تنشر لي حرفًا.
وبناءً على تزوير مدير الأهرام وإدانة مجلس الصحافة، بدأت حملةٌ ضارية من المقالات والاتهامات تتَّهمني بنبش قبور الموتى، وأني نافقت السادات حيًّا وهاجمته ميتًا، وأن السادات عالجني على نفقته، بل وأضاف رئيس تحرير «مايو» اتهامًا آخر من عنده، بأني كتبت هذه المقالات بأمر من القذافي، ونشرتها في جريدة «القبس» الكويتية، بل ووصلت الحملة الإرهابية إلى حد أن كاتبًا من كُتاب الأعمدة في جريدة الأخبار زعم أن مقالاتي وكتاب «هيكل» لم يُنشَرا صدفة، وإنما هما جزء من خطة دولية بتوجيه من موسكو لإفشال المفاوضات اللبنانية الإسرائيلية وإشاعة جو الفوضى في المنطقة.
وكل هذا يحدث دون أن يقرأ أحدٌ ما نُشر في المقالات، إنما كله مبني فقط على حكاية «التمثيلية» التي زوَّرها مدير الأهرام على لسان قارئ.
والحقيقة أن المفاجأة الكبرى كانت أول مايو؛ ففي صباح ذلك اليوم نشرت جريدة الأخبار موضوعها الرئيسي عني وعن كيف أني اغتلت نفسي بنفسي، وكيف أني انتهيت، وأن الأسى يُقطِّع قلب كاتب المقال (ثبت أنه موسى صبري) على ما وصلت إليه.
ولم أكن أتصوَّر أن كذبة بدأها مدير تحرير الأهرام ممكن أن تتضخم ككرة الثلج، وتتحول إلى «حقيقة» تدينني من أجلها كل الصحف الحكومية، بل و«تفبرك» خطابات من قرَّاء لأخبار اليوم تستهجن ما فعلته وتُطالب برأسي، ويُطالب كاريكاتير منشور في نفس الصحيفة الجيشَ المصري العظيم بأن يسحق هذا المُفتري على بطولته المجيدة في أكتوبر.
لكي يتصور القارئ مقدار ذهولي من هذه الحملة المُدبَّرة بعناية وإحكام، فليتصور أن جريدةً ما في مصر نشرت أنه (أي القارئ) يقول عن ثورة عرابي مثلًا إنها تمثيليةٌ متفَق عليها بين عرابي والخديوي والإنجليز. تستيقظ أيها القارئ من النوم فتجد اسمك مقرونًا بالتهمة، فتُحاول تكذيبها، فإذا بالجرائد كلها تتلقَّف الكذبة مقرونةً باسمك بالطبع، وتُحرِّض الناس والجيش والدولة وكلَّ وطنيٍّ يؤمن بالثورة العرابية عليك، ولا يُسمَح لك أبدًا بأن تنشر أن هذا كذب وأنك لم تقل، وحين تتفرَّع الاتهامات فيزيدون عليها بأنك قلت هذا الرأي في الثورة العرابية تنفيذًا لتعليمات رئيس دولة أجنبي.
وحين يحدث لك هذا أعتقد أنك، ما دمت مُطمئنًّا إلى الحقيقة وأن شيئًا كهذا لم يحدث، ستقول إنها مسألة حقد مهني، وإن الحق لا يلبث أن يظهر، وإن كل شيء سيتَّضح، وإنك ستأخذ حقَّك كاملًا من هؤلاء الذين حاولوا تشويه سمعتك وشخصك.
