تسلسل الأحداث المتصادفات
ولنرقب الأحداث من جديد.
شعبية هائلة نالها ذلك الرجل بحيث أنست الأمريكان من هو، ومن يكون؛ فالمهم أن الأسطورة بدأت، وتكفَّلت آلة الإعلام الجهنمية الخاضعة تمامًا ﻟ «اللُّوبي» اليهودي بتصوير كيسنجر وكأنه أينشتين السياسة، فعلًا أوصلوه إلى مرتبة أينشتين الذي من شدة عبقريته لا يقف أحد طويلًا أمام كونه يهوديًّا. وهكذا وجد كيسنجر وأوجدوا له البساط الأحمر المحاط بالقلوب وبأساطير العلاقات النسائية (التي تجعله موضع إعجاب الرجال والنساء على وجهٍ خاص)، أشياء من الممكن أن تجعل الإنسان يكتب كتابًا عن «صناعة العباقرة» مثلما كتب أحدهم كتابًا عن «صناعة الرؤساء» في أمريكا.
فاليهود يستعملون هذه الأشياء لخداع الآخرين، أما هم أنفسهم فيكفيهم ممن يرأسهم أن يعمل دائمًا وأبدًا بمبادئهم، ويُحقِّق أهدافهم ومصالحهم، ولو بلغ بإيمانه هذا حد اتهامه بالتعصب والجنون، فمن أناس يُولدون التعصب ويرضعون التعصب ويضعون أنفسهم فوق كافة الجنس البشري، يصبح التعصب عند رئيسهم مِيزة وتفردًا، يصبح شيئًا مطلوبًا ومرغوبًا ومُستحبًّا، خاصة حين يبدأ يُملي على الآخرين رغباته «النابعة من رغبات شعبه» المُتعصِّبة للحق اليهودي «المُقدَّس»؛ ذلك التعصب «الجميل» الأعمى.
القدس هي العاصمة المُوحَّدة المُقدَّسة لإسرائيل، فرمان يُصدره الملك بيجن وبالقوة الساحرة الأكثر مفعولًا من كل قدرات سليمان وجنوده، تصبح القدس هكذا وعلنًا وأمام العالم كله. ضم يا ولد الجولان، تنضم الجولان. اضرب المفاعل في العراق واخرق ما شئت أجواء سوريا والأردن والسعودية، ينضرب المفاعل. هات السادات إلى القدس، يجيء السادات. اجعله هو الذي يركع ويطلب العفو والسلام، يتم هذا ويتحقق. فحتى لو لم يكونوا يهودًا أو مُتعصِّبين، أفهناك شعب في الدنيا لا يؤيِّد ويتحمَّس «لبطل» مثله يُحقِّق لهم كل يوم انتصارًا؟!
وهكذا كان على منطقتنا العربية، وقد أُعدَّ لها المسرح والأبطال الثلاثة كيسنجر والسادات وبيجن، أن تشهد فصلًا من تاريخها لو كتبه روائي أو مسرحي لما تمَّ بهذا الإتقان، ولتصوَّر الناس أن المؤلف جامح الخيال مخبول.
ولأن هذه الدراسة ليس هدفها كشف وتمحيص المعسكر الآخر، معسكر الأعداء، وإنما الهدف الرئيسي منها أن نتفحَّص معسكرنا نحن وما جرى فيه، والبطل في تلك الرواية الهزلية المأساوية الكبرى أنور السادات؛ لأن هذا هو الهدف، ولكن لأن هناك تداخلًا بين معسكرنا والمعسكر الآخر، أو بالأصح سيبدو واضحًا أن هناك نقطة وربما نقاط التقاء، فلا بد من لمحة سريعة نستكشف بها الآخر لتعرف حجمه ووزنه وفاعليته، ليس فقط في قيادة جانبه، وإنما، وهذا هو الأهم، في التأثير على جانبنا نحن. والحق أن «الأبطال» كثيرون في المعسكر الآخر، ولكننا سنُركِّز على قطبَين منهم باعتبار أن كلًّا منهم لا يُمثِّل نوعه فقط، ولكن يُمثِّل «مرحلة» من مراحل تطوُّر ذلك المعسكر الآخر ونموه.
