السؤال المُـلِح
حتى والسادات لا يزال يحيا، كنت مثل الكثيرين غيري نعتقد أن حُكمه ذاك وما قام هو به والنتائج الهائلة التي ترتَّبت على مواقفه وتصرفاته وأفعاله، تُشكِّل فصلًا من أغرب إن لم يكن أغرب فصل في تاريخ منطقتنا كله.
ولنُنحِّ جانبًا كلمات الخيانة والعمالة والدور المخرب وعميل اﻟ «سي. آي. إيه»، وكل تلك الصفات التي أُطلقت عليه منذ البدايات الأولى لحكمه؛ فلا أعتقد أن حاكمًا عربيًّا آخر أو حتى أي حاكم في الدنيا قد ظفر بهذا الكم من الاتهامات.
لنُنحِّ الصفات أو الجرائم أو الاتهامات جانبًا؛ فما أكثر ما وُصف بها كثيرون غيره. لنُنحِّ حتى الصفات التي وُصفت بها أعماله، وأهمها مبادرة القدس وكامب ديفيد ومعاهدتَي السلام مع إسرائيل. لنُنحِّ هذا كله جانبًا.
ذلك أننا غرقنا في وصف التهمة والتهم، وغرقنا في أخذ ما حدث وكأنها جرائم «تمَّت» وصدرت فيها الأحكام، وكأن مصرع السادات وعلى تلك الصورة التي لم تحدث من قبل، لا في منطقتنا ولا في العالم كله، كأن مصرعه كان نهاية النهاية، وتنفيذ حكم الإعدام في «الخائن»، وإغلاق الدوسيه، وانتهاء الأمر.
فالأمر لم ينتهِ أبدًا.
والأمر في حاجة ليس لإعادة النظر، ولكن لرؤيا أعمق وأشمل، بحيث نرى السنوات العشر الماضية عن بعد ونضعها في منظورها الصحيح داخل تاريخنا الحديث، بحيث نرى أيامنا الحاضرة هذه نفسها ضمن ما كان؛ فالرواية لم تنتهِ بإطلاق الرَّصاص على السادات، والدوسيه أبدًا لم يُغلَق، والحاضر أهمُّ ألف مرة من كل ما فات، حاضر لكي نعرفه لا بد أن نعود نعرف ما فات، بعيون مفتوحة إلى آخرها؛ ففي ذلك الذي فات تكمن بذور وجذور وسيقان الحاضر.
وهكذا ظَلِلت منذ اغتيال السادات أفكِّر.
ما هذا الذي حدث؟ وكيف حدث؟ وهل السادات كان مجرد خاطئ كبير، أو آثم؟ بمعنى هل كان شخصه وأفعاله هي المشكلة كلها، أم إن التاريخ ليس مجموعة من أعمال أفراد عقلاء أو مجانين، بريئين أم مُجرمين؟ التاريخ أو بالأصح هذه الأزمنة التي نحياها لا تحدث المسائل فيها صدفة أبدًا. إننا في حقبة تاريخية تصنعها الخطط المُدبَّرة بعناية والمُنفَّذة بدقة، والتي في صميمها ومضمونها وتنفيذها تضع حساب الخطأ نفسه في التنفيذ لو حدث الخطأ، وتضع البدائل، وتحسب الحساب لكل شيء.
كان السؤال الذي ظلَّ يُلحُّ عليَّ هو التفريق بين دور السادات واتهاماته وبين بقية الأدوار والخُطط؛ فالسادات لم يكن على المسرح وحده، ولم تكن الأحداث كلها تدور في القدس أو مينا هاوس أو كامب ديفيد، بل إني بدأت أشكُّ أن جزءًا من «الكاموفلاج» الموضوع للعملية كلها أن تركز الأضواء جميعها حول بطل واحد من أبطال المأساة، وتُركِّز الضجة كلها حول مواقفه وخياناته، بحيث تتمُّ بقية الفصول بعيدًا عن الأضواء، وفي صمتٍ شِبه تام.