ولكن … حين تُحاوِل أن تُكذِّب وتُصحِّح فتجد أنك ممنوع من القول ومن الكتابة، وأن نشر الكذبة لم يكن إلا مقدمة بسيطة لخطة خبيثة مُدبَّرة لإقناع جماهير القرَّاء أنك قلت وفعلت وارتكبت كل ما يلصقونه بك؛ حينذاك تبدأ تغضب، وتبدأ تُحسُّ أنك مخنوق، وأنك وأنت الكاتب تُجرِّب أسوأ تَجرِبة ممكن أن يمرَّ بها إنسان؛ حرمانه من قول رأيه أو الدفاع عن نفسه. وهذا بالضبط ما كنت أُحسُّه حين بدأت أستمع إلى خطاب الرئيس محمد حسني مبارك في عيد العمال.
فقد كنت مؤمنًا أن رئيس الدولة بكل ما لديه من وسائل لمعرفة الحقيقة سوف يطَّلع على ما كتبته، وأنه سيُعيد هؤلاء الناس إلى رُشدهم، وسيضع النُّقط فوق الحروف، ويوضح تمامًا مسألة لقائي بالقذافي التي تمَّت في أواخر العام الماضي ١٩٨٢م، والتي كتبت بشأنها تقريرًا على هيئة خطاب أودعته مكتب الرئيس بعد عجزي عن لقائه.
كنت أستمع لخطاب الرئيس وأنا مُتأكِّد أنه سيوقف هذه الحملة الظالمة، وسيزجر من تسبَّبوا فيها من كُتاب وصحفيِّي الحزب الوطني الحاكم.
ولكن هذا للأسف لم يحدث.
«اتهم الرئيس حسني مبارك في خطابه يوم عيد العمال كاتبًا معروفًا هو الأستاذ يوسف إدريس اتهامًا خطيرًا، يُعتبر — حسب تعبير الكاتب — طعنة في صميم وطنيَّته وذمته وكبريائه، ومُجمَل هذا الاتهام أنه تقاضى خمسة آلاف دولار من الرئيس الليبي معمر القذافي ليكتب مقالاته التي نشرها في جريدة القبس الكويتية، والتي أُثير حولها الصخب والضجيج دون أن يطَّلع أحد عليها، ودون أن يُسمَح لكاتبها ببيان وجهة نظره.
وقد أنكر الكاتب الموجَّه له هذا الاتهام الخطير على لسان رئيس الدولة ما طُعن به، ونشر مقالًا بهذا المعنى في صحيفة الأحرار، وهي الصحيفة التي قال إنها قبلت أن تنشر له دفاعه عن نفسه بعد أن أغلقت الصحف المُسمَّاة بالقومية في وجهه، حتى جريدة الأهرام التي يعمل بها.
وصاغ الكاتب هذا المقال في صورة خطاب مفتوح إلى الرئيس مبارك بعنوان «إنني أتظلَّم منك إليك»، وأعلن فيه: «إن طعني في شرفي وعلى الملأ هكذا مسألةٌ أهوَنُ منها عندي حكمُ الإعدام؛ إذ إن طعن الكاتب في شرفه من رئيس الدولة إعدام، إنه حكم بالإعدام، وإعدام غير مُشرِّف.» وذكر أنه يجب الفصل بين مقابلته للقذافي التي أخطر الرئيس مبارك بعد عودته بما تمَّ فيها في خطاب سلَّمه لسكرتاريته الخاصة بعد أن عجز عن تحديد موعد لمقابلته، وبين ما كتبه في إحدى الصحف العربية نتيجة عدم إتاحة الفرصة له بالكتابة بِحرية في جريدة الأهرام التي يعمل بها. وقرَّر أنه ضحية مؤامرة كبرى من بعض الجرائد القومية وصحيفة «مايو» وعشرات الأقلام الخبيثة لتُؤلِّب عليه الرأي العام والقوات المسلحة ورئيس الجمهورية، وأنه كان كفيلًا بهم جميعًا لو أُتيحَ له أن يردَّ عليهم حيث يكتبون، أما حين يستغيثون بالرئيس ويُنصفهم ويخذله، فليس عليه إلا أن يتظلَّم منه إليه.