ولنبدأ بالقطب الأول بيجن:
قلت ذات مرة في «مفكرتي» إنني مع آلاف الأحداث الصغيرة والكبيرة، بتوقف عندها مرَّات ومُتأمل لكلٍّ منها على حدة، ثم مُتأملها مجتمعةً، بدأت أستنُّ لنفسي قانونًا، ما طبَّقته بعد هذا إلا ووجدت أنه ينطبق بكل دقةٍ، ذلك القانون هو أن لا شيء في منطقتنا يحدث صدفة أبدًا، وإنما كل شيء يحدث بتدبير. لا أقول بمؤامرة؛ فليس أسهل لدينا من استعمال تلك الكلمة، مؤامرة، ولا شيء أكثر منها تضليلًا؛ ذلك أنها تدفعك للتصور أن أعداءنا يُحاربوننا بالمؤامرات؛ أي بتدبيرات مُنفصلة كلٌّ منها واقعة دُبِّرت، هذا صحيح، ولكن لتُحقِّق هدفًا واحدًا ما، ولكنَّ أعداءنا للأسف ولسوء الحظ لا يُحاربوننا «بالقطعة»، بل هم لا يُحاربوننا أبدًا، إنهم أحيانًا يلعبون لعبة الحرب ونُسمِّيها مرةً مؤامرة العُدوان الثلاثي، ومرةً مؤامرة الانفصال، ومرةً مؤامرة هذا الانقلاب أو ذاك، أما هم فالمسألة بالنسبة إليهم مسألة «خطة»، تخطيط شديد البراعة له أهداف بعيدة المدى تتحقَّق عن طريق تحقيق أهداف قريبة المدى، بل تصل بهم البراعة في أحيان لأن «ينهزموا» أمامنا مرة، أو يَبدُون أنهم ينهزمون ونُحسُّ نحن أننا انتصرنا، ونبني على «انتصارنا» هذا احتمالات وتحليلات واستنتاجات، ويتركوننا هم نفعل هذا (إذ هو داخل في اعتباراتهم وحساباتهم) في حين ينصرفون هم لتحقيق بقية التخطيط.
مرةً أخرى أعود فأقول أن لا شيء في منطقتنا أبدًا يحدث صدفة، ومن لا يُصدِّق هذا عليه فقط أن يضعه في حسبانه ثم يعود بذاكرته إلى الأحداث ويتأمَّلها، ويتأمل حتى، وعلى هدى ما فات، الأحداث الجارية الآن؛ ليتأكَّد أن افتراضنا مائة في المائة صحيح. إنني مُتأكد الآن أن اجتياح لبنان مثلًا لم يتم التدبير له عقب معاهدة كامب ديفيد، إن تدبيره قد تمَّ قبل حرب ٧٣ وقبل المبادرة، بل إن المبادرة نفسها سيُثبت التاريخ أنها لم تكن فكرة عبرت بخيال «المرحوم» والطائرة تُحلِّق به فوق سماء تركيا ذات يوم من أيام عام ٧٨، أثناء عودته من ألمانيا أو رومانيا لا أذكر، لا شيء أبدًا يحدث صدفة.
ومجيء بيجن أبدًا لم يكن صدفة.
وحين كانت الأنظمة العربية، وعلى رأسها «النظام الناصري»، تبدو في عين العالم وحتى في عين العرب أنظمة ديكتاتورية، كان على إسرائيل أن تبدو تمامًا على النقيض من تلك الأنظمة، فتجعل حزب العمال (الليبرالي قليلًا، الاشتراكي الديمقراطي) هو الحاكم؛ ليرى الدنيا والعرب الفارق الحضاري والسياسي بين العرب (الطغاة) وبين الإسرائيليين «الديمقراطيين». وبالطبع كان هذا الفارق فارقًا ظاهريًّا تمامًا، مثل وضع موشى ديان هاوي الآثار المثقف العالم، الذي يتكلم العربية أمام عبد الحكيم عامر القادم مسطولًا من «أسطال» الذي لا يبدو أنه قرأ في حياته كتابًا، ولكن المجتمع العسكري العنصري المهووس كان هو نفسه لم يتغيَّر، لا أيام حكم حزب العمال الإسرائيلي، ولا أيام حرب ٧٣، ولا حتى حين «بدا» أنه خسر الحرب في أولها.