وقال بصراحة: «إذا كان بعض الناس وبعض الأجهزة قد وضعت أمام سيادتكم معلومات هي التي دفعتكم لهذا القول، فإنني لا أطالب فقط بردِّ اعتباري، وإنما أطلب وأُلحُّ أن يُحاسَب هؤلاء الأشخاص وتُحاسَب تلك الأجهزة.»
وهذا ما نُطالِب به، ويتلخص في إجراء تحقيق قضائي حول هذا الاتهام الخطير؛ إذ إنها سابقةٌ خطيرة أن تقدم اتهامات لشخصيات عامة أو خصوم سياسيين أو أصحاب الفكر وحملة الأقلام ضِمن تقارير مشكوك فيها، ودون أن تستند إلى أدلةٍ قاطعة لا بد أن تُعرَض على القضاء للتحقق منها قبل أن تُلطَّخ سمعة أحد من هؤلاء؛ لما ينطوي عليه ذلك من إرهاب فكري شنيع.
وإذا كان وزير الداخلية السابق النبوي إسماعيل قد لجأ إلى هذا الأسلوب بالنسبة لاتهام النائب السابق أحمد طه وآخرين معه بالتخابر مع دولةٍ أجنبية هي بلغاريا للتأثير على موقفه الانتخابي، وبالنسبة لاتهام المرحوم الدكتور المهندس محمود القاضي ونائب رئيس مجلس الوزراء السابق عبد السلام الزيَّات وعدد من الشخصيات السياسية ممن كانوا تحت التحفظ في سبتمبر المشئوم بالتخابر مع دولةٍ أجنبية أخرى وهي الاتحاد السوفييتي، ثم ثبت من التحقيق في الاتهامَين عدم صحتهما، فإن من الواجب وضعَ حدٍّ لهذه الأساليب البشعة، والمفارقات التي كنا نعتقد أنها انتهت بانتهاء عهد النبوي إسماعيل الذي يجب محاكمته عنها.»
وإلى هنا تنتهي كلمة جريدة الشعب.
والحقيقة أنني وأنا أجلس الآن، وشريط الأحداث يمرُّ أمام عيني، وأعود مرةً أخرى أعيش أحداث العاصفة الهوجاء الكاذبة المليئة بالرمل والتراب والقذى، الآن وبعد أن اتَّضحت حقائق كثيرة، واتَّضح للجميع أنني لم أذكر أبدًا كلمة تمثيلية، وأن لقائي للقذافي أو للرئيس مبارك لا علاقة له من قريب أو بعيد بما كتبته وما أكتبه، وأن الموضوع كله كان مؤامرةً حقيرة لاغتيالي ككاتب، والإيقاع في وقتٍ واحد بيني وبين رئيس الجمهورية، وبيني وبين قواتنا المسلحة البطلة، وبيني وبين قُرائي والشعب المصري بأجمعه، وأن هذه المؤامرة الدنسة إذا كانت قد فشلت تمامًا وارتدَّت إلى نحور أصحابها، فإني إذ أنشر نص مقالات «البحث عن السادات» لا أفعل هذا فقط لأنشر الحقيقة على الناس، وإنما لأطالب بعدها بمحاسبة كل مقامر أو مجرم اشترك في هذه المؤامرة.
فهي لم تكن مؤامرة عليَّ وحدي، وإنما أيضًا مؤامرة على قيادتنا السياسية وعلى رئيس الدولة ليجعلوه «يضرب» على الملأ كاتبًا وطنيًّا ليس في تاريخه شبهة اتهام أو حتى مجاملة لأحد؛ ليجعلوا من هذا الكاتب رأس الذئب الطائر الذي يُخيفون به المعارضة وكل إنسان مُخلِص يخطر له قولُ رأي في السادات وعصره يُخالِف رأيهم. وهكذا أقول مرةً أخرى: لقد بدا واضحًا الآن أن الرئيس السادات، وإن كان قد مات، ومات على هذه الصورة البشعة وكأنها صورة تنفيذ حكم إعدام في خائن، إن كان قد مات فإن العصابة الصحفية التي عيَّنها في حياته، واختارها بعناية لتُنافِق كل خطوة يخطوها، وكل تفريط في حقوق الشعب المصري يفرط به، وتُزيِّن للناس كل أخطائه على أنها مزايا، وتُفلسف تفريطه المهول في المفاوضات مع إسرائيل وأمريكا على أنه انتصارٌ ما بعده انتصار، واضح تمامًا أن هذه العصابة لا تريد أن تحمي السادات وسياساته، ومنها على سبيل المثال إدارته السياسية لحرب أكتوبر على تلك الطريقة المُغرِقة في تهافتها، بحيث ضيَّع علينا انتصار جيشنا العظيم في حرب أكتوبر، واضح تمامًا أنهم يريدون إغلاق الأفواه وعصب الأعيُن عن أن نرى ما فعله السادات بنا، مثلما كانت تُغلَق الأفواه وتعمى الأعين عمَّا يفعله أخوه عصمت وعائلته من نهب لم يحدث له مثيل في كل تاريخ مصر. ولولا أن عصمت السادات قُدِّم للمحاكمة بعد موت أخيه، لما كان أحد قد عرف أو تصوَّر كمَّ ونوع الجرائم التي ارتكبتها الأسرة الساداتية الحاكمة.
ولأني أعتبر أن جرائم عصمت السادات الذميمة والجنائية، رغم ضخامتها وبشاعتها، لا تُعَد شيئًا بجوار الجرائم السياسية التي ارتكبها السادات، فإني في هذه المقالات لم أكن أبحث عن سرقة هنا أو اختلاس لثروات هناك، لم أكن أبحث حتى عن اتفاقه مع الإسرائيليين على مشروع يُحوِّل لهم فيه ماء النيل فيما كان يريد تسميته «ترعة السلام»، التي لا تزال مواسيرها وبكمٍّ هائل موجودةً في الدلتا وبجوار قناة السويس، استعدادًا للتنفيذ، لا أتحدَّث في تلك المقالات عن الآثار المسروقة والمنهوبة والمباعة، ولا عن مشروع قصر العيني ولا جمعية الوفاء، ولا أي جرائم استغلال نفوذ؛ فهذا كله شيءٌ آخر غير ما هدفت إليه؛ فما هدفت إليه كان محاولة لرسم الدور الخطير الذي لعبه أنور السادات بالاتفاق مع الأمريكان وإسرائيل، وحوَّل به مصر من دولة مستقلة ذات سيادة إلى دولة تابعة خاضعة للنفوذ الأمريكي والإسرائيلي تمامًا، معزولة عن كل العرب والأفارقة، مطرودة من كل اجتماع عربي أو إسلامي أو عدم انحياز أو أفريقي، دولة منبوذة مُستباحة يكرها العالم كله إلا أمريكا الشريك الكامل، وإسرائيل المنبوذة هي الأخرى، بحيث تُشكل هي وجنوب أفريقيا ومصر السادات ثلاثيًّا مرفوضًا على مستوى العالم كله.
كان هدفي أن أرى ماذا حدث لنا، وكيف حدث لنا، ودور السادات فيه؛ فليس الفساد الاقتصادي ولا السرقات هي أبشع الأشياء، إن الفساد السياسي والجرائم السياسية أخطر بكثير من أي سرقة أو اختلاس؛ فهي جرائم في حق الشعب المصري كله.
•••
والملف لا يزال مفتوحًا.