ولكن …
حتى وإسرائيل قد خرجت من الحرب باتفاقيتَي فض الاشتباك، وبانتصار أكبر هو اكتشاف السادات، أو بالأصح الكشف الكيسنجري عن هُويَّته، حتى وإسرائيل قد خرجت بهذا الانتصار الضخم، فلم ينسَ واضعو ومُنفِّذوا الخطة العظمى أن حكم حزب العمل الطويل بديمقراطيته الظاهرة قد بدأ يُغيِّر قليلًا من طبيعة هذا المجتمع الذي لا بد — للوصول إلى الأهداف الثابتة — أن يبقى المجتمع المُستفز المُقاتل المُلتف حول طبيعته العنصرية.
وهكذا من ناحية إسرائيل، كان لا بد من مجيء كتلة الليكود بقيادة بيجن بالضبط على النسق الذي جاء به هتلر ليحل محل النظام القيصري عقب هزيمة ألمانيا في الحرب الأولى، قائدًا مُتعصبًا جديدًا بحزب نازي مهووس بمركَّب السُّمو والتفوق الجرماني؛ ليُحقِّق ما عجز عن تحقيقه النظام البرلماني القيصري.
وأيضًا من ناحية العرب فقد وضح أن أنظمتهم — بعد موت عبد الناصر — قد بدأت تميل إلى أن تفك قبضاتها قليلًا عن شعوبها، وتدخل نوعًا من «الديمقراطية» لتكتسب لدى شعوبها شرعيةً كان يكتسبها نظامٌ فردي كنظام عبد الناصر بمواقفه المثالية.
وهكذا في مُقابل الأنظمة الديكتاتورية لدينا كانوا يُواجهوننا بنظامٍ اشتراكي ديمقراطي؛ فلما بدأنا نُنادي بالاشتراكية الديمقراطية (سمَّاه السادات عصر الانفتاح) كان لا بد أن يُواجهونا بنظامٍ مُتعصِّب يُعتبر بكل المقاييس نظامًا «فاشيًّا»، وإن بدأ في الظاهر «كنيستيًّا» حافلًا بالمعارضة والحياة الحزبية.
جاء بيجن لينقل المجتمع الإسرائيلي خطوةً أخرى، المجتمع الذي استولى على أراضٍ عربية شاسعة في حرب ٦٧، وكان يحتفظ بها احتفاظ اللص بما سرقه أو اختلسه، ويحلم بتملُّكها، ولكن كانت تنقصه شجاعة أفَّاك وقح، شجاعة رجل مثل بيجن، له من الصفاقة حد يستطيع أن يُسمِّي به عُداونًا صارخًا كالذي حدث في ٦٧ «حربًا دفاعية مُقدَّسة». وبهذا المنطق يدَّعي ملكية أي أرض تؤمِّن الوجود الإسرائيلي وتمنع عنه أي عُدوان مُباغت.
وهكذا جاء بيجن.
ولقد استوقفتني أكثر من مرةٍ تلك «القصة» التي كان يحلو للسادات دائمًا أن يُردِّدها، قصة أنه حين استوَت فكرة التفاوض مع إسرائيل ذهب إلى شاوشيسكو رئيس رومانيا خصوصًا ليسأله هذا السؤال: هل بيجن شخصٌ شجاع من الممكن أن يُنفِّذ وعوده؟ وحين أجابه شاوشيسكو «بلى إنه رجلٌ ملء وعوده»، هكذا وبمنتهى البساطة، وفقط بهذا الرد المُوجَز، آمَن السادات على الفور بقدرة بيجن، وقرَّر أن يمضي قُدمًا في تنفيذ خطة المبادرة.