وإن كان من فضل لتلك المقالات في البحث عن السادات وعصابة السادات، إلا أنها مع غيرها قد فتحت الملف السياسي الساداتي؛ ليعرف المصريون والناس جميعًا كيف غرَّر بهم في حربهم المجيدة مع إسرائيل، وإخضاعهم رغم أنفهم للسياسة الاستعمارية الأمريكية، بحيث يسلم الاستقلال العظيم الذي حصلت عليه مصر بثورة ٢٣ يوليو وكفاحها الوطني المجيد عبر مائتَي عام وتزيد، مرورًا بالثورة العرابية وثورة ١٩ وثورة ٤٦، يسلم هذا الاستقلال بمؤامرة لم يحدث لها مثيل، وبلا أي مقابل؛ ليُصبح محل عبث وتصرُّف إسرائيل والاستعمار الأمريكي.
إن جزءًا كبيرًا من تلك المؤامرة يكمن في إخفائها عن المصريين، وفي إبقاء عيونهم مُغلَقة عن أن ترى أيَّ وضعٍ رداهم فيه السادات بسياسته. وفي إبقاء وعيهم غائبًا مُشتَّتًا للحصول على القوت الضروري، مجرد الحصول على الغذاء والكساء واتقاء شر الحوادث والمصائب، بحيث يغيب الوعي ويضلُّ العقل، ولا يعود المُواطِن المصري يرى أو يهتمُّ إلا بأمور حياته وليومه هذا فقط.
وإذا كانت الخطة العظمى قد دبَّرت غزو لبنان وتشريد الفلسطينيين وإشغال العراق بالحرب مع إيران، والجزائر والمغرب بالبوليزاريو، والسودان بليبيا، وليبيا بتشاد، واليمن باليمن، والسعودية بالأوبك، وسوريا بالعراق والأردن وإسرائيل، والأردن بالفلسطينيين، فإن الخطة بالنسبة للشعب المصري هي إيهامه أن مصلحته العليا هي في نفض يده تمامًا عن العرب ومشاكلهم، وكأن خمسة ملايين مصري لا يعملون في الدول العربية، وكأن معظم الدخل المصري الخارجي لا يأتي على هيئة تحويلات من المصريين العاملين هناك، وكأن من الممكن تصوُّر وجود مصري «مستقل» عن العرب، أو وجود عرب مستقلين عن مصر.
تلك هي الكذبة الكبرى التي جعلَنا السادات بوسائل إعلامه نؤمن بها ونُصدِّقها، والتي آن الأوان للكشف عن محتواها الخبيث؛ فإن حصار الوجود المصري داخل حدود مصر الجغرافية هو إضعاف لمصر وخيانة لها، ولوجودها الحقيقي الكامن في امتداد نفوذها وعلاقتها إلى الدول العربية كلها؛ فهي بمثابة القلب لتلك الدول. وإذا خلَّصنا القلب من الجسم، فماذا يتبقَّى من قوته؟ إن قوته تكمن في الوجود داخل جسد حي يتفاعل معه ويُزوِّده بالدم الذي يضخُّه.
لقد عِشنا في تلك الأكذوبة الكبرى التي كان القصد منها إضعاف مصر إلى حد العدم، إلى حد عدم الفاعلية تمامًا، وشلِّها عن أن تؤدي دورها الطبيعي، ويكون لها حجمها الطبيعي، وعمل هذه الجريمة بدعوى «العيش في سلام ورخاء»، فأين هو السلام وثَمة ١٧ فِرقة إسرائيلية مستعدة ورابضة في صحراء النقب وكأنها المسدس المرفوع كي لا نُحرِّك قدمًا أو يدًا؟! وأين هو الرخاء والأسعار قد أصبحت نارًا موقدة ونحن في قمة «السلام»؟ بينما كانت أقل بكثير ونحن في قمة «الحرب» والاستعداد للحرب؟
إني لا أريد بهذا التعليق أن أكتب كتابًا آخر أبحث فيه خدعة «السلام» التي نحيا فيها، وخدعة نفض يدنا من العرب ومشاكل العرب التي جعلتنا ننعزل وننكمش داخل حدودنا يفترسنا غول الغلاء والمشاكل اليومية المُتكاثرة؛ فجزء من المؤامرة الكبرى لكيلا يفكر الشعب المصري في واقعه، وفيما دار من وراء ظهره، هو إشغال الناس تمامًا بأمور حياتهم اليومية ومتاعبها؛ حتى لا يبقى لديهم وقت لإعمال أي فِكر أو تأمُّل، وفي البقاء في حالة «التولة» التي كتبت عنها مرة في مُفكرتي بالأهرام.
•••
ونحن لا يمكن أن نعالج «التولة» بمزيد من التولة، إنما نعالجها بأن نفيق، بأن نصحو، بأن يستيقظ منا الوعي والعقل، بأن نعرف من يضحكون علينا ويُخدِّروننا ويخدعوننا، بأن نكشفهم، بأن نكشف لماذا يقفون تلك المواقف، ولماذا يُدافعون باستماتة عن عصر أدَّى بنا لما نحن في الآن.
•••
وإذا لم تكن تلك المقالات قد فعلت إلا أنها كانت شمعةً ضئيلة أُوقدت في الظلام الدامس، وأنها مع غيرها من الشموع والحقائق ستهزم جيوش الظلام، وحتمًا وعلى الضوء المُنهمِر المُتكاثر سنرى، وعلى النقاش مهما علا سنصحو.
إذا لم تكن قد فعلت سوى هذا، فأشكر الله أن هداني كتابتها ونشرها.
وحمدًا لله أني فعلت وأرضيت ضميري.
وأهلًا بكل نتائج إرضاء الله والضمير.
بقيت كلمةٌ أخيرة:
كان المنطق البسيط يُحتِّم أن تظهر هذه المقالات أولًا، وبعد هذا تتمُّ مناقشتها أو إدانتها. وليس غريبًا أن يحدث في عصرنا هذا العكس تمامًا، فتنشب معركةٌ صاخبة حول كلمة مُزوَّرة عن حرب أكتوبر، لا علاقة لها بالخط الأساسي للمقالات، ثم يكون آخر شيء أن يُنشَر نص المقالات كلها، بعد أن ينتهي الصخب المفتعَل وتُمطر السماء شتائم واتهامات.
إليكم المقالات إذَن، ولا أطمع في مناقشتها؛ فليس لدى كُتاب السادات عقول تُناقِش، وأي إنسان يحترم نفسه ويرى ما لا أراه يتحرَّج قطعًا أن ينضمَّ إلى القطيع الساداتي المأجور ويرى ما لا أراه في السادات، ولكنها شهادة أضعها أمام التاريخ، وأطلب من المواطنين جميعًا، حتى لو كان بعضهم قد خدعته الدعاية الأمريكية الساداتية، أن يجلس على مهله ويقرأها ويتأمَّل، ويُصدِر لنفسه حكمًا.
وفي نفس الوقت أتقدَّم بهذه المقالات إلى النائب العام والمدَّعي الاشتراكي مُطالبًا بالتحقيق معي في كل كلمة كتبتها، وشاكيًا في نفس الوقت كل أجهزة الدولة الرسمية والصحفية والإعلامية بما فيها رئاسة الجمهورية؛ للإهانة العلنية التي وُجِّهت لي دون تحقيق أو مُستنَد، طالبًا محاسبة هذه الجهات كلها عما اقترفته في حقي من ذنبٍ مهول.
وأنا راضٍ بحكم القضاء المصري العادل، وراضٍ تمامًا بحكم الرأي العام؛ فبعد الله والضمير ليس أجمل من رضاء الشعب العظيم.
القاهرة، يونيو ١٩٨٣م
هذا هو النص الحرفي للكتاب الذي أخذَت حقَّ نشره جريدةُ «القبس» الكويتية، ونُشِر على هيئة سبعة فصول فيها وفي صحف الخليج والأردن بعنوان: «البحث عن السادات».