لفت نظري كثرة تَكرار السادات لهذه القصة، مع أنها تبلغ في سذاجتها درجة الإضحاك. أممكن أن يُقرِّر رئيس دولة عاقل، ولتكن دولة الماو ماو، وقائد عسكري عربي هائل، يُقرِّر رئيسٌ مثل هذا أن يصطلح مع دولة مُعادية، وأي عداء، عداء عنصري رهيب، وأن يجرَّ بلاده ومعسكره إلى علاقة سلام بعد حرب، وتطبيع بعد عداوة، وصداقة بعد بُحور من الدم؟ أيمكن أن يفعل هذا كله فقط لمجرد أن السيد شاوشيسكو قال «نعم بيجن يفي بوعوده»؟
لفتت نظري القصة وتَكرارها، والسخرية بها بيني وبين نفسي، بل بيني وبين الآخرين، ولكن كثرة تردادها جعلتني أتأكَّد أن السادات يريد بها أن يُغطي شيئًا ما، ولمَ لا يكون الأمر العكس تمامًا؟ وهو أن السادات لم يُبادر بالذهاب إلى القدس والتفاوض مع إسرائيل إلا بالذات لأن بيجن كان هناك؟
بمعنًى آخر، لم يفكر السادات بالذهاب إلى القدس أولًا، ولم يبقَ عليه ليذهب إلا التأكد من صدق بيجن، لمَ لا يكون الأمر العكس، وأن تكون المبادرة كانت هناك أولًا (على الأقل في عقول المُخطِّطين)، وأن بيجن جاء «ليُحقق» المبادرة؟
أي إن الذي وقع أولًا هو المبادرة، أو بالأصح التفكير الجدِّي في تنفيذها، وكان على إسرائيل حينذاك أن تختار جانبها المفاوض؛ «فنجح» الليكود في الانتخابات، و«جاء» بيجن، وبتواجد الطرف المُناسب لم يعد أمام السادات إلا أن يُطلِق الطلقة الأولى و«يُبادِر» إلى القدس.
أقول هذا لأني مُتأكد أن بيجن لم يأتِ أبدًا صدفة، وإنما جاء لأن هناك وضعًا كان يُحتِّم تغيير الأحصنة الإسرائيلية، وضعًا لا بد فيه من «صقور»، صقور لماذا والحرب انتهت؟ صقور لأن حربًا ضروسًا كانت توشك أن تبدأ وقد أُعدَّ لها المسرح، حرب الدخول في فندق التسليم والتسلم والمفاوضات، وتلك في حاجة إلى عقولٍ عمياء بالتعصب والعناد، ليست جولدا مائير أو أبا إيبان أو أشباههما هم الذين يمتلكونها.
لم يكن مجيء بيجن إذَن صدفة.
وأيضًا لم يكن مجيء كيسنجر.
وفوق ما ذكرنا من أمر صناعة «العبقرية»، وتلميع من يريدون تلميعه، فلا ننسى أبدًا أن أمريكا، أو إذا شئنا الدقة الحضارة الأمريكية «إن جاز هذا التعبير»، هي أول حضارة في التاريخ «تصنع» الشخص العام سواء أكان نجمًا أو نجمة في هوليود أو «عبقريًّا» من العباقرة.
أوروبا فعلًا لم تكن تصنع نجومها بالدعاية وبالأخبار وبالحكايات، كان المُمثِّل الأوروبي أو الراقصة تصنعه أو تصنعها موهبتها الفذَّة فقط. سارة برنار لم يكن وراءها جيش من مُحرِّري الأخبار الفنية والمقالات المُدبَّجة بأجر، والصور المُنتقاة وقصص الغرام المُلفَّقة كانت عبقرية مسرحية فذَّة؛ بهذا وصلت مكانتها. في العالم الجديد اكتشفوا أن باستطاعتهم — بدلًا من انتظار ظهور المواهب — صناعة المواهب، يخرج الإنسان الأمريكي باكتئابٍ أصابه من الحرب، فيخلقون له ريتا هيوارث وجلين فورد وفان جونسون، يملُّ الكلاسيكية فيخلقون له جيمس دين ومارلون براندو، يهفو إلى جنس من نوع آخر فيصنعون له مارلين مونرو، وهكذا.
فن صناعة وتلميع وتقديم العبقرية هو واحدٌ من أكثر الصناعات الأمريكية أمريكية، وصحَّ من قال وأشاع «ده شغل أمريكاني»، نقولها ونحن نعني بها نوعًا من «البكش أو التهويش» المُتقَن تمامًا، المُتقَن إلى حدٍّ لا يستطيع معه الإنسان العادي أن يُفرِّق بينه وبين الحقيقي أبدًا.
ولكن كيسنجر ليس رجل شارع، ولا مجرد أستاذ جامعة، كيسنجر مُكتشِف، ومُكتشِف حقيقي، وصاحب نظرية ثبت في كثير من الأحيان بعد هذا نجاحها. إنه الرجل الذي كتب كتابًا تلقَّفه أصحاب النظام الأمريكي الرأسمالي الحقيقيون، وكأنه هبةٌ هبطت عليهم من السماء؛ ذلك أن بقية الإمبراطوريات، بما فيها آخرها الإمبراطورية البريطانية، كانت تمشي بمنطق أنها لا تصنع التاريخ، إنها تريد أهدافًا، وأنها تنتظر الفرصة ليحدث حدث من الأحداث، وحينذاك فقط تتدخل الإمبراطورية وتلوي عنق الحدث ليصير في صالحها أو لتستخدم نتائجه في صالحها، أو لتحقيق هدفها القصير المدى. أما هذا المُكتشِف «كيسنجر» فقد اكتشف أن انتظار أهداف التاريخ نوع من تضييع الوقت، وأن التاريخ يمكن صناعته، تمامًا كما تُصنَع النجوم والعبقريات والرؤساء، أو بالأصح بدلًا من انتظار الأهداف لتقع ونلوي عنقها أو نظفر بنتائجها ونُسخِّرها لصالحنا، نصنع نحن أو نصطنع الأحداث ونجني ثمارها في التوِّ واللحظة، تمامًا مثل تصنيع اللؤلؤ في اليابان، بدلًا من انتظار المحارة لنظفر بها — المحارة التي تحتوي على اللؤلؤة الأصلية — تائهة بين آلاف المحار، نصنع نحن المحار في حوض من السلك، وندخل — صناعيًّا — ذرة رمل داخل كل محارة، وفي خلال أشهُر قليلة نظفر من كل محارة بلؤلؤة، لؤلؤة حقيقية، ولكنها من صنعنا نحن هذه المرة، أو بالأدق من اصطناعنا، لم ننتظر قانون الصدفة ليعمل عمله، صنعنا أو صنَّعنا الصدفة. وبما أن التاريخ هو مجموعة أحداث ضخمة، وبما أن الحدث الواحد الضخم هو مجموعة أحداث، فبخلق الأحداث الصغرى ممكن أن نخلق الحدث الأكبر، ونخلق مجموعة من كُبريات الأحداث، ممكن، بل من المؤكد، أن تحول مجرى التاريخ.
وبما أننا سنصنع الأحداث الصغرى، وبالتالي الكبرى، لتخدم مصالحنا، ونخطط لها ونعمل حساب كل هفوة، بحيث لا يمكن أن يفلت الزمام منَّا وتذهب ثمار الحدث لخصومنا، فممكن إذَن أن نُحوِّل مجرى التاريخ الآتي كله بحيث تعمل كل وقائع التاريخ القادم بإشارة منَّا، ولمصلحتنا فقط.
جاء كيسنجر إذَن في وقت بلغت فيه الرأسمالية الأمريكية حدًّا من الجشع جعلها تعتمد اعتمادًا كليًّا على جهاز استخباراتها في الاغتيال والمؤامرات وقلب أنظمة الحكم لصالحها، جشع أصبحت معه لا تحتمل الصبر قِبل أي واقع ضدها، وفي حاجة ماسَّة إلى أن يُنقذها مُنقِذ من حتمية التاريخ أو الحتمية التاريخية. فيا له من مُنقِذ ذلك الذي اكتشف لها أنها من الممكن أن «تصنع» هي التاريخ بأقل قدر من الأيدي القذرة، وبفاعلية أكثر، وضمانٍ أكيد للنتائج.
وما أعجب ما كان يمكن أن يقوله صاحب المادية التاريخية «كارل ماركس» عن المرحلة الكيسنجرية في الرأسمالية، غالبًا كان يُسمِّيها مرحلة «وصول الرأسمالية إلى الحد الذي بدأت تتدخل فيه في التطور التاريخي الحتمي، وتُغيِّر في كروموسومات أجنَّة الحاضر والمستقبل، بحيث تنشأ أوضاعٌ تاريخية جديدة لم تعرفها البشرية من قبل؛ لأن البشرية من قبلُ لم تُفكر في صنع التاريخ أو تحويل مجراه»، ولكن كارل ماركس أيضًا كعادته كان لا بد أن يُضيف: «ولكن هذا التزوير التاريخي أو تحويل مجراه، إنما بالضرورة ورغم أنه يعمل في صالح الرأسمالية، هو كالذي يُعجِّل بنهايتها سواءً بسواء؛ فإن اختصار الزمن سيُعجِّل بتكاثر المتناقضات وتراكمها بحيث يُسرِع أكثر في عملية التغير النوعي من الرأسمالية إلى الاشتراكية.»
ولكن كيسنجر الذي جاء بنظرية إمكان صنع التاريخ، التي كان أحد تطبيقاتها أنه لا بد لأي مشكلة حتى تُحَل من ضرورة «تسخينها» ليَسهل حلها. هكذا «سخَّن» الوضع في فيتنام تمامًا بالغارات الوحشية التي لم يعرف لها التاريخ مثيلًا على ميناء هايفونج وغابات فيتنام وكمبوديا، لا ليحسم المفاوضات الدائرة في باريس كما خُيِّل للبعض، وإنما ليصنع ما هو أدهى؛ ليجعل الرأي العام الأمريكي «يصرخ» من وحشية ما يُحدِثه الجيش الأمريكي في فيتنام، بحيث يُقرِّر الرئيس الأمريكي الجلاء عن فيتنام الجنوبية نفسها وإنهاء الحرب يتنفَّس الرأي العام تنفُّس المُستريح الذي «انتصر». أين هذا من انسحاب «بارد» من فيتنام كان لا بد سيجعل الرأي العام ينقضُّ بوحشية الشعوب حين تُدرك أنها هُزمت، على من هزموها، على كل مسئول عن الحرب والدخول في الحرب وما حدث في الحرب. أما أن تنسحب أمريكا على هذا النحو «الاختياري» وبعد صراخ من «ضميرها» العام، فشيءٌ مُختلِف تمامًا. وهو أيضًا واضع استراتيجية وتكتيك حرب ٧٣ لتسخين الموقف بين إسرائيل ومصر بالذات تمهيدًا لصلحٍ تامٍّ مُنفرِد بين البلدَين. والكيسنجرية لا تزال سارية حتى بغير كيسنجر، أو ربما به من وراء ستار؛ فما حدث في لبنان كله ليس سوى عملية تسخين إلى درجة الحريق العارم تمهيدًا لأتعس حل للقضية الفلسطينية.
هذا هو كيسنجر، أستاذ الجامعة، الذي تلقَّف أصحاب أمريكا الحقيقيون نظريته تلقُّف الملهوف، وتلقَّف «اللوبي» اليهودي أيضًا نظريته تلقُّف المسعور؛ فالاستراتيجية التعصبية الصهيونية التي تسعى لحكم العالم من خلال حكم الدولة القوية الوحيدة التي تحكمه رحَّبت بكيسنجر؛ لأنه سيُمكِّن أمريكا من هذا أولًا، وثانيًا لأنه هو أيضًا جزء من «اللوبي»، وسيكون بداية ليس فقط لأن يعمل اللوبي من وراء ستار، ولكن أيضًا — وهذا هو المهم — أن يحكم علنًا، وعلى الملأ، وبنفسه هذه المرة، يحكم الدولة التي تحكم العالم.
وهكذا كان لا بد من قصةٍ محبوكة يصعد بها كيسنجر من أستاذ في هارفارد إلى أعلى منصب في أمريكا، منصب الرئيس الفعلي، بحيث حين يتقوَّض نيكسون يصبح كيسنجر هو فعلًا الحاكم، سواء كان كيسنجر بذاته أو بنظريته.
وهذا هو بالضبط ما حدث.